الأهبل

بقلم: عيسى قراقع

الأهبل يقرأ صحيفة القدس يومياً، ما أصعب الصفحة الأولى، صفحة حرب حقيقية تكثف في عبارات أو كلمات سوداء، وما تحت العناوين والأخبار دماء وشهداء وتوتر، وتظل الأعصاب مشدودة ومستنفرة، ويومياً ترى الاحتلال بوضوح من على وجه هذه الجريدة.

الأهبل يقرأ: إصابات بالرصاص الحي والمعدني واختناقات بالغاز في المسيرات ضد الاستيطان، والإعلان عن بناء 3000 وحدة استيطانية في مستوطنة غيلو و123 وحدة في مستوطنة بسغات زئيف، يختنق الأهبل وهو يبحث عن مكان يمر منه الهواء إلى رئتيه دون غبار وصدى صوت جرافات.

الأهبل يقرأ: حارس إسرائيلي يعمل في بلدية القدس يشطب اسم السيد المسيح الذي كتب على حجر تاريخي في مبنى المدينة، فيتساءل كم مرة يصلبون اليسوع؟ لا زالت الأجراس تدق في ساحة الميلاد، الخوف على المذود والنجمة وعسل التاريخ في خبز البيت والبرهان.

الأهبل يقرأ: وزارة التعليم الإسرائيلية تستدعي مديرة في مدرسة أم الفحم بسبب أغنية دمي فلسطيني، يفور دم الأهبل، لا سلام في المدرسة الإسرائيلية، التطرف والعنصرية والحقد على الآخرين، لا خط أخضر ولا علم فلسطيني، البحر صار لهم و”الدلعونا” صارت لهم، ولا زالوا يلاحقوننا في المناهج والأناشيد.

الأهبل يقرأ: والدة الأسير تامر قديح سكان خانيونس تلتقيه لأول مرة منذ 12 عاماً، وزوجات وأمهات الأسرى المؤبدات يقلن: “ليس بعد الليل إلا فجر مجد يتسامى”، يتحسس الأهبل قيوده، ينظر من زنزانته المعتمة، لحم بشري على الحيطان، سعال ودم وجوع وشمس تطل من بعيد.

الأهبل يقرأ: إسرائيل تعيد حكم المؤبد بحق المسن الأسير يوسف أبو الخير 72 سنة، سكان عكا بعد 34 عاماً من إطلاق سراحه عام 1983، ويضيف الأهبل إن 54 أسيراً آخر أعيد اعتقالهم والأحكام السابقة عليهم، إنها دولة قراصنة، خطفت المحررين، وشرعت قوانين تعسفية، لم تناقشها هيئة الأمم المتحدة ولا برلمانات العالم، المؤبد يتغلغل في الحياة، وما حولنا نفوس صامته أو ميتة.

الأهبل يقرأ: المحامي عكة يقول إن شهر أيلول الماضي هو الأسوأ على الأطفال الأسرى، ومطالبات بإنقاذ حياة الأسيرين خالد الشاويش وسامي أبو دياك، وقد رأى الأهبل بأم عينيه حملات الاعتقالات الواسعة للقاصرين، لا أحد منهم إلا ويدان مسبقاً، لا أحد منهم إلا ويتعرض للضرب والتعذيب، هي حرب على الطفولة الفلسطينية، أطفال يكبرون بسرعة بين الحديد والحديد، ومرضى يموتون ببطء، امتلأت أجسامهم بالأمراض، معلقين بين الموت والحياة ، لا طبيب ولا نعش ولا دواء.

الأهبل يقرأ عن حلول الذكرى الـ 37 لرحيل الشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، يستعيد غضبه الملتهب، وكم نحن بحاجة إلى ذلك الغضب وهو يقول:

انشر عن لهب القصيد

شكوى العبيد إلى العبيد

شكوى يرددها الزمان

غدا إلى أبد الأبيد

الأهبل يقرأ: تواصل اقتحامات المستوطنين للأقصى وتصاعد الاعتداءات في الضفة، ومستوطنون يقتحمون الأقصى وبرك سليمان ومناطق أثرية في سبسطية وقراوة بني زيد، ومستوطنون يسرقون ثمار الزيتون جنوب نابلس، يرتجف الأهبل إنها دولة مستوطنين حاقدين، فالأرض والشجر ودور العبادة مستباحة لهم تحت غطاء جيش الاحتلال، دماء كثيرة، أرض تتوجع، صلاة لا تكتمل.

الأهبل يقرأ: الطفل الأسير الجريح هيثم جرادات في وضع صعب، والأسير معاذ عبد ربه يشتكي من معاناة نقله في البوسطة، واعتقال خمس أطفال في الخليل، الأهبل يجلس على الكرسي الحديدي في سيارة البوسطة داخل القفص، قوات النحشون تنهال عليه ضرباً، رحلته من السجن إلى المحكمة تستغرق عشر ساعات، لا طعام ولا ماء، يشعر أنَّ الشعب الفلسطيني منذ خمسين عاماً محشورًا في سيارة بوسطة إسرائيلية تنقله من مكان إلى مكان مهاناً ومذلولاً، ولم يصل إلى أي مكان.

الأهبل يقرأ: الاحتلال يستهدف المزارعين ورعاة الأغنام على حدود غزة، والطائرات بدون طيار تلاحق الفلسطينيين من سبع اتجاهات، وقصف مدفعي إسرائيلي على غزة، وملاحقة الصيادين في بحر القطاع، تذكَّر الأهبل ما قاله محمود درويش: الزمن في غزة شيء آخر، الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة ولكنه يجعلهم رجالاً في أول لقاء مع العدو، إنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة.

الأهبل يقرأ: الشاعر فوزي البكري صوت الفقراء والمهمشين يحذر من تفريغ القدس القديمة وهو يصرخ في الساحات:

ماذا في بيت المقدس

غير الألم وغير الفقر وغير الجوع

ماذا في بيت المقدس

غير الأقصى

بيتا لمساكين الأرض المحتلة مرفوع

الأهبل يقرأ عن حلول الذكرى 36 لاستشهاد الكاتب والقائد ماجد أبو شرار، يفتح الأهبل قصة الخبز المر، يتابع حكاية العامل الشقي أبو خميس الذي يعمل في منجم فوسفات ليعيل أسرته، يصاب بالسل، يتمنى بحرارة أن لا يموت، لكن المرض بدأ ينتصر ونوبات السعال ملأت القصة ورغيف الخبز، ولا زال العمال يصطفون طوابير طويلة أمام الحواجز الإسرائيلية.

الأهبل يقرأ عن الصفقة الكبرى، صفقة السلام والمفاوضات، وقد صادق نتنياهو على بناء 3829 وحدة استيطانية في الضفة تتويجاً لهذه الصفقة القادمة، العدوان القادم، المتنمرون الإسرائيليون والشبيحة المستوطنون يعلنون طقوس السلام العادل، التحكم والسيطرة وتعميق الاحتلال، والاحتفال بالاحتلال والاستيطان ومواصلة القتل، الموت الداخلي هو المطلوب بعد أن مات الشجر وجرف وشوه جسد الأرض.

الأهبل يقرأ ويقرأ، لم تنته الصفحة الأولى من جريدة القدس، شعر بالإرهاق وبالتعب، الجريدة تطلق عليه الرصاص، الجريدة تعتقله وتقيد يديه، الجريدة تطرده خارج الدنيا، الجريدة تستفزه، تشعره بالعجز، لن يقرأ المقالات في الصفحات الأخرى، لا يريد أي تحليل أو فلسفة فكرية، الأهبل جريح، تسيل منه الدماء، يجري في شوارعنا، يجلس على الرصيف، يشعر بالبرد والجوع، هناك شيء في داخله يموت ببطء، هناك جندي إسرائيلي يضع مسدساً على رأسه، الأهبل يستفيق، يجد نفسه معدوماً أو سجيناً أو لاجئاً مطروداً، يتحدث مع نفسه، تشتعل بين يديه الجريدة.

الأهبل يقف أمام غرفة الإنعاش بالمستشفى، أمه في الداخل في غيبوبة، تذكر آخر ما قالته له عن سيرة قوم بني هلال، وسباق العشاق للفوز بسعدى، الجميع قتلوا، وصارت سعدى وحيدة، ما أروع الوحدة الوطنية، ما أصعب أن تكون يتيماً وحيداً أمام هذه الجريدة.

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا