الرئيسيةمختاراتمقالاتلا تدفنوني ...اطحنوا عظامي واصنعوا منها خبزا للفقراء

لا تدفنوني …اطحنوا عظامي واصنعوا منها خبزا للفقراء

بقلم عيسى قراقع

رئيس هيئة شؤون الاسرى والمحررين

هنا مخيم الدهيشة للاجئين، الليل للشبان حراس الازقة والشوارع ، المتيقظون الساهرون بعيونهم المضيئة وحجارتهم، ينتظرون كل ليلة جنود الاحتلال، المخيم يتحرر في الليل ، المخيم يتنفس في الليل ، والشمس لا تشرق في مخيم الدهيشة الا في الليل، المخيم يكبر، يصير هو الدولة السيادية الواسعة بوسع الفكرة، ويمتد ويتوحد بأحلامه الكبيرة والصغيرة، هنا مخيم الدهيشة، الناس والحرية والدم، ارواح تحفر بأزاميل من إرادة ، أرواح تشتعل وتشتعل.

الشهيد الجميل براء حمامدة ولد في مخيم الدهيشة، لم يختر هذا المكان، أعطاه الفقر والطين وخبز الطابون وليالي الشتاء اسمه ولونه ورائحته وكبر بين عشرات الذكريات، حاول ان يجمع المسافات بين الماضي الغارق في الدم وبين ظل المخيم الغارق في الشقاء ، براء اكمل طفولته في عناق القادم، ابعد من لاجيء وأقرب الى ذاكرة وتراب وفضاء.

يتصدى فتيان مخيم الدهيشة للجنود المقنعين الملثمين الخائفين وهم يقتحمون البيوت وينفذون الاعتقالات والتخريب، يطلقون الرصاص والقنابل والرعب في المكان، براء مستيقظ بكوفيته ونكافته وكوم حجارته، مملوء بالدم والنبض والغضب، لا ينام الشبان في المخيم ، حراس الحقيقة، يأتون من على اسطح المنازل ، من خلف السناسل، يخرجون من الأزقة ، المخيم لم ينم منذ سبعين عاما ولن ينام، الابواب مفتوحة كما الاجساد، ينتظرون ، يتطاير لحمهم، تتراءى في اشتباكات مخيم الدهيشة كل القرى المدفونة وقد نامت على أذرع الفتية المنتفضين، هنا عكا وحيفا وعلار وزكريا وبيت نتيف والمالحة وراس ابو عمار ودير ابان والولجة وبيت عطاب والقبو، ومئات القرى المنكوبة التي عادت كالمطر يهطل فجأة غضبا وثورة فوق جنود عابرين.

لا تدفنوني، اطحنوا عظامي واصنعوا منها خبزا للفقراء، كتب ذلك براء على صفحته قبل ان يسقط شهيدا في فجر مخيم الدهيشة يوم الجمعة 21/7/2017 وقبل الصلاة، يسقط براء ولكن الفكرة لا تسقط ، ها هو يهتك الصمت المفرغ من الصراخ ، هو يستعيد رغيفه وكرامته ويحيا، أقام الصلاة في الجامع والكنيسة وأضاء السماء.

لا تدفنوني، اطحنوا عظامي واصنعوا منها خبزا للفقراء، تحركوا ايها الاحياء الباقين، قضيتنا لن تكون حكاية صغيرة بين مستوطنة هنا ومستوطنة هناك، وقضيتنا لن تكون مجرد شارع صغير بين حاجز للموت في الخليل وآخر في نابلس، وقضيتنا ليست معلقة في الهواء بين سلام وهمي وصفقات كبرى أو صغرى، قضيتنا ليست مراثي وجنازات وشعارات، تحركوا وكونوا اكثر وضوحا من وهج الرصاص، وأكبر من جدران تحشر آلاف المعتقلين خلف الظلمات.

براء يعود الى لحمه، ينزع قيوده وكل القيود من الرقاب، ينهض حيا وهو يتكامل ويتوحد مع ثماني شهداء سقطوا في جنين ورام الله والقدس والخليل ، ويقود كتيبة في مساء الدهيشة، يصير له يدا سماوية، والجميع رأى حبيبته تلوح له بمنديل الحرية.

لا تدفنوني، اطحنوا عظامي واصنعوا منها خبزا للفقراء، هي وصيته الانسانية، هي ثورة روحه العنيدة العصية ، لا تسرقوا رغيفنا وحياتنا ووطننا، نحن لا نريد كسرة بائسة من تسوية او سلام حوّل البلد الى سجن ضيق ، ونحن لا نريد ان نبقى عبيدا لراس المال السياسي وأصحاب العقارات، ومن حولوا الوطن الى سوق وباعوا كرامتنا ورمونا على الارصفة كالايتام.

براء يقول كل شيء، جسده قذيفة ورسالة ورياح تهب وتعصف بكل الحثالات، هو يردد نشيد الجوع القديم لشاعر المخيم خليل زقطان ويقسم:

قسما بجوع اللاجئين وعري سكان الخيام

لنصارعن الموت من أجل الوصول الى المرام

براء حمامدة الشاهد على مئات الشهداء اللذين سقطوا في أزقة المخيم، الشاهد على مئات الشبان الذين حطم الرصاص ركبهم وصاروا معاقين، الشاهد على الموت المستباح وغياب العدالة الكونية، وهو الذي علق اللافتة على باب المخيم يحذر المدعو الكابتن (نضال) من دخول المخيم، ويذكره ان هذا المخيم هو من اسقط السياج والبوابات وطرد الحاخاميين، وان خمس حارات تنتظره في ليل دهيشي اعتاد الموت وتعامل مع الموت، واطلق ابناؤه من سجن النقب اناشيد الانتفاضات والإرادات.

لا تدفنوني، اطحنوا عظامي واصنعوا منها خبزا للفقراء، حملناه على الاكتاف، زرعناه فوق تلة بين شجيرات زيتون خضراء، وكانت الارض ماء، وكانت الاحلام والاغاني تتطاير مع دمه خارجة من الذاكرة، خريطة جديدة لليلة اشتباك أخرى في مخيم الدهيشة.

براء حمامدة العاشق المسافر الراحل من بؤس الخيمة الى المقاومة والتمرد، الصاعد العالي المترفع، لم يستطع ان يودع حبيبته الجميلة ، رأيناها في الجنازة تحاول ان تكتب جوابا ردا على رسالته الاخيرة عندما قال لها: (تزعليش حبيبك، وتحكي بكره براضيه، حبيبك ابن مخيم، يعني يمكن تصحي من النوم ويحكولك استشهد الغالي..)!

(براء يقول لها: لا تكتبي جوابا، لا تقولي شيئا، انني اعود اليك كما يعود الحبيب الى ملجأه الوحيد، الى حضنك الدافيء، وسأظل اعود، انا من شعب يشتعل حبا..)

قولي لكل الناس ما قاله الثائر الاسكتلندي وليام والاس: كل رجل يموت، ولكن ليس كل رجل يعيش حقا ..

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا