الرئيسيةمختاراتاخترنا لكمغزة .. "دولة الأمر الواقع" الممكنة

غزة .. “دولة الأمر الواقع” الممكنة

(أصدرت لجنة السياسات في مركز مسارات هذه الورقة من إعداد إسماعيل مهرة)

مقدمة

منذ أن سيطرت حركة حماس على قطاع غزة في حزيران/يونيو 2007، وإعلان إسرائيل أن القطاع بات كيانًا معاديًا، واقتراح بعض الفلسطينيين إعلانه إقليمًا متمردًا، بدأ يظهر إلى السطح مفهوم يربط غزة بالانفصال كإقليم وبناء كيانيته الذاتية دونما امتداد وعلاقة طبيعية بالكل الفلسطيني، أرضًا وشعبًا، فظهر وصف غزة بـ”الإمارة”، و”غزة ستان” أو “حماسستان. وقد عاد حديث الانفصال ليتصدر المشهد مع تشكيل “حماس” لجنة موازية لإدارة القطاع، وخطوة السلطة الفلسطينية بشأن الخصم من رواتب موظفيها في القطاع في سياق فتح ملف استمرار سيطرة “حماس” على القطاع.

ومع تعزيز “حماس” لحكمها ومأسسته في القطاع باعتباره نظام حكم مستقل عن إرادة السلطة، وفشل حوارات المصالحة، تعمقت أكثر فأكثر المخاوف لدى الفلسطينيين من استعصاء الانقسام على الحل، بما يعمق الانفصال الجغرافي والسياسي. وهي تزداد باطراد مع الوقت، وقد كُتبت عن ذلك العشرات من المقالات، وعقدت الندوات والمؤتمرات، وصدر مؤخرا كتاب بعنوان “صناعة دولة غزة” للدكتور إبراهيم ابراش. وكان رئيس المخابرات المصرية السابق اللواء ابراهيم من بين المحذرين من فخ عملية دولنة غزة، فكتب أكثر من مقال محذرًا، كما عقد مركز أطلس للدراسات الإسرائيلية سنة 2012 مؤتمرًا بعنوان “غزة بين الأجندات”، في محاولة لقراءة مستقبل قطاع غزة في ضوء صراع أجندات الجهات ذات العلاقة، فضلًا عن تحذير المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية (مسارات) في العديد من من إنتاجاته ووثائقه، من مخاطر تحول الانقسام إلى انفصال دائم.

خطر تحول الانقسام الى انفصال جغرافي وسياسي بات جلي الوضوح، ولم يعد مجرد هاجس لدى الباحثين والمستشرفين، بل أصبح يكوي وعي وثقافة المواطنين البسطاء، فعشر سنوات من الانقسام خلقت واقعًا وثقافة ونمط حياة نمت في ظل العيش داخل كيانية منعزلة ومنفصلة، بما زاد وعمّق الانقسام واحتمالات الانفصال الفعلي بحكم الأمر الواقع. وقد عزز الأمر مؤخرًا إعلان “حماس” عن لجنتها الإدارية لإدارة شؤون القطاع والترويج لوثيقتها السياسية التي تأمل الحركة أن تقدمها باعتبارها لاعبًا سياسيًا مقبولًا من أطراف رئيسية على المستويين الإقليمي والدولي، بالترافق مع سعي الحركة لإيجاد حلول لمشكلات القطاع، وبخاصة في مجالات الطاقة والإعمار ومحاولة إنشاء الميناء، بالتنسيق المباشر مع أطراف إقليمية بعيدًا عن السلطة الفلسطينية، ما أدخل الكثير من القلق من توجهات “حماس” المستقبلية.

في المقابل، عززت سياسة السلطة والرئيس محمود عباس، بما ترتب عليها من تهميش لقطاع غزة، وعدم وجود إستراتيجية واضحة وفعالة لإعادة بناء وتوحيد المؤسسات الوطنية على مستوى منظمة التحرير والمؤسسات المدنية والأمنية للسلطة، من منحى تكريس واقع الفصل بين الضفة والقطاع، والاكتفاء بإدارة الانقسام بدلًا من إنهائه، وصولًا إلى اتخاذ قرار الحسم من رواتب موظفي السلطة في القطاع، وتهديد الرئيس باتخاذ خطوات غير مسبوقة لزيادة الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية على “حماس” لإجبارها على التخلي عن حكم القطاع، تحت شعار إنهاء الانقسام واستعادة القطاع إلى “الشرعية الفلسطينية”.

وقد أدرجت العديد من التسريبات والتحليلات هذه الخطوات في سياق خطة أشمل يسعى الرئيس لتنفيذها لوقف صرف رواتب الموظفين في القطاع ومخصصات أسر الشهداء والأسرى، كمقدمة لإنجاح “الصفقة الكبرى” التي يتحدث عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وقد عبر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بوضوح عن الموقف الإسرائيلي، بقوله خلال مقابلة مع شبكة “فوكس نيوز” الأميركية يوم 21 نيسان/أبريل، أنه “ينبغي على السلطة التوقف عن دفع الأموال للأسرى والجرحى كاختبار للسلام”، معتبرًا صرف هذه المستحقات شكلًا من أشكال دعم السلطة لـ”الإرهاب”.

ولكن بقدر شعور عباس بمخاطر استمرار الانقسام على شرعيته، وبخاصة وهو يستعد لزيارة البيت الأبيض، وما أعلنه عن وجود خطة لإنهاء الانقسام دون توضيح تفاصيلها، فإن استخدام الظروف المعيشية والحياتية الصعبة كوسيلة للضغط من أجل “استعادة غزة للشرعية”، ورفض “حماس” الاستجابة لهذا الضغط، قد يؤدي إلى فشل خطة الرئيس، بما يهدد بتداعيات كارثية على مستقبل وحدة الأراضي الفلسطينية والنظام السياسي الفلسطيني.

خطر تعمق الانقسام وتحوله إلى انفصال فعلي برعاية إسرائيلية، تغذيه أيضًا فروق الخصوصية السياسية والجغرافية والديموغرافية والمكانية والتاريخية لقطاع غزة، التي تميزه عن الضفة فيما يتعلق بحالة الصراع والاشتباك اليومي مع الاحتلال.

فجوهر الصراع اليوم مع دولة الاحتلال هو على الضفة، بما فيها القدس، نظرًا للأطماع الإسرائيلية الكبيرة فيها، إلى جانب ما تشكله بصفتها الحاضنة الرئيسية للدولة الفلسطينية، بما تمتلكه من مساحات جغرافية وحجم سكاني ووزن حضري ومدني واقتصادي، ولأن علامات الاستفهام الكبرى تدور حول مستقبل الضفة وانفتاحها على الكثير من السيناريوهات الإسرائيلية على وجه الخصوص؛ فإن قطاع غزة بما يمثله اليوم من “كيان منفصل” ومحرر من المطامع الإسرائيلية بالسيطرة المباشرة عليه، ومسيطر عليه من قبل حركة حماس، بات في نظر الكثيرين خارج دائرة التهديد بإعادة الاحتلال المباشر والاستهداف لهويته الكيانية.

عمليًا، هناك من يرى أن القطاع بوسعه أن يشق طريقه بعيدًا عن التأثر بالصراع في الضفة، وأصبحت خياراته المستقبلية، في ظل استمرار الانقسام وانسداد الأفق السياسي، تنحصر ما بين استمرار الحال على ما هو عليه من كيانية منفصلة تخضع لظروف الحصار المشدد وسيف إسرائيل العدواني، وبين تعزيز التهدئة مع إسرائيل وحلحلة الحصار والانفتاح على مصر، وسيناريوهات أخرى بعيدة الأثر قد تكون مستبعدة حاليًا، لكنها تصب أيضًا في إطار تكريس انفصاله الجغرافي والسياسي.

أي أن ثمة مخاوف تزداد يوميًا لدى السياسيين والنخبة والعامة على السواء، تخشى من أن يُدفع بالقطاع مستقبلًا نحو الدولنة الفعلية ككيان منفصل، سواء بحكم مخرجات الأمر الواقع، أو بحكم سياسات تآمرية خارجية تستند إلى أطراف فلسطينية ذات مصلحة بتعميق الانفصال، الأمر الذي جعل شدة هذه المخاوف والقناعات تضطر القيادات الفلسطينية للتحذير منها والتصدي لها (عباس: لا دولة في غزة، ولا دولة من دون غزة)، وتضطر قيادة “حماس” لنفي تهمة تساوقها معها (هنية: لا دولة في غزة، ولا دولة من دون غزة)، حتى أن أمير قطر كرر ذات الشعار في قمة البحر الميت.

بيد أن مجرد النفي والتحذير ليس باستطاعته تغيير الواقع، ولا حتى لجم أو وقف سيرورته، لا سيما وأن ثمة دول، في مقدمتها دولة الاحتلال، ترعى مشروع تعزيز فصل القطاع عن الضفة، وهناك فلسطينيون يدفعون عمليًا بهذا الاتجاه لأسباب غير مفهومة، أو نتاج سياسات وحسابات خاطئة من جانب، ومن جانب آخر فإن الجهة الفلسطينية المحذرة، أي قيادة السلطة ومنظمة التحرير، توجد في أضعف حالاتها وتعاني من حالة شديدة من الإحباط والإفلاس، وتسودها حالة من الارتباك، ولا تملك مشروعًا إستراتيجيًا محددًا بعد وصول مشروعها إلى طريق مسدود، الأمر الذي يجعل مسيرة دولنة كيانية غزة الانفصالية كأمر واقع هو الأكثر واقعية واحتمالًا في ظل الظروف الراهنة، ويجعل مستقبل غزة أقرب إلى دولة الأمر الواقع الممكنة، كنتيجة طبيعية لسياق سيرورة هذا الأمر الواقع الذي تتحكم به إسرائيل، ويتقاطع مع مصالح وسياسات فلسطينية وظروف وعوامل إقليمية، إلا في حالة خضوع “حماس” للضغوط التي قد تنجم عن اتخاذ الرئيس عباس مزيدًا من الإجراءات لإجبارها على تسليم الحكم في القطاع لحكومة الحمد الله، أو لحكومة وحدة وطنية تشارك فيها، أو في حال نجح الفرقاء المنقسمون بالتوصل إلى صيغة لإنهاء الانقسام تفاديا لتصعيد الخلافات والصراعات الداخلية.

عوامل مؤثرة في تكريس الانفصال

على الرغم من أن خروج مفهوم دولة غزة إلى الفضاء السياسي ارتبط إلى حد كبير بالانقسام وترسخه واستعصائه، إلا أن تعاظم رواج الفكرة وتناولها من قبل النخب والعامة، سواء في سياق التحذير أو الاتهام ارتبط بعوامل عدة، من أهمها:

• ملامح ومؤشرات فشل مشروع إقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي الفلسطينية التي احتلت العام 1967.
• نجاح اليمين الإسرائيلي الكبير في السيطرة شبه المطلقة على الحكم ونجاحه في فرض أجندته السياسية ومفاهيمه المتعلقة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والانزياح المجتمعي الإسرائيلي الكبير نحو التطرف والفاشية، وتفكك ما سمي “معسكر السلام”، وانهيار قاعدته التمثيلية، وتراجع دعمه لـ”حل الدولتين”، وتبنيه بعض مفاهيم ومقاربات اليمين المتعلقة بالصراع.
• تبني سياسة إسرائيلية تجاه القطاع تقوم على تعزيز الانقسام باعتباره مصلحة إسرائيلية، وإدارة الصراع مع “حماس” دون الوصول إلى حسم المعركة معها، والإبقاء على الحصار المتنفس المرتبط بعمق الهدوء ورفع مستوى الردع.
• نجاح “حماس” في تعزيز حكمها وسيطرتها، والتسليم الفلسطيني والعربي والدولي باستحالة إنهاء حكمها في القطاع بوسائل غير ديموقراطية. وفي المقابل، ضعف السلطة وكثرة الأزمات التي تعصف بها وتلاحقها، فضلًا عن الأزمة الفتحاوية الداخلية وإرهاصات معركة خلافة عباس، ورواج الحديث العلني، فلسطينيًا وإسرائيليًا، عن احتمالات انهيار السلطة وتفككها، أو التخلص منها وإلغائها، باعتبارها من قبل البعض باتت عبئًا واستنفدت دورها، بل إن هناك انتقادات وجهت إلى السلطة عقب خطوة الخصم من رواتب موظفيها في القطاع انطلاقًا من تعامل السلطة ذاتها مع القطاع باعتباره “حمولة زائدة”.
• فشل حوارات المصالحة الهادفة إلى إنهاء الانقسام.
• العامل الإقليمي، والمقصود به سياسات مصر وقطر وتركيا المتعلقة بالقضية الفلسطينية عامة، وحيال الموقف من الانقسام والحصار وقطاع غزة خاصة، فضلًا عن تأثير العامل الدولي، كما ظهر في شروط اللجنة الرباعية الدولية.

كل هذه العوامل مجتمعة بتفاعلاتها وتقاطعاتها ساعدت بشكل كبير على ازدياد وتعاظم رواج فكرة كيانية غزة المنفصلة، والمنفتحة على احتمالات مستقبلية لن تخرج عن السياقات المرتبطة بتأثيرات تلك العوامل في حال استمرارها، التي من المرجح ليس فقط أن تستمر بل أن تزداد بوتائر أكثر تسارعًا. ويعزز هذا الترجيح تصريحات القيادي في حركة حماس خليل الحية يوم 18 نيسان/أبريل، وتصريحات لقادة آخرين من “حماس”، تتهم عباس بشن “حرب رابعة بالوكالة” على القطاع، وربط حل اللجنة الإدارية بالتوافق على قيام الحكومة بدورها ومهامها في القطاع.

يمكن التوقف عند ثلاثة عوامل رئيسية لها علاقة ومسؤولية مباشرة عن ترسيخ الكيانية الانفصالية للقطاع وعن سياقات دولنته، وتتلخص في العامل الفلسطيني، والعامل الإسرائيلي، والعامل الإقليمي.

أولا: العامل الفلسطيني

من البديهي القول إن أي “مؤامرة” لا يمكنها أن تمتلك حظًا قويًا من النجاح إن لم تستند وتستعين بعوامل قوية من الداخل، ويمكن القول إن إسرائيل ما كان لها أن تتقدم في مشروعها وتنجح في صد المشروع الوطني الفلسطيني والعمل على إفشاله، بالاعتماد فقط على قدراتها ونفوذها وذكائها في إدارة الصراع، من دون استثمار فشل الأداء الفلسطيني، فكان للفلسطينيين قسط وافر في هذا النجاح الإسرائيلي، إذ لا يمكن إنكار نصيب الفلسطينيين في مسؤوليتهم عن الكارثة التي وصلت إلى حد النكبة الثانية، فإسرائيل ليست قدرًا لو أجاد الفلسطينيون إدارة صراعهم موحدين بحنكة ونجاعة ومسؤولية وحرص.

إن الأداء الفلسطيني، المقاوم والمفاوض، الحمساوي والفتحاوي، على السواء، ساهم إلى حد كبير في وصول المشروع الفلسطيني إلى مأزقه الراهن؛ مأزق الفشل والشعور بحالة التيه والتشتت، مأزق تتمظهر ترجماته في إعادة البحث عن الهوية وحلول ومشاريع وإستراتيجيات وأدوات وآليات، بعد أكثر من خمسين عامًا على انطلاق الثورة. ومع اشتداد الأزمة واشتداد الشعور بالفشل، يزداد بشكل مضطرد التشكيك بكل ما كان، والخروج على ما كان يبدو إنها ثوابت ومسلمات، سواء بالدعوة للعودة إلى جذور القضية، كقضية تحرر وعودة، أو نقاش مشاريع بديلة لمشروع دولة الـ67، كمشروع الدولة الواحدة أو دولتين ووطن واحد، أو الفيدرالية، أو دولة بحدود مؤقتة.

إن العامل الفلسطيني الذي يعتبر أحد المكونات المهمة لمشروع دولنة القطاع ككيان جغرافي وسياسي منفصل، هو مخرج لمكونات رئيسية، أولها وأهمها الانقسام الفلسطيني المضاف إلى واقع التجزئة بفعل الاحتلال وفشل حوارات المصالحة وإدارة كل من حركتي فتح وحماس لأزمة الانقسام، إضافة إلى فشل مشروع المفاوضات وأزمة المقاومة المسلحة في قطاع غزة، والأزمة التي تعصف بحركة فتح.

الانقسام الفلسطيني

مشروع دولنة غزة يرتبط أكثر من أي شيء آخر بالانقسام الفلسطيني الذي بدأ منذ حزيران/يونيو 2007، ونتج عنه سيطرة “حماس” بالقوة المسلحة على مؤسسات السلطة الأمنية والمدنية في القطاع، وتشكيل سلطة أمر واقع بعيدًا عن السلطة الوطنية، وتفرد “حماس” بإدارة مختلف جوانب السلطة والحياة في القطاع، بما في ذلك تشكيل أجهزة واستحداث هيئات وسن قوانين والشروع بجباية الأموال، ما جعل القطاع يخضع كليًا لسلطة منفصلة عن السلطة الفلسطينية، وظهرت إلى التداول كنيتا سلطة غزة وسلطة الضفة.

بذلك، استُكمل الانفصال الجغرافي الذي فرضته الجغرافيا وسياسات دولة الاحتلال بانفصال سياسي، شكل الحاضنة الأهم والحجر الأساس لتطور القطاع ككيان منفصل قائم بذاته، عزز خصوصيته، وساعد على تشكيل وصياغة قضية خاصة به مستقلة عن باقي تجمعات الشعب الفلسطيني. فأصبحت لقطاع غزة قضية تتلخص بالحصار ومعاناة سكانه وفتح معبر رفح ووقف العدوان الاسرائيلي المتتالي على غزة. ومع الوقت، برزت قضية غزة أكثر فأكثر حتى إنها غطت على القضية الفلسطينية لدى الكثير من الفلسطينيين والعرب وغيرهم من دول وشعوب إسلامية وغربية، وغيبت قضية غزة لدى هؤلاء سياقها الوطني الفلسطيني التحرري، وحصرت في شعارات لخصت قضية غزة في البعد الإنساني والمعيشي الذي كان عنوانه رفع الحصار البري (معبر رفح) والبحري، أو أحدهما.

لذلك، نظر بعض الفلسطينيين والعرب إلى حالة التجند الكبير لرفع الحصار عن القطاع بنوع من الشك والريبة، وتعاملوا معها على أنها حق يراد بها باطل، أي يراد بها تعزيز حكم “حماس” وتعزيز انفصال القطاع وضرب شرعية ووحدانية تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني. ولهذه الأسباب، ظلت قضية رفع الحصار معضلة شائكة لكل من السلطة ومصر، ولأسباب مغايرة لإسرائيل.

من الانقسام إلى الانفصال

كان يمكن للانقسام أن يكون حالة عابرة ومؤقتة في تاريخ الشعب الفلسطيني، لو لم يكن في بقائه واستمراره مصالح متقاطعة بين أطراف فلسطينية وعربية وإسرائيلية. ولعامة الفلسطينيين أن يتساءلوا بحق عن القوة الهائلة التي تمنح الانقسام هذه القدرة على الحياة، على الرغم من الإجماع الشعبي الفلسطيني على ضرورة إنهائه لما سببه – ولا يزال – من معاناة وكارثة سياسية على مجمل القضية الفلسطينية.

الحقيقة أن إسرائيل ليست وحدها من يغذي الانقسام ويستفيد منه، بل ثمة أطراف فلسطينية مختلفة مستفيدة من استمراره، وهي التي كانت تحول دومًا دون نجاح حوارات المصالحة.

“حماس” من جانبها، لم تألُ جهدًا في تعزيز حكمها وتفردها بالسيطرة على القطاع، مدفوعة بمراهنات وحسابات – تبدو صحيحة إلى حد كبير- تعتقد بموجبها أنها حركة باتت رقمًا صعبًا لا يمكن تجاوزه، وأنها أقرب إلى الانتصار في معركة التمثيل السياسي للفلسطينيين، في ظل ازدياد شعبيتها أو ثباتها على الأقل من جهة، وما تعانيه “فتح” من شيخوخة وترهل وأزمات داخلية تعصف بها من جهة أخرى، إضافة إلى أن سيطرتها على القطاع باتت حقيقة وواقعًا مسلمًا به، ومحصنًا من أي تهديد داخلي أو خارجي.

وعلى الرغم من تشكيل حكومة التوافق، لم تتنازل “حماس” عن الحكم الفعلي والإدارة الفعلية للقطاع، ويؤكد ذلك تصريح إسماعيل هنية، نائب رئيس المكتب السياسي للحركة، عقب تشكيل الحكومة إذ قال فيه “خرجنا من الحكومة ولم نخرج من الحكم”، فضلًا عن إدارتها لحوارات التهدئة ورفع الحصار ومستقبل القطاع مع أطراف عربية ودولية، ومع إسرائيل عبر وسطاء، بعيدًا عن السلطة الفلسطينية، حسب ما نشرته وسائل إعلام عدة. ويعتبر تصريح عضو المكتب السياسي للحركة موسى أبو مرزوق عن “الفيدرالية”، مؤشرًا قويًا على رغبة “حماس” في استمرار تمسكها بالسيطرة على القطاع، إضافة إلى إعلان الحركة في آذار/مارس الماضي عن تشكيل لجنة لإدارة القطاع ونيلها ثقة “تشريعي حماس”.

إلا أن حكم “حماس” يواجه المزيد من التهديدات الداخلية والخارجية، واستمرارها في الحكم ليس أمرًا مسلمًا به في ظل الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتزايدة في القطاع، لا سيما في ضوء موقف إدارة ترامب من كيانيات الإسلام السياسي، ورغبته في تحقيق ما يسميه “صفقة القرن”، وما تم تسريبه من مطالب أميركية للسلطة، من بينها وقف تحويل الرواتب، وكذلك في ضوء خطة الرئيس عباس لبسط سلطته على القطاع.

في المقابل، لم تكن السلطة الفلسطينية جادة فعلًا بما تقول وتعلن، فهي تحذر ليل نهار من دولة غزة، وتعلن سعيها الدائم لإنهاء الانقسام، ولا يبدو أنها تملك مشروعًا جادًا وحقيقيًا لإعادة بسط سيادتها على القطاع. وثمة من يعتقد أن أطرافًا متنفذة في السلطة ترى في القطاع عبئًا زائدًا، تسعى للتخلص منه. وجاء فتح ملف سيطرة “حماس” على القطاع بدءًا بخطوة الخصم من الرواتب ليظهر الاستعداد لإلقاء هذا العبء على “حماس” وتوظيف معاناة الناس المتفاقمة تحت الحصار كوسيلة ضغط على الحركة.

إن المظهر الأبرز لاستمرار علاقة السلطة بالقطاع يكاد ينحصر في استمرار تحويل الرواتب لموظفي السلطة، واستمرار قيامها بالحد الأدنى من التزاماتها المالية تجاه القطاع، ووجود ثلاثة وزراء في حكومة التوافق من قطاع غزة. والمؤسف أن الالتزام المالي ظهر عليه سابقًا حالة من التراجع، وميل واضح نحو مزيد من التراجع في الإنفاق، ووصل في بداية نيسان إلى إعلان قرار رسمي بحسم أكثر من 30% من رواتب الموظفين، واتخاذ إجراءات قاسية أخرى حسب ما وصفها الرئيس عباس وهو يستعد لعقد لقائه الأول مع الرئيس دونالد ترامب في الثالث من أيار/مايو القادم، عبر “قرارات حاسمة وغير مسبوقة”، حيث ربما يترجم ذلك بميل للتخلي التدريجي عن التزام السلطة تجاه القطاع.

موقفا “فتح” و”حماس”

ربما تكون السلطة و”فتح” أول من تنبه وحذر من مؤامرة دولنة القطاع وفصله عن الجسد الفلسطيني وعن القضية الوطنية.

ونقصد بالدولنة هنا، مسيرة تحويل القطاع بحكم تراكم الإجراءات وتداعيات الأمر الواقع وعامل الزمن، إلى ما يشبه كيانًا سياسيًا واجتماعيًا وديموغرافيًا واقتصاديًا قائمًا بذاته، إذ يكون أقرب إلى أن يصبح دولة دون أن يتحول إلى دولة حقًا، بامتلاكه وتطويره بعض المؤسسات الإدارية والسياسية والأمنية والتشريعية والمالية الخاصة بالدولة، دون الوصول إلى مستوى الدولة الرسمية ذات السيادة، ودون الحصول على الاعتراف الرسمي، وتحول سيطرة “حماس” من سيطرة حزبية حركية ذات جناح مسلح، إلى سيطرة معترف بها تحظى بمشروعية ما، سواء بحكم الأمر الواقع، أو بحكم تقاطع المصالح، الأمر الذي يرسخ الكيانية الخاصة للقطاع وانفصاله التدريجي.

وتعتبر “فتح” باعتبارها طرفًا سياسيًا يحتكر التمثيل السياسي الفلسطيني وصاحب مشروع دولة الـ67، الخاسر الأكبر جراء دولنة القطاع وفصله، لما يشكله ذلك من ضربة في الصميم للمشروع الوطني الفلسطيني الذي تتبناه، ومسًا كبيرًا بوحدانية تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني. غير أن عجزها وأزماتها المستفحلة وضعفها يجعل شعورها بالخطر شيئًا وسلوكها شيئا آخر، فمن المحير أن لا تعكس المواقف والسياسات الشعور بالخطر، والأغرب أن تظهر وكأنها مـتآمرة على نفسها عبر بعض سياساتها ومواقفها التي تعزز الانقسام، أو عدم إظهار حرصها المسؤول على إنهاء الانقسام.

وإذا استبعدنا نظرية التآمر الذاتي في تفسير اغتراب السلوك عن القناعات، فإن التفسير الوحيد ينحصر في خطأ الحسابات وسطحية قراءة الموقف الإسرائيلي حيال قطاع غزة وظروف وعوامل بلورته وانضاجه. سطحية تعتمد على أن إسرائيل لن ترفع أو تخفف الحصار، ولن تقدم شيئًا لـ”حماس”، وأن الحروب المتتالية على القطاع مع استمرار الحصار ستنهكها وتضعفها، وربما تؤدي إلى إنهاء سيطرتها على القطاع. كما أن خصم الرواتب والتهديد بمزيد من الإجراءات القاسية يمكن أن يصعب على “حماس” تحمل كلفة استمرار السيطرة على القطاع. وهي رؤية مضللة وتفتقر إلى عمق وحيوية القراءة لديناميكات تفاعل وتطور العلاقة والمصالح بين إسرائيل و”حماس”.

طوال عشرة أعوام من الانقسام، لم تظهر “فتح” جدية كبيرة في إنهاء الانقسام، وكان يبدو أنها تدير صراع الانقسام أكثر من كونها تتبنى خطة أو نهجًا لإنهائه. ويبدو أن خطوة عباس الأخيرة بخصومات الرواتب، وما يتم الحديث عنه من خطوات لاحقة تتسم بالقسوة بدلًا من طرح مشروع للشراكة السياسية، هو المشروع الوحيد الذي تبنته السلطة و”فتح” منذ عشر سنوات، والذي يروّج له الآن وكأنه مشروع استعادة بسط سيطرة الحكومة على القطاع، دون توافق على برنامج وطني وأسس للشراكة السياسية، الأمر الذي يجعل المتابعين يتساءلون عن الخلفيات والأسباب والعوامل والدوافع التي تقف خلف خطوات الرئيس الأخيرة؟ وهل تشكل خطة واقعية لإنهاء الانقسام؟ وهل هدفها حقًا إنهاء الانقسام؟

لم يعد خافيًا ما يتردد في وسائل الإعلام بشأن وضع هذه الخطوات في سياق الاستجابة بقدر ما لإملاءات أميركية – إسرائيلية تمهيدًا للقاء عباس ترامب، وفي إطار التمهيد للصفقة الكبرى، وأن الإدارة الأميركية طالبت عباس أيضًا بوقف مخصصات الأسرى وأسر الشهداء باعتبار ذلك يشكل دعمًا وتشجيعا لـ”الإرهاب”. ومع ذلك هناك رأي آخر، يرى أن الرئيس سيقلص فاتورة القطاع، وربما يتخذ خطوات لاحقة أخرى هدفها التضييق على حكم “حماس” من جهة، وخلق فائض في الموازنة للإنفاق في الضفة، لتعزيز استقرار السلطة من جهة أخرى، وأنه لا يبالي بزيادة تأزيم مشاكل القطاع التي قد تدفع “حماس” نحو رفض خطوات الرئيس، وربما تصعيد المواجهة مع إسرائيل.

في المقابل، على الرغم من الإعلان الدائم لـ”حماس” عن تمسكها بخيار المصالحة وسعيها لإنهاء الانقسام وتشديد نفيها ورفضها القبول بدولة في غزة، ورفضها إقامة دولة من دون غزة، فإن الوقائع على الأرض وسياقات الحراك السياسي الحمساوي، لا تدعم الخطاب الرسمي للحركة إزاء المصالحة ودولنة غزة، لكنها تبرر ما يوصف من مؤشرات لتعزيز الانقسام والانفصال، باضطرارها لملء الفراغ الناتج عن إهمال السلطة وحكومة الوفاق الوطني للقطاع، وتقصير الحكومة في القيام بمهامها تجاه تخفيف المعاناة عن سكان القطاع، كما أنها تتهم السلطة صراحة بالمسؤولية عن استمرار الحصار وحتى المشاركة فيه، بل اعتبرت أن الرئيس عباس “يقود بالوكالة عدوانًا رابعًا على غزة، بعد أن شن الاحتلال الإسرائيلي ثلاثة حروب على غزة وأهلها ولم يحقق أي هدف من أهدافه”، حسب تصريح للمتحدث باسم الحركة فوزي برهوم يوم 16 نيسان/أبريل الجاري.

ولا نعتقد أن “حماس” صادقة في إعلان رفضها التعامل مع قطاع غزة بما يشبه الدولة، لا سيما أن الأمر لا يتناقض مع المبدأ الأهم الناظم للحركة حتى الآن، وهو عدم الاعتراف بإسرائيل، ولا يرهن بدء عملية الدولنة الواقعية بشرط نزع سلاحها، فكيف ترفض ما يشكل لها مكسبًا صافيًا تستطيع تسويقه والترويج له باعتباره الترجمة الأكثر وطنية لشعار منظمة التحرير بإقامة دولة فلسطينية على أي شبر يتم تحريره. وغزة بالنسبة لـ”حماس” أقرب ما تكون إلى إعلانها منطقة محررة فيما لو رفع الحصار وسمح لها بفتح منفذ بحري وبري، لذلك اعتبر القيادي في الحركة محمود الزهار، في مقابلة مع شبكة “راية” الإعلامية، أنه “ليس من العيب إطلاق تسمية دولة غزة”. كما أن تصريح أبو مرزوق لقناة “الغد” عن خيار الفيدرالية بين الضفة والقطاع باعتباره حلًا ممكنًا أفضل من استمرار الانقسام، يعتبر مؤشرًا قويًا على رغبة ونوايا “حماس” الحقيقية تجاه استمرار تفردها بالسيطرة على القطاع، وترحيبها بكل ما يؤدي إلى تعزيز حكمها ونجاحه. وأهم التحديات أمام نجاح حكمها يكمن في استمرار الحصار وإغلاق المعابر البرية والبحرية.

من الواضح أن “حماس”، وفي إطار سعيها لانجاح وتعزيز تجربتها في القطاع من جهة، وسعيها للانفتاح ونسج علاقات دولية تشجع عوامل قبولها في المجتمع الدولي وتمكنها من تطوير علاقاتها العربية والدولية من جهة أخرى، تبدي استعدادًا أكبر من السابق لدفع ثمن انفتاح علاقتها مع مصر، وهي تطمح بأن تنجح في خلق حالة من التعاون الاقتصادي والأمني والسياسي مع مصر، مستغلة ما يسمى “حالة محمد دحلان” وما يمتلكه من تأثير وحاجته الماسة لتعاون “حماس” معه ومع تياره في القطاع. كما تطمح الحركة بأن يساهم إصدار وثيقتها السياسية في تجاوز قيود ميثاقها على المستويين الأيديولوجي والسياسي، بما يؤهلها لتكون شريكًا سياسيًا فاعلًا في الحلبتين العربية والدولية، وقادرًا على أن يحمل وعودًا بمزيد من الانفتاح.

من جهة أخرى، تتابع “حماس” بقلق وحذر شديدين خطوات عباس الأخيرة تجاه القطاع، لكن لا يبدو أنها في وارد التسليم والقبول بما تسميه “إملاءات عباس”، وهي تراهن على فشل خطته، وعلى خسارة ما تبقى له من شعبية في القطاع، وعلى قدرتها على تحدي ما تصفه بالمؤامرة والحرب بالوكالة.

ثانيًا: العامل الإقليمي

الموقف المصري

جمهورية مصر العربية التي تحد القطاع من الجنوب، وترى فيه جزءًا من مكونات أمنها القومي، هي الدولة الأكثر اهتمامًا وارتباطا بالقضية الفلسطينية، بل تعتبرها قضيتها المركزية. وتبوأت مصر دورًا قياديًا ورائدًا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وذلك بحكم التاريخ والجغرافيا ومكانة مصر وحجمها. كما ترتبط مصر مع القطاع عبر معبر رفح، وهو المعبر البري الوحيد الذي لا يخضع للسيطرة الإسرائيلية المباشرة، وبعد سيطرة “حماس” على القطاع ومغادرة المراقبين الدوليين العاملين في المعبر بحكم اتفاقية تشغيل المعبر الموقعة عام 2005، التي تعتبر مصر أحد أطرافها، اتبعت مصر سياسة محددة تجاه القطاع تواصلت حتى الآن، باستثناء فترة حكم الرئيس السابق محمد مرسي، وهي سياسة تعكس مخاوف ومحددات أهمها:

• التخوف من نجاح إسرائيل في إخلاء مسؤولياتها عن القطاع بالانفصال التدريجي الكلي عنه، وفصله عن القضية الفلسطينية، وتحييده عن الصراع، ودفعه باتجاه مصر من حيث المسؤولية السياسية والإنسانية، وإلى حد ما الأمنية، الأمر الذي يشكل بالنسبة لمصر خطًا أحمر.
• التخوف من تؤدي أي تسهيلات على حركة المعبر وتنقل حركة السكان والبضائع إلى تعزيز حكم “حماس” وتقويتها في صراعها مع السلطة الفلسطينية، ما سيصلب موقفها في حوارات المصالحة ويزيد مصاعب إنهاء الانقسام. وفي الوقت نفسه، هناك تخوف آخر من أن التشدد وممارسة الضغط على “حماس” دون مراعاة للحالة الإنسانية المأساوية في القطاع، وكذلك مراعاة الإبقاء على شعرة معاوية في العلاقة مع “حماس”، قد يؤدي إلى انفجار واندلاع حروب ستعاني منها مصر بفعل الضغوط وحملات التشهير والنقد والهجوم السياسي والإعلامي، وسيؤدي إلى قطيعة في العلاقة بين “حماس” ومصر، ما سيفقد الأخيرة جزءًا من دورها ومكانتها كلاعب إقليمي، ويسمح لأطراف عربية وإقليمية بممارسة المزيد من الاحتواء والتأثير على “حماس”.
• رفض أي انتقاص لتمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني، أو أي مساس بشرعية السلطة الوطنية الفلسطينية لصالح تعزيز شرعية حكم “حماس”، ورفض أي شكل من أشكال التفاهمات بين الحركة وإسرائيل عبر طرف ثالث تتم من خلف ظهر الرئاسة الفلسطينية.
• التمسك بمشروع “حل الدولتين” والمفاوضات والرعاية الأميركية.
• رفض أي حل أو تسوية لأمور القطاع بعيدًا عن القضية الفلسطينية، ورفض أي حل على حساب الأراضي المصرية.
• موقف النظام المصري – مبارك والسيسي – العدائي تجاه “حماس” لارتباطها بشكل وثيق (بأمها) حركة الإخوان المسلمين المصرية، واعتبارها عاملًا يزيد من نسبة تهديد الاستقرار المصري الداخلي، فضلًا عن الاتهامات الكبيرة لـ” حماس” بعلاقتها مع تنظيم “داعش” في سيناء.
• الموقف المصري الذي يرفض ويحارب ويدين أعمال التهريب عبر الأنفاق، وفي مقدمة ذلك تهريب السلاح، واستخدام سيناء والحدود المصرية كمنافذ لتهريب السلاح، مما يخلق لها الكثير من الحرج مع كل من الإدارة الأميركية وإسرائيل، ويساعد في تقويض استقرار الحالة الأمنية عبر انتعاش شبكات تهريب السلاح داخل الأراضي المصرية.
• الالتزام بالاتفاق الخاص بتشغيل معبر رفح.
• الرغبة في احتكار رعاية حوارات المصالحة، واحتكار الملف الفلسطيني عامة.
• التعامل مع ملف قطاع غزة باعتباره ملفًا أمنيًّا يخضع لمتابعة رئاسة المخابرات المصرية.

وهناك مستجدان مؤثران في المحددات المصرية، هما:

• تقارب كبير بين نظام السيسي وإسرائيل على المستويين الأمني والسياسي، ربما ناتج عن صراع النظام مع الجماعات الإسلامية في مصر وسيناء، وبسبب فتور العلاقة مع الإدارة الأميركية السابقة، واستخدام إسرائيل لنفوذها داخل الولايات المتحدة وأوروبا لمساعدة نظام السيسي الذي رأت فيه صديقًا خلصها من حكم الإخوان المسلمين.
• العلاقة بين نظام السيسي والقيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان، ورغبة النظام المصري الكبيرة في مساعدة دحلان على العودة إلى قيادة “فتح” عبر بوابة القطاع باعتبارها البوابة المتاحة الممكنة.

الموقف المصري من دولنة القطاع

يكتسب الموقف المصري من عملية دولنة القطاع أهمية كبرى، إذ يمتلك ما يشبه “الفيتو” على مجمل عملية الدولنة. فلا يمكن تخيل نجاح عملية الدولنة دون ضوء أخضر مصري، ودون السماح عمليًا بمزيد من انفتاح القطاع بريًا على العالم عبر معبر رفح، رغم أنّ هناك أطرافًا (مثل قطر وتركيا) تعتقد أنه بالإمكان الالتفاف على الفيتو المصري وعلى ديكتاتورية الجغرافيا عبر المنفذ البحري.

ولا يزال الموقف السياسي الرسمي المعلن يتماثل مع المحددات والمخاوف آنفة الذكر، ويترجمها عبر التمسك برفض أي محاولات لتجزئة القضية الفلسطينية، ورفض الخروج عن التزامه باتفاقية تشغيل معبر رفح التي تشترط وجود المراقبين الدوليين وممثلين عن السلطة الفلسطينية، ويصر على التمسك بإنهاء الانقسام وإتمام المصالحة، ويبذل جهودًا وضغوطًا قوية لإنجاز المصالحة الفتحاوية الفتحاوية لتعزيز موقف “فتح” في مواجهة “حماس”، ويتمسك بقناعة مفادها أن إنجاح المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام شرط أساسي لنجاح الفلسطينيين في مفاوضات التسوية.

مع ذلك، يكتنف الموقف المصري في الفترة الأخيرة نوع من الغموض، لا سيما في ظل تسريبات حول مخرجات الحوار المصري الحمساوي الأخير، تحدثت عن انفتاح وتسهيلات مصرية تجاه القطاع، بما في ذلك إقامة منطقة تجارة حرة، وتسريبات إسرائيلية، وتقرير لإذاعة الجيش الإسرائيلي، وتصريح للوزير الدرزي أيوب قرا، تشير إلى قبول مصري لفكرة توسعة حدود القطاع جنوبًا على حساب الأراضي المصرية. ومن المهم الإشارة إلى أن أحدًا في إسرائيل لم يؤكد الأمر، مع صدور نفي مصري قوي، واعتبار كل ذلك مجرد شائعات للتشويش على مواقف وسياسات مصر.

المرجح أن أي انفتاح مصري باتجاه “حماس” سيظل في إطار تكتيك العلاقات السياسية والأمنية، ولن يؤثر على جوهر الموقف المصري إزاء رؤيته للقضية الفلسطينية والتزامه بمشروع “حل الدولتين”، فضلًا عن أن مصر ستكون جزءًا من أي توجه دولي قد تقوده الولايات المتحدة باتجاه عودة سيطرة السلطة على القطاع بصرف النظر عن الثمن، وربما يمكن ملاحظة ترجمات هذا التوجه عبر محاولات المصالحة بين الرئيسين السيسي وعباس، وكذلك إحجام تيار محمد دحلان عن تصعيد الحملات المناوئة فيما يخص خطوات عباس تجاه القطاع.

الموقفان القطري والتركي

على الرغم من الموقف الرسمي لكل من دولتي قطر وتركيا الداعم للقضية الفلسطينية ولقيادة السلطة ومنظمة التحرير وشرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني، إلا أن كلتا الدولتين لا تخفيان علاقتهما الوطيدة بـ”حماس” وتبنيهما لها ولمشروعها ومساندتها، وتعتبران أكبر الداعمين والمتبرعين لمشاريع عدة في قطاع غزة الخاضع لسيطرتها.

تركيا خاضت لسنوات مواجهة وصدامًا مع إسرائيل في سبيل رفع الحصار البحري عن القطاع. وقطر من جانبها مولت واستخدمت كل ما يمكنها لرفع الحصار عن القطاع، ولتمكين الحركة من تعزيز سيطرتها وإنجاح حكمها في القطاع. وكلتا الدولتان على الأقل لم تلتفتا ولم تراعيا المخاوف التي تربط بين رفع الحصار وبين تقدم مسيرة دولنة القطاع، ولم تحافظا على مسافة واحدة من طرفي الانقسام.

لكن من غير المستبعد وقوف كل من قطر وتركيا على الأقل على الحياد فيما يتعلق بالضغوط التي يمارسها عباس تجاه “حماس”، لا سيما إن كانت هذه الضغوط بتنسيق مع الإدارة الأميركية، أو تلبية ولو جزئية لطلباتها.

ثالثًا: العامل الإسرائيلي

يعتبر العامل الإسرائيلي الأكثر تأثيرًا وفاعلية على المستويين المرحلي والإستراتيجي، فيما يتعلق بمخطط دولنة القطاع وفصله. فإسرائيل هي دولة الاحتلال التي تعيش في حالة صراع وجودي مع ما تمثله القضية الفلسطينية، وهي التي تمتلك مشروعًا خاصًا بها يقوم على أنقاض المشروع الفلسطيني، وتملك زمام المبادرة والهجوم والقدرة على التخطيط والعمل على تنفيذ مخططاتها.

وقد نجحت إسرائيل حتى الآن ليس فقط في التصدي لمشروع الدولة الفلسطينية، بل في خلق وقائع تجعله غير ممكن، فضلًا عن تسويق خطابها وروايتها وأجندتها ومفاهيمها المتعلقة بالصراع. وفي قراءة العامل الإسرائيلي، سوف تستعرض هذه الورقة الرؤية الإسرائيلية حيال القطاع، والوقوف على متغيراتها عبر المراحل الزمنية وصولًا إلى الرؤية السائدة اليوم. كما سيتم التطرق إلى الموقف الإسرائيلي من مستقبل القطاع من مختلف جوانبه، ومحدداته السياسية والأمنية.

الرؤية الإسرائيلية

خضعت الرؤية الإسرائيلية لمستقبل قطاع غزة إلى الكثير من التغيير والتعديل، نتيجة لتغيرات المواقف والتوجهات السياسية للتيار المركزي الذي يقود إسرائيل في كل مرحلة تجاه رؤيته لحل الصراع، ونتيجة لتغيرات العاملين الفلسطيني والإقليمي، لكن المشترك في الرؤية على تغيراتها النظرة للقطاع باعتباره تهديدًا أمنيًا وديموغرافيًا، يعاني من كثافة سكانية وفقر وشح في الموارد الطبيعية، والخزان الأكبر للاجئين، وحامل مفتاح العودة.

من الإجماع على دمجه إلى الإجماع على نبذه

حضر القطاع بصفته تحديًا أمنيًا على طاولة صانع القرار الإسرائيلي بعد قيام دولة إسرائيل مباشرة، وما عزز حضوره الأمني بوجه خاص، أنه اعتُبر جيبًا عسكريًا مصريًا متقدمًا داخل دولة إسرائيل. ففي العام 49، أجرت الحكومة الإسرائيلية برئاسة بن غوريون نقاشًا حول التهديد الأمني للقطاع، وفي حينه طالب بن غوريون باحتلاله وضمه.

وحاول مرة أخرى أثناء احتلال القطاع العام 56، الإبقاء على القطاع، فأجل الانسحاب منه بضعة أشهر.

وفي جلسة الحكومة في 19 حزيران/يونيو 67، بعد الاحتلال مباشرة، بحثت الحكومة اقتراحًا لضم القطاع لإسرائيل، ونوقشت فكرة ترحيل اللاجئين إلى العريش، وانتهى الاجتماع برفض الاقتراح بسبب التخوف الديموغرافي.

وبعد اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، بدأت تتبلور في إسرائيل مقاربة جديدة لمستقبل قطاع غزة تتراوح ما بين حكم ذاتي مع سيطرة إسرائيلية على غلاف القطاع، بحرًا وبرًا وجوًا، وبين حكم ذاتي يتبع الدولة المصرية. وأصبح القطاع بالنسبة لإسرائيل كوديعة مؤرقة لها تتطلع للتخلص منها، الأمر الذي جعل إسحاق رابين يتمنى أن يبتلع البحر غزة، وأن يقترح لاحقًا على الرئيس الراحل ياسر عرفات “غزة أولًا”، ما جعل عرفات يصر على “غزة أريحا أولًا”.

وفي كل جولات المفاوضات حول الحل الدائم، كان من المسلم به أن إسرائيل ستنسحب من كامل القطاع، وكانت تسعى لكي يكون القطاع مركز الدولة الفلسطينية، فسمحت بإقامة المطار والميناء، وأبقت على المستوطنات لأسباب إسرائيلية داخلية ولدواع تفاوضية. وظل ينظر إلى القطاع على أنه جزء من الدولة الفلسطينية التي ستقوم ضمن الضفة الغربية وقطاع غزة، مع وجود حل يتيح تواصلهما جغرافيًّا.

غير أن هذه الرؤية تغيرت بشكل كبير منذ تشكيل أرئيل شارون حكومته الأولى حتى اليوم، باستثناء فترة حكومة إيهود أولمرت، حيث يمكن تسميتها برؤية شارون – نتنياهو، وهي تهدف إلى القضاء على مشروع قيام الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية، بما فيها القدس، وقطاع غزة على حدود 67، وحل الصراع بسقف حكم ذاتي موسع في الضفة تحت السيادة الإسرائيلية، وآخر منفصل في القطاع، وإدارة حوار إستراتيجي مع مصر للتوصل إلى اتفاق حول تقاسم السيطرة والسيادة الأمنية بين مصر وإسرائيل عبر مدخل إعادة النظر في ملاحق “كامب ديفيد” الأمنية. أي أن الرؤية السياسية الإستراتيجية الإسرائيلية حيال مستقبل قطاع غزة، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالرؤية الإسرائيلية حيال مشروع الدولة الفلسطينية ومآلات الصراع على الضفة، كما ترتبط بتوجهات وأيديولوجية الائتلاف الذي يقود الحكومة الإسرائيلية.

بدأ شارون عمليًا بتنفيذ رؤيته الإستراتيجية بالانقلاب على التطلعات الفلسطينية والدولية التي ارتبطت باتفاقية أوسلو – رغم مناورات خطابه السياسي – عبر اجتياح مدن الضفة فيما عرف بحملة “السور الواقي” العام 2002، وحصار عرفات، ووصف السلطة بأنها “سلطة إرهاب” وإعلانها غير ذات صلة، وإقامة جدار الضم، والانفصال أحادي الجانب عن القطاع. كل ذلك جاء في سياق الانقلاب الإستراتيجي على مشروع مفاوضات التسوية.

شارون الذي أوعز باغتيال الشهيد رائد الكرمي لتفجير وقف إطلاق النار ليتسنى له استكمال مشروعه، أصرّ على أن يكون الانسحاب من القطاع أحادي الجانب، حتى بثمن ظهور الجيش بمظهر الهارب تحت نيران المقاومة، وبثمن منح صورة نصر لقوى المقاومة ورافضي المفاوضات، بهدف ابتلاع الضفة، وقطع الطريق على أي مبادرة لا تناسب إسرائيل، والقضاء على فرص قيام دولة فلسطينية، والمساهمة الفاعلة في وقوع الانقسام والاقتتال الفلسطيني الفلسطيني، وإخلاء مسؤولية إسرائيل عن القطاع مع احتفاظها بسيطرتها الأمنية على “غلافه” الحدودي، أي استمرار الاحتلال عن بعد. ومن أهدافه أيضا، إضعاف السلطة والمعسكر المؤيد للمفاوضات. ومع أنه كان بإمكانه أن يطالب الفلسطينيين بمقابل للانسحاب من القطاع، إلا أنه كما يقال ألقى المفاتيح على الطريق، ليخلق حالة من الفوضى، وفوت على السلطة ذريعة التهرب من إجراء الانتخابات بتمسكها بشرط مشاركة المقدسيين فيها، فسمح بمشاركتهم، وكأنه كان يسعى – بحسب مخططه – لهزيمة السلطة وإنجاح “حماس” وسيطرتها على القطاع.

لاحقًا، قاد الثلاثي (أيهود أولمرت – أيهود باراك – تسيبي ليفني) الحرب على القطاع العام 2008، وانقسموا من حيث أهداف الحرب إلى فريقين: أولمرت كان يدفع باتجاه إسقاط “حماس” لتكون غزة جزءًا من الدولة الفلسطينية، فقد كان في ذلك الوقت في ذروة مفاوضاته مع عباس، بينما ليفني وباراك للمفاوضات.

محددات الموقف الإسرائيلي تجاه القطاع

المحددات السياسية

• رفض “حل الدولتين” والسعي لإفشاله، وتبني معادلة الانفصال عن القطاع، وتعزيز مشروع الاستيطان.
• استمرار الانقسام الفلسطيني مصلحة إسرائيلية، ومواجهة كل إقليم منعزلًا عن الآخر، إذ لا يؤثر أحدهما على الآخر، وانتهاج سياسة إدارة الصراع بدلًا من السعي إلى حله.
• التسليم بواقع سيطرة “حماس” على القطاع دون الاعتراف بشرعيتها، واعتبارها عنوانًا للقطاع.
• “حماس” باعتبارها كيانًا “إرهابيًا” مسيطرًا على القطاع يخدم مصلحة إسرائيل السياسية.
• تحييد القطاع والتخلص من تهديده الديموغرافي، والسعي للانفصال الكلي عنه، مصلحة إسرائيلية.
• المحافظة على سياسة إدارة الصراع مع “حماس” دون الوصول إلى الحسم، وتبني سياسة الردع وليس الحسم.
• لمصر دور قوي في إنجاح أو إفشال مشروع دولنة القطاع.
• المحافظة على دور ما للسلطة الفلسطينية دون منحها حق الفيتو.
• ليس من الضروري أن يربط أي حل سياسي بين الضفة والقطاع.
• المحافظة على غموض السياسة الإسرائيلية تجاه مستقبل القطاع.
• يجب أن تبني السياسات المرحلية واقعًا تحتكم إليه الحلول بعيدة المدى.
• نتيجة أي صراع مع “حماس” ستكون صفرية، وأقصى ما يمكن الوصول إليه هدوء مرحلي.
• الانفتاح على أي تغير سياسي داخل القطاع في إطار بقاء الانقسام والانفصال.
• سكان القطاع أقرب إلى مصر، ولا يمكن تعميق الانفصال دون تعميق العلاقة بين مصر والقطاع.
• استمرار السيطرة الأمنية الإسرائيلية على الحدود البرية والبحرية للقطاع.
• استمرار الحصار (المتنفس) كوسيلة ردعية، ولإضعاف “حماس” والتشويش عليها.
• لا تقتصر المواجهة مع “حماس” فقط داخل القطاع، ولا تقتصر أهداف الحركة ونشاطها على القطاع فقط.
• لا يمكن درء المواجهة، بل يمكن تأجيلها.

المحددات الأمنية

• سقوط خيار العودة إلى احتلال القطاع لأسباب سياسية وأمنية.
• تمتلك إسرائيل من القوة ما يجعلها قادرة دومًا على التصدي لتهديدات “حماس” العسكرية وتوجيه ضربات موجعة لها.
• تشكل البنية التحتية العسكرية والصواريخ والأنفاق تهديدًا مؤرقًا لا يمكن التسليم باستمراره.
• عدم الدخول في معركة حسم، والمحافظة على الردع الدائم لـ”حماس” وإضعاف قدراتها العسكرية، وعدم منحها صورة انتصار.
• المحافظة على معادلة تنفيس الحصار مقابل الهدوء.

مواقف أقطاب الحكومة الإسرائيلية

حكومات نتنياهو الثلاث الأخيرة، وبعد حربين قادهما نتنياهو على القطاع، تتبنى سياسات غامضة وغير معلنة إزاء القطاع، وهو ما جعل تقرير مراقب الدولة ينتقد عدم إجراء أي نقاش جدي حول البدائل السياسية والرؤية الإسرائيلية لمستقبل قطاع غزة. كما انتقد قيام “الكابينت” بوضع أهداف للجيش دون أن تكون جزءًا من أهداف إستراتيجية تسعى إليها إسرائيل. ويقول إساف أوريل، الباحث في مركز الأمن القومي، عن ذلك أثناء يوم دراسي لمناسبة مرور خمسين عامًا على احتلال القطاع، إن الحكومة تطالب الجيش بتحقيق الهدوء وضرب “حماس” وإضعافها وتعزيز الردع، لكن دون تغيير في الوضع الإستراتيجي القائم، ودون إسقاطها، ودون تغيير في الحدود والوضع السياسي، ودون أن يجعل ذلك إسرائيل مسؤولة عن مليونين من سكان القطاع. ويضيف أن “حماس” بالنسبة لحكومة إسرائيل تقوم بدور وظيفي مهم.

مع أن حكومة نتنياهو هي من بين الحكومات الإسرائيلية الأكثر يمينية وانسجامًا، إلا أنها فيما يتعلق بالعلاقة مع القطاع يتبنى أقطابها توجهات مختلفة. فنتنياهو يحتفظ برؤيته الغامضة غير المعلنة، التي سبق أن بلورها سابقًا مع باراك واستمر فيها مع موشيه يعلون، ولا يزال يتمسك بها، وتقوم على استكمال الانفصال عن القطاع بغض النظر عن الجهة التي تسيطر عليه، والمحافظة على سياسة إدارة الصراع الحالية، وكذلك المحافظة على السيادة الإسرائيلية على غلافه البحري والجوي، إلى حين التوصل إلى اتفاقيات نهائية بشأنه.

أما أفيغدور ليبرمان، وزير الحرب، ونفتالي بينت، رئيس “البيت اليهودي” ووزير الاقتصا، ويسرائيل كاتس، وزير المواصلات والاستخبارات، فلهم رؤى مختلفة مرتبطة بمواقفهم السياسية من الصراع المختلف في هوامشه التكتيكية وآلياته وتوقيته عن موقف نتنياهو. ورغم انتقاد تقرير مراقب الدولة عدم مناقشة البدائل السياسية، فإن نتنياهو يصر حتى اليوم على التهرب من إجراء مثل هذا النقاش.

بعد حرب 2014، وارتباطًا بنتائجها وما فرضته على طاولة النقاش الحكومي والبحثي، وفي محاولة لإيجاد مقاربات جديدة تخفف التوتر وتقلل إلى حد كبير من احتمالات اندلاع حرب أخرى، قام عدد من الوزراء والمهتمين بتقديم اقتراحات تأخذ بعين الاعتبار ذات المحددات السياسية السابقة، وتبدأ بالسماح بتقديم تسهيلات لتخفيف صعوبة الظروف المعيشية لسكان القطاع، بما في ذلك تشجيع إعادة الإعمار، وتطوير البنى التحتية، والمساعدة في تخفيف أزمة الكهرباء والمياه، وتقليص نسبة البطالة عبر السماح بدخول أعداد من العمال للعمل في مستوطنات “الغلاف”، والسماح بالتصدير، وتوسيع رقعة الصيد في إطار التسهيلات الإنسانية، وخلق نوع من بحبوحة العيش لتخفيف الاحتقان وعوامل الضغط الداخلية التي بدورها قد تسهم في إرجاء جولات الحرب وزيادة فترة الهدوء، وبعضهم وصل في اقتراحاته إلى ما هو أبعد من مجرد تقديم تسهيلات إنسانية.

كاتس، وهو أحد أبرز صقور الليكود وغلاة اليمين، ويتطلع لخلافة نتنياهو، يقود منذ وقت حملة خجولة ضد نتنياهو، طلب من وزارته (المواصلات) بلورة اقتراح بشأن بناء ميناء مرتبط بجزيرة في البحر وإقامة مطار عليها، يراعي المتطلبات والمعايير الأمنية الإسرائيلية، لتحقيق هدفين حسب قوله: الأول، تحقيق تطلع إسرائيل للانفصال الكلي والتحرر من مسؤولياتها تجاه القطاع، والثاني، خلق الظروف والبيئة المساعدة لازدهار القطاع اقتصاديًا وتخفيف مأساته الإنسانية، الأمر الذي سيعزز براغماتية “حماس”، ويجعل لديها ما تخسره في أي “مغامرة”، ويفرض عليها الانشغال بأولويات بعيدة عن تهديد أمن إسرائيل، ويمنح مستوطني “غلاف” القطاع هدوءًا طويل المدى. طبعًا، كل ذلك مشروط بالوصول إلى اتفاق تهدئة طويلة المدى، ينطوي على ما هو أبعد من مجرد وقف الأعمال العسكرية بين الطرفين، فضلًا عن وجود شراكة وضمانات من قبل أطراف دولية.

كاتس ليس وحده الذي يتبنى هذا التوجه، فهناك عدد من النخب السياسية والأمنية التي تؤيد توجه كاتس، الذي يحقق المسعى الرئيسي لإسرائيل بالانفصال الكلي والنهائي الذي بدأ به شارون، وتحييد القطاع، والتخلص من تهديده الديموغرافي، وحصر القضية الفلسطينية في مستقبل أراضي الضفة وسكانها. ويعتبر بينت من أهم المتحمسين لاقتراح كاتس، انطلاقًا من فكرة أنه ليس بالإمكان عمليًا التنكر للتأييد الدولي الكبير لحق الفلسطينيين في دولة، لكن ما يسعى إليه اليمين الاستيطاني الذي يتطلع للتوسع والضم في الضفة بزعامة بينت هو جعل القطاع المكان الوحيد الذي يمكن أن تقام عليه الدولة الفلسطينية في المستقبل.

أما ليبرمان، وهو مستوطن، ويعتبر من غلاة اليمين العنصري، فإنه يتبنى نهجًا تصعيديًا ضد “حماس”، ويشترط – للتعجيز- أي صفقات كبرى مع الحركة بنزع سلاحها، ويحافظ على إشهار دائم بتهديد العصا الغليظة وصولًا إلى هدف إسقاط حكم “حما”س بالقوة، وهو الهدف الذي دأب على التمسك به. فليبرمان على خلاف اليمين المتطلع لضم الضفة، يعتبر أن التهديد الأكبر على دولة إسرائيل، ليس تهديد قيام الدولة الفلسطينية، بل التهديد الديموغرافي الذي يهدد هوية الدولة كدولة يهودية، ويعتقد أن قيام الدولة الفلسطينية بشرط تبادل السكان والأرض (مبادلة المستوطنات وسكانها مع منطقة المثلث داخل أراضي 48 بسكانها) يشكل الحل الوحيد للتخلص من التهديد الديموغرافي. وبالتالي، بالنسبة له، فإن “دولة غزة” التي ستكون على حساب التسوية السياسية في الضفة ستقضي على يهودية الدولة، وتحولها إلى دولة ثنائية القومية، وتضيع على إسرائيل فرصة تاريخية لتصحيح ما يصفه بخطأ بن غوريون بسماحه ببقاء السكان الفلسطينيين عندما كان بالإمكان التخلص منهم.

تخفيف حدة الأزمة الإنسانية والاقتصادية في القطاع، وتمكين “حماس” من الحكم، بما يضمن تقليل عوامل وأسباب الانفجار حتى بثمن بدء التفاوض حول إقامة الميناء، بات يطالب به أيضًا مستوطنو المستوطنات المحاذية للقطاع، نتيجة قلقهم الدائم من أن يكونوا أولى ضحايا اندلاع الحرب. وقد نظم حاييم يلين، أحد سكان هذه المستوطنات، وعضو كنيست من حزب “يوجد مستقبل” بزعامة يائير لبيد، تظاهرات مع سكان المستوطنات لدعم هذا التوجه، ووجهوا رسائل لرئيس الحكومة ووزير الدفاع. وفي مداخلة له أمام لجنة الخارجية والأمن، قال “يحتاج بناء الميناء وحتى تجهيزه لاستقبال السفن، لثماني سنوات، لكننا في كل وقت لن نحتاج أكثر من يوم لتدميره، فامنحونا ثماني سنوات من الهدوء”.

فشل “حل الدولتين” بسبب تعمق الاحتلال والاستيطان والأطماع والمطالب الأمنية الإسرائيلية، بات يفرض نفسه بشكل قوي على طاولة سجال النخب والباحثين الإسرائيليين في البحث عن حلول للصراع تعتبر بالنسبة لهم ممكنة طالما أنها تراعي المعايير الإسرائيلية، ولا تأخذ المطالب والموقف الفلسطيني على محمل من الجدية. وأهم مُخرج لهذا السجال الذي بات يحظى بشبه إجماع، أن التوصل إلى اتفاقية تنهي الصراع لم يعد ممكنًا في الظروف الحالية، علاوة على أنه من الصعوبة بمكان تخيل حكومة إسرائيلية قادرة على تفكيك المستوطنات القريبة من المدن الفلسطينية. بل إن الروائي الإسرائيلي المعروف كالأب الروحي لليسار أ. ب. يهوشوع، اعترف أنه لم يعد يؤمن بإمكانية تحقيق “حل الدولتين”.

عدد من الباحثين الذين شغلوا وظائف أمنية رفيعة سابقًا، قدموا بدائل لفشل “حل الدولتين”، أو رؤى للخروج من مأزق الطريق المسدود، من بينهم غيورا إيلاند، وعوزي أراد، وجدعون بيجر، ومجلس الأمن والسلام، وتجمع “قادة من أجل أمن إسرائيل”، والمشترك لديهم جميعًا أن قطاع غزة في المستقبل سيشكل القاعدة الرئيسية للدولة الفلسطينية، وهو المكان الذي سيربط هذه الدولة بالعالم، وسيكون باستطاعته استيعاب اللاجئين الفلسطينيين بعد توسعته جنوبًا.

الرأي العام الإسرائيلي من جانبه، وبعد ثلاثة حروب، أصبح يدرك أن القضاء على “حماس” بالحسم العسكري لم يعد خيارًا واقعيًا، وأن التسهيلات التي يمكن تقديمها للقطاع لم تعد عملًا شائنًا ومنتقدًا، بل تشكل استثمارًا طويل الأجل.

السيناريوهات المحتملة

في وقت لا تزال فيه العوامل والأطراف المؤثرة في بلورة مستقبل قطاع غزة في حالة صراع واشتباك، وبعضها في حالة تقاطع مصالح وصراع مرحلي وإستراتيجي، فإن مستقبل القطاع سياسيًا يحتمل، نظريًا على الأقل، سيناريوهات واحتمالات مختلفة:

السيناريو الأول: تحقيق المصالحة

يقوكم هذا السيناريو على نجاح الأطراف الفلسطينية في التوصل إلى مصالحة تنهي الانقسام، وبما يُمكّن من تشكيل حكومة قادرة على بسط شرعيتها على القطاع، وإعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير على أسس من الشراكة الديمقراطية. لكن هذا السيناريو، وفي حال نجاحه، لن يوقف عملية فصل القطاع وتطور كيانية خاصة به، ربما سيبطئها. ومن جهة أخرى ربما يجعل عملية دولنة القطاع أكثر بريقًا في عيون بعض الفلسطينيين، في غياب الاتهامات بالتآمر. وسينظر إلى رفع الحصار وبناء المطار كمطالب وطنية، إذ إن لا شيء يمكنه أن يوقف عملية دولنة القطاع واستمرار فصله، إلا قيام الدولة الفلسطينية على أراضي الضفة، بما فيها القدس، وقطاع غزة، وتواصلهما جغرافيًا، فمستقبل القطاع مرتبط مباشرة بمستقبل المشروع الفلسطيني. غير أن المصالحة في هذه الحالة سوف تُخضع أي خطوات بشأن مستقبل القطاع لتوافق وطني وتحت سقف القرار الذي تتخذه قيادة موحدة وضمن برنامج وطني موحد.

احتمالات تحقق هذا السيناريو، للأسف، تبدو ضعيفة، على الأقل في المستقبل القريب.

السيناريو الثاني: رفع الحصار مقابل هدنة طويلة

يقوم هذا السيناريو على قبول إسرائيل برفع الحصار، بما في ذلك إقامة الميناء، والتوصل إلى تهدئة طويلة الأجل، بما يحافظ على استمرار سيطرة “حماس” وإدارتها للقطاع باعتباره كيانًا منفصلًا عن السلطة الفلسطينية.

إن احتمال هذا السيناريو مستبعد إلى حد كبير، على الأقل مرحليا، في ظل المحددات السياسية والأمنية الإسرائيلية، والموقف المصري، وموقف السلطة، وفي ظل عدم امتلاك “حماس” من القوة ما يمكنها أن تفرضه على إسرائيل، رغم عدم استبعاد نجاحه في المستقبل إذا ما حدث تغيير مهم في هوية اللاعبين.

السيناريو الثالث: قبول حماس بمطالب عباس

يقوم هذا السيناريو على قبول “حماس” بمطالب عباس، وأن تسمح ببسط الحكومة لسيطرتها على القطاع، نتيجة لتخوفات الحركة من تشديد الحصار والضغوط عليها بدعم أو توافق أميركي وعربي، بما يؤدي إلى اشتداد الأزمة في القطاع، وإضعاف قدرتها على إدارة القطاع بالشكل القادر على توفير الحد الأدنى من مقومات المعيشة والكرامة الإنسانية لسكان القطاع.

إن احتمال هذا السيناريو ضعيفة، لأن حماس” سترفض ما تسميه لغة “الإملاءات”، ولأنها لا تزال تراهن على قدرتها على إفشال خطوات عباس، كما أن لديها تقدير ربما ينطلق من أن الموقف الإسرائيلي غير معني حاليًا بنجاح مشروع عباس في استعادة القطاع إلى الشرعية الفلسطينية.

السيناريو الرابع: بقاء الوضع على حاله مع تعمق الانقسام والأزمة الإنسانية

يقوم هذا السيناريو على بقاء الوضع على ما هو عليه، مع تسهيلات إسرائيلية أكبر أو أقل، ارتباطًا بالحالة الأمنية، أو بمخرجات عدوان جديد ناتج عن انفجار قد يدفع إليه القطاع، نتيجة تعمق الأزمة الإنسانية واشتداد الحصار. وربما يترافق ذلك مع تسهيلات مصرية تجاه القطاع وانفتاح على “حماس” بعد فشل مشروع عباس. والنتيجة هي استمرار الفصل وتأصيل الأمر الواقع الناتج عنه وتحوله إلى “واقع طبيعي” يتعايش معه الناس ولا يتطلعون لما هو مختلف عنه، وهو ما نسميه بعملية دولنة القطاع، التي دخلها القطاع منذ الانفصال أحادي الجانب، وبشكل أقوى بعد الانقسام، وتراجع المشروع الوطني الفلسطيني، وهي عملية مستمرة وغير متوقفة وغير مرتبطة حصرًا بوجود “حماس”، بل بنجاح المشروع الإسرائيلي في ظل تفاقم مأزق المشروع الفلسطيني.

وهذا السيناريو هو الأكثر احتمالية، بل بات واقعًا نعيشه، لأنه وليد الأمر الواقع الناتج عن العجز الفلسطيني، ونجاح المخطط الإسرائيلي، ولأن الاحتمال الأقوى أن تظل الحالة الفلسطينية تعاني من العجز والضعف والانقسام، وربما المزيد من كل ذلك، وأن تظل إسرائيل صاحبة القوة والنفوذ والمبادرة.

التوصيات

• إطلاق حوار وطني شامل حول سبل إنهاء الانقسام في المؤسسات المدنية والأمنية، وصولًا إلى إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وإعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير، بما يترجم ويعزز مصداقية تمثيلها لكل الشعب الفلسطيني على أسس من الشراكة الوطنية والديمقراطية، وتأكيد التمسك بحق العودة وإقامة الدولة المستقلة باعتباره البرنامج الوطني الذي يشكل قاسمًا مشتركًا يناضل من أجله الشعب الفلسطيني، وتبني خطاب سياسي يقوم على الثوابت الوطنية. وهو ما يستدعي توفير أجواء إيجابية لنجاح هذا الحوار، بما يتطلبه ذلك من تراجع السلطة عن خطوة الخصم من الرواتب، وحل اللجنة الإدارية الموازية التي شكلتها “حماس”، والسماح للحكومة الفلسطينية ببسط سيطرتها على القطاع .
• التأكيد على أن السلطة الوطنية والحكومة تخضعان لمرجعية منظمة التحرير بعد إعادة بنائها بمشاركة الجميع، ومهمة السلطة هي رعاية وإدارة شؤون كل الشعب الفلسطيني في الضفة، بما فيها القدس، والقطاع، وترجمة ذلك بشكل جلي بتمكين الحكومة من أداء مهماتها في سياق التوافق على معالجة جميع ملفات المصالحة. وعلى “حماس” أن تقدم كل التسهيلات لعملها، وأن تزيل كافة العوائق التي تمنعها من أداء مهامها في القطاع، والعمل على إعادة النظر في وظيفة السلطة وتأكيد دورها الوطني في إسناد ودعم مسيرة التحرر الوطني الفلسطيني، وبما في ذلك فك الارتباط مع التزامات اتفاقية أوسلو.
• التأكيد الدائم على وحدة مصير الشعب الفلسطيني وأرضه، والتصدي لأي خطاب يدعو أو يشجع البحث عن حلول ناتجة عن التسليم بالأمر الواقع، تحت مبررات مراعاة الظروف الإنسانية.
• عدم التوصل إلى أي تفاهمات أو اتفاقات مع إسرائيل، سواء لها علاقة بالتهدئة أو بالتسهيلات، من خلف ظهر السلطة الفلسطينية، في ضوء مخاطر ذلك في ظل استمرار حالة الانقسام، وبما يقطع الطريق على سياسية إسرائيل القائمة على “فرق تسد”.
• رفض التهدئة طويلة المدى، لأنها ستشكل مدخلًا لتحييد القطاع وإخراجه عمليًا من معادلة الصراع، وستكرس مبدأ تجزئة القضية الفلسطينية وتعمق من الانشغال بخصوصيات كل تجمع فلسطيني على حساب الأهداف الوطنية والقواسم المشتركة للفلسطينيين جميعًا، دون أن يعني ذلك تجاهل معالجة المشكلات اليومية الخاصة بكل تجمع فلسطيني، وبخاصة قطاع غزة. وفي حال تحققت الوحدة الوطنية، فإن المطالبة برفع الحصار البري والبحري وإعادة تشغيل المطار، ستصبح مطلبًا وطنيًا ملحًا بشرط أن يرتبط ذلك بسياق يؤكد على وحدة وترابط الأراضي الفلسطينية المحتلة عالام 67 جغرافيًا وسياسيًا، تحت قيادة موحدة وكيان تمثيلي موحد.
• تشجيع التواصل السياسي والاجتماعي والثقافي والأكاديمي والاقتصادي بين الضفة والقطاع، والتصدي لعوامل وخطاب التفرقة.
• تشكيل هيئة وطنية لتعميق التواصل ومقاومة عوامل الانفصال. وللأسف، فإن الانقسام والانفصال وتداعياته واعتمالاته ومخاطر مآلات هذه الاعتمالات تجلعنا بحاجة إلى مثل هذه الهيئة.
• إجراء حوار عميق وإستراتيجي مع مصر لتأكيد مخاطر فصل القطاع وعزله، وللبحث في سبل تعزيز التواصل بين مصر والقطاع، بما لا يشكل بديلًا عن انفتاح القطاع على الضفة، أو عاملًا مساعدًا لتشجيع إفلات إسرائيل من تحمل مسؤولياتها إزاء القطاع، ومطالبة مصر بتبني خطاب يؤكد على ربط أي بحث حول مستقبل القطاع مع مستقبل القضية الفلسطينية.

للاطلاع او تحميل الدراسة كاملة .. اضغط هنا

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا