المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

سوء الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة تدفع بعض الغزّيين إلى الانتحار

لم تكن تحتاج تونس، إلاّ إلى “بوعزيزي” واحد في ديسمبر من عام 2010 لتفتتح “الرّبيع العربيّ”، وتنتقل من دولة يحكمها ديكتاتوريّ إلى دولة قانون وديموقراطيّة، فتحقّقت أهداف التونسيّين بعد “انتحار” بوعزيزي من خلال إحراقه لنفسه احتجاجا على سياسات الأمن الظالمة. إنّ الانتحار شنقاً أو حرقاً أو تسميماً، أصبحت وسيلة متّبعة عند من أُغلقت أمامهم كلّ طاقات الأمل، فالإقدام على الانتحار…

رفح-غزّة – لم تكن تحتاج تونس، إلاّ إلى “بوعزيزي” واحد في ديسمبر من عام 2010 لتفتتح “الرّبيع العربيّ”، وتنتقل من دولة يحكمها ديكتاتوريّ إلى دولة قانون وديموقراطيّة، فتحقّقت أهداف التونسيّين بعد “انتحار” بوعزيزي من خلال إحراقه لنفسه احتجاجا على سياسات الأمن الظالمة.

إنّ الانتحار شنقاً أو حرقاً أو تسميماً، أصبحت وسيلة متّبعة عند من أُغلقت أمامهم كلّ طاقات الأمل، فالإقدام على الانتحار بالنّسبة إليهم أسهل الطرق للراحة الأبديّة والتخلّص من الظلم الواقع عليهم بكافة أشكاله سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وكان قطاع غزّة المحاصر منذ أكثر من ثماني سنوات، والّذي يعاني من ويلات الانقسام، من أهمّ المناطق العربيّة التي دخلت خارطة الانتحار كتونس ومصر.

وكان أحد سكان مدينة رفح في جنوب قطاع غزّة رفض الكشف عن اسمه، يعمل في إحدى شركات النظافة العاملة في وزارة الصحّة، حتّى اكتشف إصابته بمرض التهاب الكبد الوبائيّ. وعلى الفور، فصله مدير الشركة من العمل. وفي هذا السّياق، قال لـ”المونيتور”: “كنت أتقاضى من عملي نحو مائتي دولار شهرياً، وأعيل أسرة كبيرة، فأصبحت بين عشيّة وضحاها أمدّ يدي إلى الناس لطلب المال حتّى أستطيع إعالة أسرتي”.

وبسبب الضغوط النفسيّة والاقتصاديّة الّتي واجهها فتحي بعد فصله من العمل، وبعد نحو ثلاثة أسابيع، تناول كميّة من “سم الفئران” لإنهاء حياته، غير أنّ عناية الله أنقذته من موت محقّق.

وتواصل مراسل “المونيتور” مع وزارتي الصحّة والداخليّة في غزّة، للحصول على إحصائيّات دقيقة عن أعداد “المنتحرين” في القطاع، إلا أنّهما لم تتعاونا معه ورفضتا إعطائه أية إحصائيات، في حجّة عدم وجود إحصائيّات لديهما.

ومن جهته، قال منسّق لجنة البحث الميدانيّ في مركز الميزان لحقوق الإنسان في غزّة سمير زقّوت: “ما تمكّن المركز من رصده خلال الثلاث سنوات الماضية هي 16 حالة انتحار، من بينها 14 حالة نجحت في ذلك”.

وأشار زقّوت لـ”المونيتور” إلى أنّ الانتحار ظاهرة جديدة على المجتمع الفلسطينيّ. ففي السّابق كان يتمّ رصد حال واحدة في العام، وقال: “أمّا اليوم فيوجد في قطاع غزّة الصغير مساحة وسكاناً مقارنة بالدول العربية لوحده هذا العدد الكبير. وأعتقد أنّ هذا الرقم كبير، نظراً إلى ثقافة المجتمع الفلسطينيّ المحافظ والمتديّن، فلم نكن نشهد حالات انتحار في السابق، إلاّ بعض حالات القتل على خلفيّة الشرف أو خلفيّة جنائيّة”.

ولفت إلى أنّ الأعداد خلال الثلاثة أعوام الأخيرة من تلك الّتي رصدها المركز كانت كلّها انتحاراً. وتعود أسباب الانتحار في غالبيّة تلك الحالات للهرب من الواقعين الاقتصاديّ والاجتماعيّ.

وشدّد على أنّ حالات الانتحار والعنف الداخليّ هي نتاج الضغط والإفقار وتدهور الأوضاع من دون أيّ تدخّل واضح من قبل الحكومات الفلسطينيّة، وقال: “هناك تجاهل كامل لمعاناة الناس، إضافة إلى صناعة مشكلات جديدة، فمثلاً مشكلة الانقطاع المزمن للتيّار الكهربائيّ بدا من الواضح أنّها مفتعلة، فهناك إدارة سيّئة وفساد واستبداد، ولا أحد يتحرّك في وجه كلّ هذه المشاكل”.

وقال مدير عيادة رفح النفسيّة الحكوميّة وإحدى العيادات الخاصّة الدّكتور يوسف عوض الله: “إنّ الانتحار عبارة عن أفكار تراكميّة سودويّة، بعدما تقفل كلّ الأبواب في وجه المنتحِر”. وأشار إلى أنّ الحروب الثلاث المتتالية والقاسية الّتي شنّتها اسرائيل على قطاع غزّة في فترة قياسية قصيرة لا تتجاوز الستّ سنوات، وما صنعته من أزمات نفسيّة وبطالة وفقر مدقع واكتئاب، كلّ ذلك ساهم إلى حد كبير في ذهاب المواطنين إلى الانتحار في محاولة للتخلّص من تلك المشاكل.

وبيّن عوض الله لـ”المونيتور” أنّ عدد الحالات الّتي تنجو من الانتحار في مدينة رفح،

وتقصده للعلاج تتراوح بين حال إلى حالتين شهريّاً، وقال: “تكون نسبة الرّجال ثلاثة أضعاف حالات النّساء. وإنّ أغلب طرق الانتحار تتراوح بين الشنق والقفز من أماكن عالية وإطلاق النار على النفس. أمّا النساء فيقمن بتناول الأدوية”.

أضاف: “وفق تقديري، فإنّ ما بين كلّ مائة شخص هناك نسبة تتراوح بين 80 و90 في المئة منهم يعانون من أمراض اضطرابات نفسيّة، وتعود أسباب هذه الأمراض إلى عوامل وراثيّة، إضافة إلى مشاكل اجتماعيّة واقتصاديّة”.

وتوقّع عوض الله أن تزداد أعداد حالات الانتحار في الأيّام المقبلة، بسبب تدهور الأوضاع في قطاع غزّة، وقال: “لا يوجد بصيص أمل في أن يتوقّف الحصار الاسرائيليّ للقطاع أو في تحسّن الوضع. كنّا في السّابق نقول إنّ الموظّفين التابعين لحماس في غزّة لا يستلمون رواتب. واليوم، انضمّ إليهم موظّفو السلطة. لذلك، فإنّ الأوضاع آخذة في التدهور، وحالات الانتحار سترتفع”.

ومع بقاء المواطن الغزّي رازحاً بين الحصار الإسرائيليّ وما خلّفه من مشاكل اقتصاديّة واجتماعيّة ونفسيّة وإهمال المسؤولين، تكون وسائله للتّعبير عن معاناته محدودة، ومن بينها محاولة الانتحار.

كتب محمد عثمان – “المونيتور”

Exit mobile version