خطاب القرن!

بقلم: ابراهيم ملحم

بصراحة صارخة جارحة، لا تعوزها الجرأة، ولا المكاشفة، ولا الوضوح، خاطب الرئيس محمود عباس من على أرفع منبر أممي، قلوب الامم وعقولها، بكلمات لامست الضمائر الظاهرة منها والمستترة، وحتى تلك المتستِّرة على أوجاع الفلسطينيين وعذاباتهم، في جردة حساب لقرن مضى من المعاناة، والعذابات التي بدأت بوعد من لا يملك لمن لايستحق، وهو وعد حان وقت تقديم الاعتذار عنه للمعذبين، وتحمُّل الاكلاف المادية، والاخلاقية لنهر العذاب الذي لم يتوقف بعد عن الجريان.

في جردة الحساب الطافحة بالمرارة، والألم، وخيبات الأمل من ردود فعل الأمم، ولا سيما الدول الـ138 التي صوتت لصالح الاعتراف بفلسطين؛ كان لكل كلمة معناها، ولكل عبارة حساباتها، ولكل إيماءة ساخرة أو صاخبة أو متسائلة عن مآلات كل تلك القرارات التي تعتلي أرفف الهيئة الدولية؛ دلالاتها وتأثيراتها، لما انطوت عليه من صياغات واضحة في لحظة سياسية ملتبسة لا تحتمل المجاملة، في وقت بلغت فيها بعض المواقف والسياسات والتصريحات، حد الوقاحة، في توصيفها للاحتلال بـ “المزعوم” كما ورد على لسان السفير الامريكي في اسرائيل.

في وضوح الكلمات، وصراحة التوصيفات، وجرأة المكاشفات، ما يشي بتغيير مرتقب في النهج، وانعطاف حاد في السياسات، لتصويب المسارات، بعد أن تبدى خطأ الارتهان لها أو التعويل على وعودها، والتي بدت كشيكات بدون رصيد، وهو تغيير تبدت إماراته في تلويح الرئيس بتحميل الاحتلال مسؤوليات احتلاله، وكل ما يترتب عليه من تبعات عندما قال:”لم يعد بإمكاننا الاستمرار بسلطة دون سلطة، وأن يستمر الاحتلال دون كلفة، وأنه لا يمكننا كفلسطينيين أن نقف مكتوفي الايدي أمام هذا الخطر الداهم لانهيار حل الدولتين الذي يستهدف وجودنا الوطني، والسياسي، والمادي على أرضنا، ويتهدد السلام والامن في منطقتنا والعالم، وقد نجد أنفسنا مضطرين الى اتخاذ خطوات أو البحث عن حلول بديلة لكي نحافظ على وجودنا الوطني، وفي ذات الوقت نبقي الافاق مفتوحة لتحقيق السلام والامن، وانه إذا ما استمر رفض الحكومة الاسرائيلية الاعتراف بحدود عام 1967 فإن من شأن ذلك أن يجعل من الاعتراف المتبادل الذي وقعناه في اوسلو عام 1993 موضع تساؤل، وإن استمرار الاستيطان، والتنكر لحل الدولتين يشكل خطرًا حقيقيًا على الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي، ويفرض علينا مراجعة استراتيجية شاملة” وهي عبارات عميقة المعاني، كثيرة الدلالات، لم تأت تحت ضغط مشاعر اللحظة اليائسة، بقدر ما هي خلاصات تجارب طويلة، ومريرة، عِيلَ فيها الصبر من تناقض السياسات، وتلكؤ وارتباك من يمتلكون الحقوق الحصرية للحل، بطرح حلول خلاقة لم يأت بها الاوائل، لنكتشف خلو خطاب “صاحب الصفقة” من أية إشارة قريبة أو بعيدة لها، في تراجع مريب يتخذ من “الحل الاقليمي” ملاذًا لعجز مقيم عن مواجهة الحقيقة التي اعترف بها أسلافه، وهي غياب شريك حقيقي للسلام في اسرائيل.

وإذا كانت الخطابات تكتسب قوتها، وجدارتها، من جزالة ألفاظها، وجرأة تعبيراتها، ودقة توصيفاتها، واتساع رؤيتها، وعمق مضامينها، وقوة رسائلها لكل من يهمه الامر، فإن خطاب الاربعاء للرئيس عباس أمام الجمعية العامة للامم المتحدة، يجمع بين كل تلك التوصيفات، كونه جاء على مشارف مرور قرن على وعد بلفور المشؤوم، الذي يصادف في الثاني من تشرين ثاني المقبل، ومرور 50 عاما على الاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية؛ ما يؤهله لان ينال عن جدارة واستحقاق وبدون مجاملة لقب “خطاب القرن”.

لقد بدد “خطاب القرن” الكثير من الوهم فيما يسمى بـ “صفقة القرن” عندما تساءل الرئيس بألم، وخيبة أمل، عن تلك الصفقة التي لم يعد لها أثر يذكر في خطب ترامب وسياساته التي تتجاهل عن عمد الانشطة الاستيطانية في الاراضي المحتلة، وترفض الاجابة على الاسئلة الصعبة، التي طرحها الرئيس على ترامب قبل وخلال لقائه به قبيل إلقاء خطابه أمام الهيئة الدولية، حول موقفه من مسألتي حل الدولتين والاستيطان، وهو الاجتماع الذي ضاعف من يأس الرئيس عباس من سياسات ترامب وتوجهاته إزاء سبل الحل للقضية الفلسطينية، فلا حلول مرتقبة في جعبة الراعي الحصري، غير ما يوصف بـ “السلام الشرق اوسطي” وهو الاسم الحركي لسياسة التراجع الامريكي الفادح، والفاضح عن التزامات الدولة العظمى بحل الدولتين، لصالح الرؤية الاسرائيلية اليمينية المتطرفة، حتى أن مقربين من الرئيس وصفوا اجتماعه الاخير بـ “ترامب” والذي استمر زهاء 40 دقيقة بأنه الاسوأ من بين كل اللقاءات الثلاث السابقة.

إن ما هو أكثر أهمية من الخطاب، ما سيأتي بعده من ترجمة للكلمات الى مشاريع قرارات، وإجراء مراجعات للسياسات على جميع المسارات، في مسعى لتصويب ما وقع من أخطاء في تقدير المسافات، وعقد الرهانات في العلاقة مع الولايات المتحدة واسرائيل، وذلك في ضوء الاستدارة الكاملة للسياسة الامريكية التي انتقلت في عهد ترامب من موقع الوسيط المنحاز الى موقع الشريك في فرض السياسات العنصرية، وتقويض الآمال باقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

ويأتي تأكيد أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح اللواء جبريل الرجوب،عقب اجتماع اللجنة المركزية للحركة أمس الأول على إجراء مراجعة شاملة للوضع الداخلي، وللمسار السياسي، والعمل على تجديد الشرعيات، وضخ دماء جديدة في مفاصل المؤسسات السيادية، والتمثيلية؛ وفي مقدمتها منظمة التحرير، بالتوازي مع إزالة جميع العقبات التي قد تعترض نجاح المصالحة، وصولا الى عقد المجلس الوطني في غزة، هذا التأكيد يكشف جدية التطبيق لكل ما جاء في خطاب الرئيس إزاء المرحلة المقبلة .

إن التحديات الماثلة أمام القضية الفلسطينية في الزمن العربي المريض والردىء، ولا سيما في موضوعي المصالحة وعملية تصليب وتصويب الاداء الداخلي؛ تملي على الجميع تحمل مسؤولياته وإجراء قراءة دقيقة وعميقة، للمرحلة الملتبسة، ذلك أن أي خطأ من التقدير، أو ارتباك في التقييم من شأنه أن يضاعف من التحديات ، ويفتح الباب أمام أخطاء الماضي لان تتكرر.

” القدس” دوت كوم

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا