المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

في أدب السيرة الشعبية كتب أحمد دحبور

في امثالنا الدارجة، تعبير يتعلق بالكلام المجازي الذي لا يتجه الى المخاطب المباشر، بل اننا كثيرا ما تأملنا ذلك المكر الشعبي البسيط في القول الدارج: احكي معك يا جارة لتفهمي يا كنة، ثم كبرنا واتسع العالم حولنا حتى دخل هذا المثل البسيط في نسيج العلاقات الاجتماعية، بل انه اصبح احيانا اسلوبا في الحوار السياسي، ولعلي اذكر في هذا المجال طرفة عن قراقوش، ذلك الحاكم الجائر الذي تميز بالأحكام المستهجنة الغريبة، وكان قد كاد لأحد العاملين في الدولة، فأسقط فوق رأسه سقف البيت، مما أدى الى هلاك ذلك العامل المنكود، ولم يستطع أحد ان يراجع في شأن تلك الجريمة، حتى كان يوم خرج فيه ذلك الطاغية، مع ابي حسن البسطامي الذي قد لا يكون شخصية حقيقية بل اخترعه الخيال الشعبي ليمرر من خلاله رأيا أو فكرة مستهجنة فسأل قراقوش أبا حسن هذا عن آخر جريمة وقعت في البلاد، فتنهد الرجل الظريف وقال ان الحوادث كثيرة، فقد سطا بعض اللصوص على دارة المال، وعقر كلب ضال ابن مدير الشرطة، وسقط أحد بيوتكم يا سيدي على رأس وزيركم فهلك فورا، وكان قراقوش هذا هو الذي سعى الى هلاك وزيره، فابتسم وتأمل في وجه البسطامي سائلا: اذا كانت سرقة اللصوص معروفة للعامة، واصابة ابن مدير الشرطة على كل لسان، فما علاقة بيتي براس وزيري؟

فضحك البسطامي الماكر وقال: سبحان مسبب الاسباب لا سيما وانه سبحانه متخصص في تخليص حكمكم الرشيد من الاشرار، ولم يكن قراقوش بحاجة إلى من يفسر له قول البسطامي، فتصنع الدهشة وسأل: ما علاقة هذا الحادث المؤسف بما كنا فيه من حديث؟ وعندها لم يجد البسطامي وسيلة للتهرب من الموضوع، الا بتأكيد عفويته وسذاجته فقال: سلامة فهمك يا سيدي، اعلم ان سقفكم الحديد متحالف مع رأيكم الرشيد في مدير الشرطة العنيد.. حاشا لله ان تكونوا قد أمرتم بقتل الرجل، لكن سقف بيتكم مطيع لكم شأن الرعية كلها، فوفر عليكم ان تأمروا وتكسروا رأس المدير المخلص.. فضحك قراقوش واعجب بحسن تخلص البسطامي مع ان القاصي والداني يعلمان كيف هلك مدير الشرطة، ولأن الحكاية تحتاج إلى قفلة، فقد سأل قراقوش نديمه البسطامي، ما اذا كان يرغب في ان يخلف مدير الشرطة، فأجابه هذا على الفور ان القرب من حضرة مولاي غنيمة، ولكنني تعتريني حكة وحساسية من الغنائم فاعذرني يا مولاي، فضحك قراقوش واحب ان يواصل الدعابة المخيفة فقال: اغنمها ولو لمرة واحدة، واسقط في يد البسطامي واجاب خائفا: ان الغنيمة تلحقني بالغنم ومصير الغنم هو الساطور، فخير لي ان أكون الصاحب المهجور، من ان اكون من ملوك القبور، وفي الحكاية يا مولاي ان جديا مجربا اراد ان يخدع تيسا فحاول اقناعه في زيارة الذئب، وادرك التيس سوء نية الجدي، فنطحه بقرنه ومضى قائلا: الجدي لا يضحك على التيس.. ولم اسقط في يد التيس قال للجدي: جربني مرة واحدة، فضحك الجدي وهو يمعن في الفرار قائلا: الجدي لا يضحك على التيس ولكن انياب الذئب لا تفهم لغة الضحك.

وبمثل هذا النسيج الحكائي كان الاسلاف يروون حكمهم وامثالهم على مبدأ: نحكي مع الجارة لكي تفهم الكنة، وعلى هذه الفلسفة تأسست حكايات لافونتين الفرنسي، وقبله بزمان طويل شاعت حكايات ايسوب، وكان للعرب حصة في ذلك فابتدع ابن المقفع شخصيتي كليلة ودمنة وتناسلت الحكايات الشعبية المليئة بالحكمة على ألسنة الحيوان والطير، بل ان بعض الحكايات قد استضافت شخصيات آدمية قادرة على النطق بالحكمة واستخلاص العبر، واذا حاول بعض المعقدين ان ينتقصوا من النسب العربي هذه الحكايات فراحوا يشددون على اصول ابن المقفع الفارسية، فان الاطار الشرقي العام استطاع ان يجمع المأثورات والخراريف والحكم الشعبية من بطون مختلفة تجمع العربي الى الفارسي الى الهندي وصولا الى الصيني، واذا كان في الثقافة الاسلامي ان الحكمة يمانية، فإن المهاد الميثولوجي الشرقي نجح في دمج الثقافات الشرقية، حتى ان الف ليلة وليلة، وهي اشهر ما انتج الشرق من حكايات خرافية، قد اسرفت في استحضار اسماء العرب والفرس وكل ما يمت الى مناخنا الشرقي بما يحمله من توابل هندية وصينية وفارسية، والا فليتبرع احد المشغولين في هذا الامر بابلاغنا عن جنسية سندباد او علاء الدين الذي اصبح اسمه في الفلكلور الشعبي: الشاطر حسن.

لقد حسم الغرب نفسه هذه المنافسة البريئة واطلق على كتاب الف ليلة وليلة، عنوانا دالا هو “الليالي العربية” ومع ان الخلطة الثقافية المتوارثة تجمع شخصيات هذا الكتاب الساحر من جنسيات شرقية مختلفة، الا ان المناخ العام الذي افرز هذه الحكايات سمح لأم الحكايات الشعبية في التاريخ ان تسمى: الليالي العربية.. بل ان الحاكم الذي تستضيفه هذه الحكايات، هو غالبا خليفة المسلمين العباسي هارون الرشيد.

ولاحظ بعض الباحثين في الفلكلور والسيرة الشعبية، ان البطل الحاكم في الف ليلة وليلة هو الخليفة العباسي هارون الرشيد ونشأت بموازاة هذه الليالي الساحرة كتب شديدة الخصوبة الفنية، تقوم معظمها على اسماء تاريخية عربية مثل سيف بن ذي يزن، والظاهر بيبرس، وعنترة بن شداد، والزير سالم، وبني هلال، فضلا عن ان بغداد والقاهرة تقاسمتا الاصول الاثنية لشخصياتنا الشعبية حتى لو كانت الآثار الشعبية تشير الى اصول تلك الشخصيات مثل عنترة والزير سالم والظاهر بيبرس وسيف بن ذي يزن، اضافة الى باب قائم على قصص مختلفة منسوبة الى تاريخ الامام علي بن ابي طالب.

ان بين ايدينا منجما من هذه القصص التي يغلب على الواحدة منها اسم السيرة، ولانها قصص شعبية فانها قابلة للحذف والاضافة ومترعة بالتفاصيل الشخصية التي كان السهر عليها يقوم عندنا مقام الاذاعة والتلفزيون في زمننا الراهن.. ويبقى انه لا بد من وجود الباحثين والمنقبين لاستخراج هذه النصوص من غياهب الاهمال، اذ ان مرور الاوساط العربية بتجربة التمنية قد اسقط، او كاد يسقط من الذاكرة الشعبية بعض هذه القصص التي كان يطلق آباؤنا على الواحدة منها اسم السيرة.

واني ليشدني الحنين الى سيرة عنتر والزير سالم وبني هلال وسيف بن ذي يزن والظاهر بيبرس وغيرها، ولا ادري ما اذا كان الوقت لم يفت على اعادة اكتشاف هذه الكتب، واخراجها بما يلائم مزاج العصر بما فيه من تناقضات وعناصر جديدة دخلت على حياتنا أو اضافت اشياء الى ما رواه اسلافنا فالذاكرة ليست مقصورة على التواريخ بل تمتد لتشمل الروايات المتواترة.

Exit mobile version