وتبقى قلنسوة

بقلم: محمّد علي طه

نحن أبناء جيل النّكبة الذين خسرنا بيوتنا وطفولتنا وأحلامنا وأصدقاءنا وجيراننا وعصافيرنا وينابيعنا وألعابنا وملاعبنا ما زال يكوينا الحنين ويشدّنا الشّوق إلى البيوت التي رأينا النّور فيها، وحبونا على مصاطبها، ودرجنا في فناءاتها، وحلمنا بين جدرانها وتحت سقوفها، وأودعناها ذكرياتنا الجميلة وضحكاتنا الهنيئة وحبّنا البريء.
في تلك القرنة في البيت استمعنا إلى قصص الشّاطر حسن والأميرة السّاحرة والعصفورة العجيبة روتها لنا الجدّات الطّيّبات والأمّهات الحنونات، وتركنا فيها ضحكاتنا وابتساماتنا وحبّنا وفرحنا.
في ساحة الدّار وفي ظلّ شجيرة الليمون أو في ظلّ شجرة الزنزلخت أو في ظل التّينة تركنا حكاياتنا وولدناتنا وأيّامنا الحلوة وما زالت تنادينا.
يقولون “الصّحّة تاجٌ على رؤوس الأصحّاء لا يراه إلّا المرضى” وأقول البيت قطعة من الجنّة لا يعرف قيمتها سوى الإنسان الذي يبتعد عنها أو يخسرها. البيت ليس حجارة وسقفًا وجدرانًا وغرفًا وشبابيك وأبوابًا بل هو الدّفء والمحبّة والطّمأنينة والرّاحة والذّكريات والأنفاس وحضن الأمّ وصدر الأب.
الذين يهدمون البيت يغتالون الذّكريات والدّفء ويطعنون المحبّة ويشنقون الطمأنينة.
هدمت جرّافات سلطان التّخويف والتّهويل والتّزوير أحد عشر بيتًا عربيًّا في مدينة قلنسوة لتغطّي ملفّات “فاحت ريحتها” ولترضي لصوصًا وحراميّة في “عمونا”.
أحد عشر بيتًا تعني إحدى عشرة عائلة وعشرات الأطفال وأزواجًا ورجالًا ونساءً وشيوخًا وأحلامًا وحياةً وحبًّا.
عندما شعر الرّجل الكبير بأنّ السّلطة تطير منه خرج “فارعًا دارعًا” وحذّر من احتلال العرب للحكومة ووزارة الدّفاع.
وعندما قتل مواطنٌ عربيّ مواطنًا يهوديًّا في تل أبيب نقل مكتبه إلى ناصية شارع ديزنغوف ليحذر من الطّابور الخامس.
وحينما احترقت الغابات اختلق تهمة انتفاضة الحرائق.
وحينما حكمت المحكمة العليا بهدم بيوت اللصوص في عمونا هدم بيوتنا في قلنسوة.
أحد عشر بيتًا تشهد أنّنا ما زلنا نخوض معركة البقاء في هذا الوطن الصّغير الجميل.
يهدمون بيتًا فنبني بيتين ويهدمون أحد عشر بيتًا فنبني حارة.
نيرون مات وبقيت روما. وكان الحكم العسكريّ وكان نتنياهو وتبقى قلنسوة ويبقى أهل قلنسوة.

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا