الرئيسيةمختاراتتقارير وتحقيقاتمعصرة بديا القديمة.. 100 عام على هرس الزيتون

معصرة بديا القديمة.. 100 عام على هرس الزيتون

يامن نوباني وعُلا موقدي

حين يدور الحجر المخصص لهرس حبات الزيتون، فهو أيضا يدور بنا إلى الخلف، إلى عشرات السنوات التي خلت، إلى زمن ما قبل ماكينات عصر الزيتون الحديثة.

في بلدة بديا، إلى الغرب من سلفيت، ما زالت هناك معصرة تقليدية (نصف أتوماتيكية) أنشئت في ثلاثينات القرن الماضي، وأغلقت بين أعوام 1964-1994، تعمل على استخراج زيت الزيتون عبر العجل الصخري “الاسطوانة الحجرية”. اشتراه أسامة عودة في بدايات التسعينات، من معصرة قديمة، وهو من الجرانيت الايطالي الصلب ويعمل لأكثر من أربعين عاما، وبحسب جهاز الاحصاء المركزي (2015) فإن 25 معصرة قديمة ونصف اوتوماتيكية تعمل في فلسطين، تقابلها 247 معصرة أوتوماتيكية “حديثة”، و17 معصرة مغلقة.

لا يُبدد سكون الحارة التي تحوي المعصرة، ببيوتها العتيقة وشوارعها الضيقة، إلا صوت الاسطوانة الحجرية وهي تدك الزيتون.

تعود معصرة بديا إلى الزمن الذي لم يكن يتحرك فيه خلال أيام موسم قطاف الزيتون في الحارات سوى الدجاج، بحسب الحاجة شوقيه سلامة (68) عاما، التي تضيف: وعيت للدنيا والمعصرة موجودة، وكنت أذهب مع أهلي إليها في نهاية الخمسينات، وبداية الستينات، كان مشهد الحجر وهو يلف ممتع جدا، نعبي الزيتون في “الجون” وهي سلة كبيرة، نحطه على روسنا ونروح نعصره، ونرجع الزيت على روسنا، ومرات ننقله على الدواب، وكان موسم الزيتون شهي بأكلاته الشعبية، كالمبسبس والمطبق والمفتول.

في قلب واحدة من أغنى المناطق الفلسطينية بأشجار الزيتون، توجد قرية بديا والواقعة 50 كم شمال – غرب القدس، و 25 كم إلى الغرب من ساحل البحر الأبيض المتوسط، وعلى ارتفاع حوالي 300 متر فوق مستوى سطح البحر.

معنى كلمة “بديا” في اللغة “الآرامية القديمة”، لغة السيد المسيح مشتق من كلمه “بد أو بده” والتي تعني العجل الحجري الثقيل/ على شكل أسطوانة دائرية، والذي تم استخدامه لطحن ثمار الزيتون لإنتاج الزيت البكر الفاخر.

خلل في قشاط الرافعة حرمنا من مشاهدة حبات الزيتون وهي تصعد من حوض التجميع عبر القشاط الكهربائي لتدخل حوض الغسيل، ما دفع عامل المعصرة إلى رفعه يدويا وإفراغه في حوض الغسيل. ينخرط الزيتون في الماء، ليدور، مُحولا لون الماء إلى درجات من اللون البني، وهي أوساخ الزيتون، قبل أن يهبط إلى حوض تجميع يصعد من خلاله إلى آلة الهرس عبر حجرين دائريين ضخمين.

صاحب معصرة بديا القديمة، الدكتور أسامة عودة، عاد بنا إلى جذور كلمة “بديا” قائلا: ما زالوا في البلدة يسمونها بالبد الروماني لأنها تعود الى الحقبة الرومانية من تاريخ بديا، واللذين كانوا في الصخر يحفرون حفرة ويبدأون بهرس حب الزيتون بحجر واضافة الماء، وكون الزيت أخف من الماء يطفح الزيت ويمشوه بالقناة ويأخذوه بالطريقة البسيطة، (هرس وطحن الزيتون على الحجر) وهذا معنى كلمة بديا.

ويضيف: قديما كان من يعمل في المعاصر يطلق عليه اسم “البدادين”، المشتقة من كلمة بد، وتاريخنا مرتبط بشجرة الزيتون، وفلسطين هي منشأ وأحد أفضل وأقدم أصناف الزيتون “الزيتون الروماني”، من هنا بدأت شجرة الزيتون رحلتها حول العالم، من شواطئ شرق المتوسط نحو جنوب اوروبا عبر قبرص تركيا اليونان ايطاليا الى فرنسا واسبانيا وايضا شمال افريقيا، وبحسب معطيات مجلس الزيتون العالمي، ففي شمال فلسطين وبالتحديد منطقة الجليل الحفريات التي عملت هناك وجدت تجمع معاصر الزيتون، البدود الرومانية القديمة والاواني الخزفية لتخزين الزيت قبل 400/600 عام قبل الميلاد وقدرت كمية الزيت التي تنتج وتخزن هناك ب 600 طن. في العصر القديم في الصناعة الزراعية وهذا حسب المعطيات يعتبر اقدم واكبر انتاج زراعي صناعي في تاريخ البشرية على الاطلاق وهذا تاريخ على مستوى الحضارة العالمية كلها يدل على أنه فلسطين التاريخية هي منشأ الزيت والزيتون. والذي كان يُصَدَر إلى مصر والفراعنة، حتى يقال أن الصابون النابلسي كان يُرسل للملكة فكتوريا.

حصلت عائلة عودة عام 1945/ 1946 على المركز الأول في احدى المسابقات المتخصصة بأجود إنتاج لزيت الزيتون، أقيمت هذه المسابقة من قبل دائرة الزراعة مصائد الأسماك خلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، بفخر يلتفت عودة إلى شهادة معلقة فوق رأسه في مكتبه، ساردا: في عام 1945 “زمن الانتداب البريطاني” تقدمنا إلى جائزة خاصة بالزيت والزيتون، وحصلنا على المركز الأول في جودة زيت الزيتون، الجائزة مكتوبة بثلاث لغات، العربية والانجليزية و”العبرية”، حيث كانت الأخيرة مستخدمة في زمن الانتداب البريطاني كتهيئة وتوطيد لليهود.

ويضيف عودة: قد تكون معصرتنا صغيرة، لكنها مميزة بمحافظتها على نكهة واصالة التاريخ في هذا العمل، باستخدام الحجر مع الماكنة الحديثة لفصل الزيت، كانت لدينا مكابس وحولناها الى توربين، ولكن الاساس هو الحجر الذي يهرس الزيتون ويخرج عصارة أطيب من الزيت الذي يخرج بماكنة الجرش لوحدها، وهذا ليس تقليل من شأن المعاصر الحديثة، فهي أيضا تصنع زيتا جيدا ولها ايجابياتها وسلبياتها كما للمعاصر القديمة، لكن الفحوصات المخبرية والتحاليل أثبتت أن الزيت المهروس بالحجر أكثر جودة.

ويرى أن عمله هذا هو احياء والتصاق بالتاريخ العائلي والوطني، ورد جميل للأرض والزيتون المعمر والذي يستخرج منه أجود زيوت العالم، واغناء اسم بلديته “بديا” عبر استخدامها كعلامة تجارية على عبوات الزيت ومشتقات الزيتون من أدوية ومواد تجميلية، ونقلها إلى العديد من دول العالم، أهمها “ماليزيا” التي تعد السوق المركزي الذي يعتمده عودة.

يشارك عودة مع ولديه في العديد من المؤتمرات الدولية الخاصة بزيت الزيتون مشتقاته، يتحدث عن احداها قائلا: في أيلول الماضي ذهبنا إلى تايلند، لتصنيع وتسويق الزيت بطرق مبتكرة، زيت بنكهات للعناية بالبشرة والجلد، وصدرنا منتجا تجميليا يضم أربع نكهات طبيعية تستخدم في الزيت، النكهات تعطي: السعادة، الحرير، الشباب، السلام. كما توضح العلبة الصغيرة التي كتبت عليها النكهات باللغتين العربية والانجليزية.

وأضاف: ذكر الزيت في القرآن كمادة علاجية للجلد والعديد من الأمراض والأوجاع، اضافة إلى دهن الأطفال حديثي الولادة. وفي احدى المرات قمنا بعمل فحص في ماليزيا المعطيات دلت كالاتي: نسبة فيتامين (E)، كانت 19.2 ملغم لكل 100 كغم بينما الزيوت الرايقة نسبة هذا الفيتامين لا تزيد عن 12 ملغم اذا نحن أكثر بمرة ونصف أغنى بهذا الفيتامين.

ويقول عودة: عرفت عائلتنا على مرّ الأجيال، كواحدة من أهم وأكثر العائلات شهرة في إنتاج زيت الزيتون في منطقة بديا وفلسطين التاريخية. نظراً لخبرته المتراكمة في مجال الزيت والزيتون على مدى ثلاثين عاماً وأكثر، وبهدف تحقيق حلمه في هذا المجال، قام عودة بتأسيس الشركة الزراعية التكنوكيماوية في عام 1993، قائلا: ان الرؤيا الرئيسية “الحلم” تتمثل في تعريف العالم بواحد من افخر انواع زيت الزيتون وأكثرها تميزاً والمتحدر من اقدم اشجار الزيتون في فلسطين والعالم اجمع والذي ما زال يتم انتاجه بالطرق التقليدية – معصرة الحجر.

ويتابع: ان قيامنا بإعادة إحياء معصرة العائلة التاريخية وتشغيلها مجدداً في بداية التسعينيات (1994)، كان يهدف اساساً الى خدمة المجتمع المحلي عبر عصر الزيتون لأبناء القرية خلال الموسم وكذلك بيع الزيت بالجملة في السوق المحلي، وبعد بضع سنين بدأنا ببيع أولى قناني الزيت في بعض المحال التجارية في السوق الفلسطيني المحلي. على اثر مشاركتنا في بعض المعارض الدولية المتخصصة ومنذ العام 2008م، بدأنا بالنشاطات التصديرية الأولى لزيت الزيتون وخاصة الى سوق ماليزيا. إن التركيز على السوق الماليزي ومشاركتنا النشطة في العديد من المعارض الدولية هناك كان من اسباب مضاعفة مبيعاتنا في ذلك السوق بعدة مرات خلال السنوات الخمس الأخيرة. إنّ الحفاظ على ” الجودة العالية لزيت الزيتون الفلسطيني” الذي ننتجه كان على رأس أولوياتنا ولقد كان لذلك الفضل الأكبر في الطلب المتنامي باستمرار على منتجاتنا من زيت الزيتون في السوق الماليزي. بناءً على ذلك، أخذنا على عاتقنا التوسع في توزيع سلة المنتجات المستخلصة من زيت الزيتون بأشكالها المختلفة، وبالأخص منتجات العناية بالصحة والبشرة، وإدخالها الى اسواق جديدة كلياً.

زيت الزيتون الفلسطيني البكر الممتاز بمذاقه الغني ورائحته العطرة، و احتوائه على نسبة عالية من المركبات الثانوية (كمضادات الأكسدة، والبوليفينول، وفيتامين E، وغيرها)، سببه الأساسي هو أصناف أشجار الزيتون المحلية والتربة والمناخ الذي تعيش فيه هذه الشجرة المباركة. ومما يسهم أيضاً في ذلك، عملية عصر الزيتون الخاصة في معاصرنا حيث نستخدم المعاصر الحجرية والتي كانت تستخدم بنفس الطريقة تقريباً قبل أكثر من ألفي عام.

ويقول عودة: منتجاتنا من زيت الزيتون تمتلك العديد من الميزات والفوائد: مذاق ورائحة غنيين بعبق التاريخ كونه، “منتج تاريخي” يعود في طرق إنتاجه الى العصر الروماني القديم، والتركيز العالي من مضادات الأكسدة، وفيتامين E، والبوليفينولات وعناصر أخرى مفيدة، كما أنمنتجاتنا تحمل فوائد طبية متعددة كتحفيز الكوليسترول المفيد، وخفض الكوليسترول الضار في الجسم، بالإضافة إلى المساعدة في الحد من العديد من أمراض القلب، والأوعية الدموية.

ولزيتنا تأثير رائع وناعم على البشرة، فعند استعماله على الجسم وفركه، يتغلغل زيت الزيتون عميقاً في البشرة عاملاً على تقليل المواد السامة وتجديد خلايا البشرة وتقليل التجاعيد، ومريح للعضلات المرهقة، وعندما يستخدم للتدليك والمساج فإنه يعمل على تنعيم البشرة وترطيب البشرة الجافة.و ينصح أيضاً باستعمال منتجاتنا من زيت الزيتون البكر كمنظف ومزيل طبيعي للمكياج،كما يترك الزيتون البكر الشعر ناعماً، معطياً إياه لمسة صحية ولامعة، وأيضاً ينصح به لتقوية الأظافر ومعالجتها وتحسين مظهرها.

وحول الفرق بين معصرة الحجر والمعاصر الحديثة يقول عودة: مبدأ الحجر هو الجاروشة ، ثمرة الزيتون ثلثها زيت والثلث الثاني المواد الصلبة النواة والمتبقي السيليلوز واللب التي تحتوي عليها / ثلث الثلث، الزيت موجود كحويصلات صغيرة في اللب يلتف حول النواة وداخل النواة كمية قليلة عبارة عن أكياس صغيرة من الزيت، المبدأ أن تكسر هذه الثمرة الى اجزاء لا تزيد عن 6 ملم والجفت هو متبقي الزيت وهذه العملية تبدأ بتنزيل الزيت من الأنسجة والماء مع المادة الصلبة . تقطيع الحبة بالجاروشة يقطعها بأجزاء لا تزيد عن 6 ملم هذه الاجزاء الصغيرة العصارة التي تحتوي على الفيتامينات ومضادات الأكسدة.

ويتابع: الفرق في الحجر بعد عملية التقطيع الى أجزاء صغيرة يتم طحنها على الحجر الذي يعمل هرس حتى لهذه الاجزاء الصغيرة يعصرها أكثر ومن ثم يطلع العصارة من الاجزاء التي لم تخرج منها ويخلطها بالزيت، وهذا يعني اذا تقطعت الثمرة على الجاروشة يعني أن هناك اجزاء لم تنزل منها العصارة كما يجب، الى الخلطة نفسها.

ويضيف عودة: نسبة مضادات الأكسدة في الزيوت الجيدة 400 ملغم على اللتر الى 500 ، زيت الزيتون الفلسطيني يأتي في المرحلة العليا 400 وفوق، هذه العصارة في اجزاء الثمرة عند تقطيعها في الجاروشة تكون نسبتها لنفرض 1200 ملغم او 800 ملغم نصفها يذوب في الزيت أو اقل من النصف لانه يميل للذوبان في الماء اكثر من الزيت ، في حالة الطحن على الحجر تخرج كمية عصارة أكثر بدل 900 ملغم في اللتر تصبح 1500.

ويبين عودة: الجودة أن الحجر لا يعطي حرارة على الاطلاق الجاروشة تعطي حرارة خفيفة وتؤثر على العصارة والنكهة والجودة لكن بنسبة قليلة، لأن الحرارة حسب قانون مجلس الزيت العالمي يجب أن لا تزيد درجة الحرارة في أي مرحلة من مراحل انتاج الزيت سواء طحن أو تخليط او ضرب على التوربين او اضافة مياه عن 28 درجة مئوية حتى يكون بكر ممتاز، لذا العصر على الحجر البارد طحن اخراج للعصارات أكثر واغناء الزيت بالعصارة الطبيعية الموجودة في الثمرة أكثر من الجاروشة نفسها

نحن نستخدم الجاروشة لطحن الحبة الى أجزاء ثم ننزلهم الى الحجر ونهرس على الحجر حتى تخرج العصارة أكثر من أجزاء الثمرات. مضيفا أن أكثر المعاصر في فلسطين هي المعاصر الاتوماتيكية الحديثة تعمل مبدأ الطرد المركزي السريع يتم فيها فصل الزيت والماء والجفت بعضها عن بعض ويعطينا الزيت، وتتلاشى المكابس التي تأخذ جهدا كبيرا في الشغل ومشاكلها التقنية، حيث تمتاز المعاصر الحديثة بسرعة الانتاج والفعالية.

شيء شخصي بين الفلسطيني وزيت الزيتون، يجعل وجهه وقلبه يضحكان لرؤية انتاجه من الزيت ينسكب في وعاء، البعض يأتي برغيف خبز ليبدأ الغمس، وهي عادة رائجة ومحببة منذ القدم، لكنها آخذة بالتلاشي، والبعض يتناول هاتفه ليطمئن عائلته على سيل الزيت، ويذهب آخرون إلى التقاط صور عفوية لانسكاب الزيت في التنك ونشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مرفقة بعبارات: الحمد والشكر لله، أول عصرة، وغيرها من عبارات المباركة والفرح. وصفه الشاعر مريد البرغوثي: “زيت الزيتون بالنسبة للفلسطيني هو هدية المسافر، اطمئنان العروس، مكافأة الخريف، ثروة العائلة عبر القرون، زهو الفلاحات في مساء السنة، وغرور الجرار.”

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا