الرئيسيةمختاراتمقالاترسـائـل الـفـلـسـطـيـنـيـيـن الـثـلاث كتب محمد ياغي

رسـائـل الـفـلـسـطـيـنـيـيـن الـثـلاث كتب محمد ياغي

دخلت الهبة الشعبية الفلسطينية شهرها الرابع دون أن يظهر ما يفيد بأنها في طريقها للتراجع. ما حدث مؤخراً من قيام شرطي فلسطيني بإطلاق النار على جنود إسرائيليين أو قيام ثلاثة شبان من قباطية بدخول القدس لتنفيذ عمل عسكري يؤكد بأن ما يجري ليس مجرد حالة غضب ستنتهي مع مرور الوقت، ولكنها فعل مستمر وامتداد لمائة عام من المقاومة التي لن تنتهي بدون حصول الشعب الفلسطيني على الحد الأدنى من حقوقه التاريخية.
إذا كان ما ميز الانتفاضة الفلسطينية الأولى هو قدرتها على إعادة القضية الفلسطينية بقوة على أجندة المجتمع الدولي والعربي بعد خروج منظمة التحرير من بيروت، وإذا كان ما ميز الانتفاضة الفلسطينية الثانية – على الرغم من جميع الأخطاء التي صاحبتها- هو تأكيد الشعب الفلسطيني بأنه لن يقبل بأقل من دولة كاملة السيادة على جميع الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ العام 1967، فإن ما يميز الهبة الشعبية اليوم هو تلك الرسائل الواضحة التي ترسلها في عدة اتجاهات في نفس الوقت، والتي يمكن اختصارها بالتالي:
أولاً، أن الفلسطينيين لن يقبلوا باستمرار الوضع القائم أياً كان الثمن. سياسة تهويد القدس والإذلال على الحواجز واستمرار الاستيطان، والتحكم بحركة الفلسطينيين واقتصادهم لن تمر بدون مقاومة. إذا كانت إسرائيل تعتقد بأن حالة الانهيار التي يعيشها العالم العربي، والتنسيق مع بعض الدول العربية لمواجهة إيران، تعطيها الشعور بأن بإمكانها ابتلاع الضفة دون أن يتحرك أحد لردعها، فإن الهبة الشعبية تؤكد بأن ذلك لن يتم وبأن الفلسطينيين سيضعون القضية الفلسطينية مجدداً على أجندات الجميع.
في هذا المجال كان لافتاً حديث بان كي مون، السكرتير العام للأمم المتحدة، بأن المسؤولية عن العنف في الأراضي الفلسطينية تتحملها دولة الاحتلال، وبأن التاريخ يُذكرنا بأنه حيث يوجد احتلال توجد مقاومة. كي مون ليس وحيداً، وهنالك عشرات الدول في العالم ومئات المنظمات غير الحكومية وآلاف الشخصيات العالمية ممن يتحدثون بنفس اللغة.
صحيح بأن العرب الغارقين في حروب أهلية لم يتكرموا على الفلسطينيين بتصريح مُشابه بسبب احتلال إيران لأجندتهم، لكن الأيام القادمة ستثبت بأن الهبة الشعبية الفلسطينية ستضع في طريقهم عقبات لن يتمكنوا من تجاوزها في تطبيع علاقاتهم بإسرائيل، وبأن هذه العلاقات التي تبجح نتنياهو بالحديث عنها مؤخراً ستبقى علاقات مُحرمة ما لم يتم إنهاء الاحتلال، وفي أفضل الأحوال علاقات معزولة لا وزن شعبياً لها أو لنقل مجرد سفارات معزولة بجدران عالية وأسياج شائكه وبحراسة دبابات تأكيداً على عدم شرعيتها.
والهبة الشعبية فرضت نفسها على إسرائيل بكل قوة. المسألة ليست فقط حالة انعدام الأمن التي أصبح يعيشها جنود الاحتلال ومستوطنوه، ولكن فشل سياسة عزل الفلسطينيين خلف الجدار. سياسة “نحن هنا وهم هنالك ولا نريد أن نسمع عنهم شيئاً” وصلت لنهايتها. الفلسطينيون أصبحوا يحتلون عناوين أخبارهم، أحاديثهم اليومية في المقاهي، والنقاشات الأسبوعية لجلسات حكومتهم. صحيح بأن الهبة الشعبية وبسبب طابعها العنيف أوجدت حالة من الكراهية للفلسطينيين في الداخل الإسرائيلي. بمعنى أنها لا تساعد بسبب عنفها على قيام حركة تضامن إسرائيلي ذات قيمة أو فاعلية. لكن الحقيقة أيضاً هي أن حالة عدم الفعل من جانب الفلسطينيين قد أوجدت يميناً إسرائيلياً متطرفاً ذي أغلبيه يجاهر صراحة بأنه لا يريد دولة فلسطينية وأن الاستيطان سيستمر وأن سياساته كانت ناجحة. اليوم توجد حالة جنون داخل المجتمع الإسرائيلي تحرض على قتل الفلسطينيين، لكن مع مرور الوقت سيكتشف الإسرائيليون بأن هذه السياسة لا تنهي الحراك الشعبي الفلسطيني ولكنها ستساهم في تجذيره وسيخرج من بين الإسرائيليين من يقول بأن سياسة اليمين فشلت وبأن الحل ليس في المزيد من القتل ولكن بإنهاء الاحتلال.
ثانياً، أن الفلسطينيين سئموا الحديث عن مشاريع لإنهاء الانقسام الفلسطيني وهم لم يعودوا قادرين على احتمال سماع تبادل التهم بين “حماس” و “فتح” عمن يتحمل المسؤولية أكثر في بقاء الانقسام. يبدو لي بأن رسالة المنتفضين واضحة: المقاومة توحد لأنها تتطلب تضحيات وتعاونا وتلاحما، ولأن العدو هو الذي يحاصر غزة ويبتلع الأرض في الضفة ويحرم الفلسطينيين من قدسهم.
الفلسطينيون بفطرتهم أدركوا بأن الانقسام السياسي بين سلطتي رام الله وغزة غير قابل للانتهاء بعيداً عن فعلهم المباشر لأنه انقسام يتمحور على صلاحيات وامتيازات وسياسات بين فريقين لا يستطيعان التفاوض فيما بينهم بشكل حر بسبب وجود عوامل محلية وإقليمية ودولية ضاغطة على الطرفين. بمعنى أوضح الفلسطيني يدرك بأن أيدي السلطة في رام الله مقيدة باتفاقات وعلاقات دولية تقلل من هامش التنازلات التي يمكنها أن تقدمها، والفلسطيني يدرك بأن سلطة غزة ليس في وارد التنازل عن أي شيء قد يضعف أو يحد من حركة جناحها العسكري أو الامتيازات التي تتمتع بها اليوم منفردة في غزة.
ثالثاً، أن الفلسطينيين لن ينتظروا التنظيمات الفلسطينية حتى تبادر بالفعل وأنهم قادرون على بناء حركة جماهيرية أفقية تستوعب التنظيمات الفلسطينية كأفراد وليس كقيادة لهم. بمعنى أن الفلسطينيين لا ينتظرون قيادة “حماس” أو”فتح” أو أيٍ من التنظيمات اليسارية لهم، وأن حركتهم أكبر من هذه التنظيمات جميعاً.
هذه الرسالة نابعة من قناعة أن التنظيمات الفلسطينية أصبحت أسيرة لمصالحها أكثر من برامجها، وبالتالي لم يعد بالإمكان التعويل عليها كثيراً في مسألة الصراع مع إسرائيل. إن لم تدرك التنظيمات الفلسطينية هذه الحقيقة الآن فستجد نفسها معزولة عن الشارع بمرور الوقت، أو ربما في منافسة حقيقية مع تنظيمات جديدة ستتشكل مع استمرار الفعل الشعبي.
الفارق بين الجديد والقديم، بين الحراك الأفقي الحالي وبين التنظيمات القائمة هو أن الجديد غير مقيد أو لا يريد أن يكون مقيدا بمصالح تحدد سقف حركته أو تَحدُ منها. هو لا يريد أن تكون الوظيفة أو قرض السيارة أو سداد القرض البنكي قيداً على فعله اليومي ضد الاحتلال. باختصار هو يريد أن يأخذ القضية الفلسطينية حيث يجب أن تكون صراعا بين شعب تحت الاحتلال ودولة مُحتلة تحاول فرض نفسها على كل جوانب حياة الشعب الفلسطيني.
هذه رسائل واضحة لمن يريد أن يقرأ المعنى الكامن خلف حراك شعبي عفوي يتجذر يومياً ليتحول إلى نهج ونمط حياة للفلسطينيين تحت الاحتلال.

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا