المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

في طيرة حيفا التقت أصابع «يد النكبة» ! كتب حسن البطل

الطيرة كبيرة. العالم صغير. يد النكبة فرّقت طيراويّة حيفا في العالم الكبير. توزّعوا أيدي سبأ.
يوم 12 حزيران، آخر أيام هزيمة حزيران، تجمّعت أصابع يد النكبة، في اليد أربع أصابع، وخامسها هذا الإبهام. كنا أربعة. ثلاثة رجال وامرأة. صرنا في طيرة حيفا خمس أصابع مع الإبهام. الإبهام هو أم حسين التسعينيّة.
الثلاثة من طيراويّة سورية: محمد. أحمد. حسن. الثلاثة من دوما المنكوبة. اثنان وُلِدا في دوما، وعاشا في اليرموك المنكوب. ساهرة الطيراويّة تسجّل بكاميرا فيديو وقائع وشهادات زيارة غريبة في الطريق من قلنديا إلى الطيرة فقلنديا لثلاثة رجال.
اصبع الإبهام هو سيّد أصابع اليد. إنه ملك البصمة، والبصمة هي أم حسين وذريتها في الطيرة. عائلة طيراويّة وحيدة في الطيرة.
أم حسين هي النهر، هي زيتونة الطيرة، ونحن فروع النهر وجداوله. لمّا حكت أبكت أحمد وأبكتني، لكن محمد لم يبكِ، فهو كأنه صار من عائلة أم حسين.
أم حسين هي اصبع الإبهام، ومحمد اصبع السبّابة، وساهرة الاصبع الوسطى.. وهكذا يُدوِّنون بالقلم. وهكذا يروون قصة يد النكبة. أو قصة حياتهم في الشتات وفي البلاد.
أم حسين هجَّجَتها يد النكبة إلى لبنان، فسورية.. فأقصى سورية بلدة عفرين قرب حلب. كانت في الـ25 من عمرها. وكان لها ستة أولاد.. عادت لهم، جميعاً، إلى الطيرة بعد سنتين من النكبة.
محمد، سائق سيارة البيجو 107 من قلنديا إلى الطيرة فقلنديا، له قصة. ولد في دوما، عاش في اليرموك. غادر إلى فرنسا 1986. درس علم البيئة، تزوج فرنسية، عاد إلى البلاد بجوازه الفرنسي. إنه أستاذ البيئة في جامعة القدس ـ أبو ديس.
لماذا هو اسكندنافي الملامح؟ يا له من اكتشاف. هو سليل أم محمد عمرين، الروسية ـ الفلسطينية، التي جاء بها محارب طيراوي في الجيش العثماني على الطيرة، وهجَّجَتها النكبة إلى دوما.
كنت في دوما، وأولاد الأبطح ويعقوب من عائلات أصدقاء الطفولة. معظم فلسطينيي دوما من الطيرة. قسم من سكان اليرموك طيراوية ولوابنة (من لوبيا). أحمد الطيراوي تزوّج فلسطينية أصلها من النقب. هارب من غزة إلى رام الله لأن فتوى أصولية أهدرت دمه.. ويحاول لمّ شمل عائله من غزة إلى رام الله.. يا للغرابة!
وجه الغرابة في قصة محمد الأبطح الطيراوي ـ الفرنسي ـ سليل «الموسكوفية» أم محمد عمرين، أن زوجته الفرنسية كانت حاملاً، وأصرّ محمد على أن تضع طفلتها في مستشفى بالطيرة، وتحمل اسم «نور الكرمل».
ساهرة وثّقت قصة الطيرة بأفلام تسجيلية وصور فوتوغراف ورواية والدها المرحوم جمعة، وفي النتيجة، وعلى شرفة بيتها في حيفا، كانت طفلتا أخيها تلهوان، بلعبة كلب قطنية. فجأة قالت ابنة الخامسة والصف الأول: بدّي أبعث اللعبة لأطفال غزة!
أدهشتني أم حسين، فهي في عمر الـ92 عاماً، وذاكرتها حديد وسمعها وبصرها، أيضاً، وتسألني عن ذرية عيسى البطل، زعيم تنظيم «الكفّ الأسود» في ثورة عز الدين القسام 1936، وعن مصباح أبي، وحسين أخي.
العالم كبير، والطيرة صغيرة، لكن صار العالم صغير لما التقى طيراويّة الشتات بطيراويّة البلاد أربع أصابع.. والإبهام هو أم حسين عيونها عصيّة الدمع في هذا العمر، وهذه ثالث مرّة أبكي فيها منذ عودتي الأوسلوية. بكى أحمد فبكيت.
مرّة في زيارتي الخاطفة الأولى شتاء 1995، وكانت رسمية، ابنة خالة أمي تقيم في الكبابير. عائلة طيراويّة واحدة من آل الباش في الكبابير، وعائلة طيراويّة واحدة في الطيرة. قال لها أحفادها: أجا ابن مصباح.. خرجت تهترج: قال عيسى البطل يللا.. ميت فارس على الأفراس هبوا.. يا حسرتي راحوا الطيراويّة راحوا!
أحمد زار الطيرة العام 2000، وآل ذرية أم حسين من نسايبه. محمد يزور الطيرة بانتظام، ربما لتلد زوجته مرّة ثانية في الطيرة.
«كأن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللّسان» وكأن الطيراويّة صاروا هم الفتى الفلسطيني، وصارت الطيرة مهوّدة وعبرية بالكامل مع الهجرة الروسية، وصار بيت فهد السلمان، آخر مخاتير الطيرة، مقراً لشرطة «طيرات هاكرمل».
رأيت قرى كثيرة، وأخال أن الطيرة هي من الأجمل. رأيتُ وديان جبال في بلاد كثيرة، ولا أخال وادياً أجمل من وادي ابو الجاع.
عدنا بحجارة هي بقايا بيوت طيراوية منسوفة، وأما المقابر الثلاث المحمية، فكأن حجارتها تعود إلى القمر اليباب!

حسن البطل

Exit mobile version