المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

تقدير موقف – تداعيات الاتفاق بين إيران والغرب على القضية الفلسطينية

مقدمة

في منطقة كالشرق الأوسط، وفي قضية كالقضية الفلسطينية، يتداخل فيها الوطني مع القومي مع الديني، الماضي مع الحاضر، الدين مع السياسة مع الاقتصاد، وتختلط رياح الجنة برائحة النفط؛ لا يمكن أو يُسمح بحدوث فراغ، أو تُترَك المنطقة والقضية الفلسطينية لتتلاعب بهما أحزاب وقوى محلية، أو أن تنفرد دولة واحدة بمصير المنطقة.

من هذا المنطلق، يأتي الاهتمام الدولي بالمنطقة. ولهذا السبب كانت وما زالت دول عربية وإسلامية تتدخل في الشأن الفلسطيني موظفة القضية الفلسطينية في سياساتها وإستراتيجياتها الإقليمية، حتى دون إذن من أصحاب القضية أنفسهم. وهذا ما لمسناه مثلا في حالة العراق إبان عهد صدام حسين، وبعده الحالة الإيرانية الراهنة.

في جوهر وقلب الخلاف الإيراني مع دول الغرب حول ما تم تسميته بالملف النووي الإيراني تكمن القضية الفلسطينية، إذ تمّ الربط بين تطوير إيران لقدراتها العسكرية وامتلاكها للبرنامج النووي من جانب، وموقفها المعادي لإسرائيل والغرب من جانب آخر. كما أن الغرب في مواجهته ورفضه لتطوير البرنامج النووي الإيراني لم يكن منطلقا من موقف أخلاقي أو قانوني دولي أو خوفا على السلام العالمي كما يزعم، بل من الخوف على اختلال موازين القوى بما يؤثر على التفوق النوعي الإسرائيلي وعلى مصالح الغرب في المنطقة. ولو لم يكن لإيران هذا الموقف المُعلن المعادي لإسرائيل والغرب لأخذت الأمور مسارا مختلفا أقل حدة.

من هنا لا يمكن رصد أو استشراف تداعيات الاتفاق النووي على القضية الفلسطينية إلا في سياق تداخُل ملفات الصراع في الشرق الأوسط، وتأثير الاتفاق على شبكة وتوازن التحالفات في المنطقة.

المحور الأول: إيران وصراعات الشرق الأوسط

عندما ثار الشعب الإيراني بقيادة الإمام الخميني ضد نظام شاه إيران العام 1979، استبشر الفلسطينيون خيرا، واستقطبت الثورة الإيرانية تأييد الشعب الفلسطيني، وكان الرئيس الراحل ياسر عرفات “أبو عمار” من أوائل المؤيدين لهذه الثورة، بل وقال جورج حبش، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بعد قيام الثورة الإيرانية مباشرة: “إن أي نظام عربي يحيك الدسائس والمؤامرات ضد الثورة الإسلامية في إيران هو خائن خارج على إرادة الشعب العربي”.

كان المنطلق في هذا الموقف الفلسطيني أن الثورة رفعت شعارات معادية للإمبريالية والصهيونية، وحولت السفارة الإسرائيلية إلى سفارة لفلسطين. كما أن نظام الشاه السابق كان تابعا للغرب وحليفا إستراتيجيا لإسرائيل.

بالنسبة للفلسطينيين، والعديد من الشعوب العربية، شكلت الثورة الإيرانية بعد أقل من عام على الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان، وخمسة أشهر فقط على توقيع اتفاقية “كامب ديفيد” بين مصر وإسرائيل، تطورا ذا تأثير نوعي في موازين القوى على المستوى الإقليمي في مواجهة سياسات الغرب والولايات المتحدة وإسرائيل. كما قدمت الثورة نموذجا ملهما للكثيرين حول قوة الإرادة الشعبية في مواجهة الاستبداد.

لم تبدد الاتهامات للنظام الإيراني الجديد آنذاك بتصدير ثورة تخفي من ورائها أهدافا توسعية وتوجهات مذهبية شيعية؛ التعاطف الواسع مع الشعب الإيراني الذي تعرض للحصار والحرب والعقوبات ما بعد الثورة الإسلامية. كما أن الأنظمة العربية، لا سيما الخليجية، التي عانت من السياسة العدائية لدور الشرطي الذي لعبته إيران الشاه، بما في ذلك احتلال الجزر الإماراتية الثلاث العام 1971، كانت تأمل بمرحلة جديدة لا تحمل تهديدات إستراتيجية لاستقرار مجتمعاتها وأنظمتها السياسية الخاضعة لتبعية اقتصادية وأمنية للغرب، جعلتها أكثر اطمئنانا على وجودها ومصالحها.

حتى عندما خاض الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في العام التالي لسقوط نظام الشاه حربا استمرت ثمانية أعوام، تحت شعار التحذير من الأهداف التوسعية الإيرانية والتوظيف الديني لتحقيق هذه الأهداف، لم تُؤخذ تحذيراته من طرف كثير من الفلسطينيين والعرب مأخذ الجد، وفسر البعض تحالف بعض دول الخليج معه أثناء الحرب العراقية الإيرانية بأنه جزء من مخطط استعماري لمحاصرة الثورة الإيرانية.

كان لا بد من انتظار غياب الخميني ونهاية الحرب العراقية الإيرانية، واحتلال الجيش العراقي للكويت والحرب الخليجية الثانية العام 1991، والحرب في أفغانستان وبروز تنظيم “القاعدة” وهجماته في 11/9/2001 في الولايات المتحدة، ومن ثم احتلال العراق العام 2003؛ لتبرز على السطح صراعات جديدة تتداخل فيها المصالح الإقليمية والدولية مع الأبعاد المذهبية، بل وتوظف الأخيرة لخدمة الأولى، الأمر الذي ساهم كثيرا في إحياء ما أسماه البعض “التهديد الفارسي”، خصوصا فيما يتعلق بالبعد المذهبي الشيعي. وتشير التجربة الماضية إلى أن الرئيس صدام بالغ في الخطر الإيراني، وحاول أن يتحالف مع الخليج والغرب لكي يبرهن على أنه طرف إقليمي مهم يجب اعتماده في حين كان بالإمكان حل الصراع مع إيران من دون شن الحرب عليها.

في ظل استدخال البعد المذهبي في الصراعات الدامية في عدة بلدان عربية، أخذت دول عربية وأوساط من المفكرين والمثقفين العروبيين يثيرون تخوفات من توجه النظام الإيراني لبناء دولة فارسية بأيديولوجية دينية، ما دفع لتأجيج الصراعات العرقية والطائفية والمذهبية في سياق اصطفافات تدعم فيها إيران أنظمة وقوى تتبنى خطابا شيعيا، كما هو الحال في دعم النظامين السوري والعراقي والحوثيين في اليمن والشيعة في البحرين، فيما تدعم دول عربية أنظمة وقوى تتبنى خطابا سنيا مناوئا، كما هو الحال في دعم حكومة عبد ربه منصور هادي في اليمن وتنظيمات سنية متطرفة في العراق وسوريا، مع محاولات لبناء محور في مواجهة إيران على أسس مذهبية.

بالرغم من انخراط إيران في هذه الصراعات ببعدها المذهبي، إلا أنها ظلت تعتمد خطابا متساوقا مع شعارات كبيرة حول معاداة الإمبريالية والاستعمار وتهديد إسرائيل بالزوال، مدعوما بالسعي الحثيث لامتلاك تكنولوجيا نووية وصواريخ بعيدة المدى، ومصحوبا بدعم مالي وعسكري لما عرف باسم محور الممانعة أو المقاومة، وبضمنه بعض الفصائل الفلسطينية، وخصوصا حركتي حماس والجهاد الإسلامي.

لا شك أن من حق إيران امتلاك القوة بكل مكوناتها، ومن حقها بناء دولتها القومية، إلا أن البعض يأخذ عليها مبالغتها في توظيف الدين والقضية الفلسطينية ومواجهة الحصار الغربي والتهديدات الإسرائيلية كأداة للتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، الأمر الذي ساهم في نشوء حالة استقطاب إقليمي حادة، شجعت أطرافا وطوائف مذهبية، وخصوصا الشيعية، على الاستقواء بالدعم الإيراني في صراعاتها الداخلية.

ربطت إيران ما بين بناء قوتها العسكرية وبرنامجها النووي والصاروخي، وخطابها المعادي لإسرائيل، لكنها أوقفت دعمها لحركتي حماس والجهاد الإسلامي بسبب موقف وموقع كل منهما من الصراعات الدائرة في المنطقة، بدلا من موقعيهما من الصراع في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، إذ بدا كأن إيران تتحدث عن فلسطين والقدس، بينما تركز عينيها على ما يدور في سوريا والعراق واليمن والبحرين وغيرها، وبالرغم من التهديدات الإسرائيلية المتواصلة حتى اليوم باللجوء إلى الخيار العسكري ضد إيران.

في نهاية المطاف، فإن تفكيك الدولة العراقية وتمزيق سوريا وغياب إستراتيجية عربية موحدة أفسح المجال لإيران، كما هو الحال لتركيا، للتدخل في الصراعات الداخلية في عدة بلدان عربية، الأمر الذي أذكى توظيف البعد الطائفي والمذهبي في هذه الصراعات الدامية. وباستخدام فزاعة الخطر الإيراني حافظت واشنطن على بقاء قواعدها في الخليج، وعقدت صفقات أسلحة بمئات ملايين الدولارات مع دول الخليج ووَّقّعت عشرات الاتفاقات الأمنية … إلخ. حتى إسرائيل استفادت من خلال الحصول على صفقات أسلحة من واشنطن ودعم مالي من الغرب تحت ذريعة الخطر النووي الإيراني، وسعت للتسلل من هذه البوابة نحو إقامة علاقات تعاون وتنسيق أمني واستخباري مع بعض الدول العربية تحت شعار مواجهة الخطر الإيراني المشترك، ما أسهم في تراجع مكانة القضية الفلسطينية بصفتها قضية العرب الأولى.

إلا أن ذلك لا يمنع من القول بأن إسرائيل لا تستخدم موضوع الاتفاق النووي الإيراني كمجرد فزاعة، إذ إنها تتخوف بالفعل من هذا اللاعب الجديد في منطقة كانت إسرائيل تمارس فيها دور الإمبريالية المحلية دون منافس. ويتزايد التخوف الإسرائيلي مع إقامة إيران علاقات قوة إستراتيجية مع أطراف معادية لإسرائيل، وخصوصا حزب الله في لبنان، وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين.

المحور الثاني: تداعيات الاتفاق النووي على صراعات الشرق الأوسط

كل معاهدة أو اتفاقية دولية هي محصلة تفاهمات على مصالح إما ثنائية أو جماعية. وفي هذا الإطار يأتي الاتفاق الإيراني مع الغرب (مجموعة 5+1) يوم 14 تموز/يوليو 2015 لتسوية الملف النووي وطمأنة إسرائيل من جانب، ومحاولة معالجة بعض الملفات الإقليمية انطلاقا من تقاسم مناطق النفوذ والبحث عن المصالح المشتركة من جانب آخر. فالاتفاق حقق مصالح لأطرافه، بعضها تم الإعلان عنه وبعضها ربما ظل خفيا. والسؤال الذي يفرض نفسه: ما هو التحول في شبكة المصالح التي طرأت وكانت وراء التحول في الموقف الغربي، وخصوصا الأميركي؟ وكيف ستؤثر هذه التحولات على القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام؟

زاد توقيع الاتفاق من ثقة إيران بنفسها، إذ ستتصرف كدولة إقليمية يُحسَب لها ألف حساب. كما أنها ستحسب الأمور جيدا قبل الإقدام على أية خطوة تُغضب الغرب، حتى لا تخسر ما جنته من الاتفاق، بما في ذلك وجود مصلحة لإيران في تهدئة الجبهات مع إسرائيل، سواء في قطاع غزة، أو لبنان، أو حتى الجولان، بالرغم من تصاعد الخطاب الإسرائيلي العدواني.

على المدى الأبعد من لحظة الاحتفال بتوقيع الاتفاق، تتوقف السيناريوهات المحتملة لعلاقة إيران مع الغرب، وسياستها إزاء فرص إغلاق الملفات الأكثر سخونة وتفجّرا في عدد من بلدان المنطقة، وكذلك تطور رد فعلها على الموقف الإسرائيلي، على مستوى التوازن في معادلات التسويات السياسية الخاصة بالملفات المفتوحة على سيناريوهات عدة في بلدان المنطقة، وهو الأمر الذي سوف يؤثر على عمق التغيرات المحتملة في نهج إيران في المنطقة، ولكن بشكل متدرج مع اختلاف سلوكها من ملف لآخر. وقد لا تبدأ التغيرات قبل نهاية العام، حيث من المقرر رفع العقوبات نهائيا وموافقة الكونغرس الأميركي على الاتفاق، في ظل دخول العامل الإسرائيلي على خط التنافس الانتخابي بين الجمهوريين والديمقراطيين.

خلف كل ما يقال علنا من أن موضوع الاتفاق كبح جماح إيران لامتلاك سلاح نووي تكمن أمور إستراتيجية تتجاوز التخوف من امتلاك إيران السلاح النووي الذي هو مجرد احتمال مستقبلي. غير المعلن والأكثر أهمية هو تأثير رفع العقوبات عن إيران على إمكانية توظيف رفع الحصار وأموالها المحتجزة لصالح صعودها كقوة اقتصادية منافسة لدول الإقليم، وبخاصة تركيا، ومستوى تحسين علاقاتها مع الغرب، وسياستها تجاه صراعات المنطقة، وخصوصا بالنسبة لملفات سوريا وحزب الله والعراق واليمن وعلاقتها بدول الخليج العربي. كما يبقى رد الفعل الإسرائيلي على تداعيات الاتفاق أحد العوامل الحاسمة في تحديد طبيعة السلوك المستقبلي لإيران مع ملفات المنطقة، بل وربما سيحدد موقفها من القضية الفلسطينية.

على المدى القصير، سيفرض الاتفاق على إيران إحداث تغييرات في سياساتها الخارجية، ليس خضوعا لمصالح الغرب واشتراطاته، بل أيضا لخدمة مصالح إيران، وخصوصا الاقتصادية والتنموية، إذ سيكون النظام الإيراني معنيا بتوظيف الأموال المُفرج عنها لاستعادة عافيته الاقتصادية، وهذا يحتاج لاستقرار داخلي وإقليمي. ويتوقع في هذا السياق أن يستمر الخطاب السياسي الإيجابي والحذر في آن واحد لإيران تجاه الغرب، غير أنه من المشكوك فيه أن ينعكس التقارب مع الغرب على علاقة إيران مع إسرائيل في ظل تصعيد حكومة نتنياهو لتهديداتها ونقلها المعركة إلى حيز التنافس الانتخابي في الولايات المتحدة، على الأقل حتى نهاية تشرين الثاني/نوفمبر القادم، واتضاح إذا ما كان الرئيس أوباما سيتمكن من تمرير الاتفاق مع إيران في الكونغرس. ولكن قد تستمر العلاقات المتوترة لإيران مع دول عربية، في مقدمتها السعودية، إلى حين التوصل إلى تسويات إقليمية فيما يخص سوريا واليمن خصوصا.

بشكل عام يمكن القول إن تداعيات الاتفاق على قضايا الصراع في المنطقة ستكون كما يأتي:

1. غيّر الاتفاق من رؤية الغرب لإيران من اعتبارها سببا لكل مشاكل المنطقة وداعمة للإرهاب، إلى التعامل معها كشريك في حل مشاكل المنطقة، أو بعضها على الأقل.

2. الاتفاق لن يحدث تغيرا جوهريا مباشرا في علاقة إيران مع الأطراف المرتبطة بها بعلاقات مذهبية كالعراق وحزب الله والحوثيين في اليمن، وبدرجة أقل النظام السوري، ولكن قد تساعد إيران على التوصل إلى تفاهمات تحدّ من التوتر والحرب الأهلية في اليمن وسوريا، وربما حل معضلة انتخاب الرئيس في لبنان، إضافة إلى مؤشرات على انخراطها في التنسيق إقليميا ودوليا لمواجهة تنظيم “داعش” الذي يتزايد تهديده لاستقرار عدة دول في المنطقة، وبضمنها السعودية.

3. قد تستمر العلاقات المتوترة مع بعض الدول الخليجية كالسعودية، غير أن الانفتاح المصري والإماراتي، وكذلك الفلسطيني على تحسين العلاقات مع طهران، إضافة للمصلحة المشتركة في مواجهة خطر التيارات المتطرفة، مثل “داعش”؛ قد يؤدي إلى مساومات بين دول جامعة الدول العربية، وحتى داخل دول مجلس التعاون الخليجي، لصالح التخفيف من حدة الخلافات مع إيران، على الأقل على المدى القصير.

المحور الثالث: التداعيات المباشرة للاتفاق النووي على القضية الفلسطينية

بداية، وقبل الولوج في الموضوع، لا بد من مراجعة السياسة الفلسطينية إزاء العلاقة مع إيران طيلة العقود الثلاثة الماضية، أي ما بعد السياسة المنفتحة التي قادها الرئيس “أبو عمار” ما بعد الثورة الإسلامية، وصولا إلى تحول العلاقة مع إيران في الخطاب الفلسطيني إلى عامل يفاقم الانقسام الداخلي. والمقصود هنا نقد الخطاب الرسمي من جهة، وخطاب سلطة “حماس” في قطاع غزة من جهة أخرى.

لعل الاستخلاص الأهم هو ضرورة توظيف الفلسطينيين للمواقف الداعمة لنضالهم في إطار إستراتيجية وطنية شاملة، وبضمنها الموقف الإيراني الداعم للموقف الفلسطيني في شتى المحافل الدولية، على قاعدة عدم التدخل في الشأن الفلسطيني الداخلي والحرص على وحدة الشعب الفلسطيني ومؤسساته الوطنية. وهو ما يتطلب البناء على الخطوة الأخيرة في زيارة مبعوث عن الرئيس “أبو مازن” إلى طهران، وإن جاءت متأخرة، في سياق إعادة بناء العلاقات الفلسطينية الإيرانية على أسس تصون المصالح المشتركة للطرفين وتخدم القضية الفلسطينية وإنهاء الانقسام.

من المفيد أيضا الاستفادة من التجربة الإيرانية التفاوضية. فبالرغم من اختلاف المفاوضات الإيرانية مع الغرب عن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية من حيث طبيعتها وأهدافها وإطارها، إلا أن هناك ما يكفي من دروس يُفترض أن تحفّز المفاوض الفلسطيني على إعادة النظر في نهجه في التفاوض مع إسرائيل ويستفيد من التجربة الإيرانية. وأهم درس يجب الاستفادة منه أن من الخطورة رهن مصير الشعب بالمفاوضات فقط، بل يجب تفعيل وتوظيف إستراتيجيات أخرى، وأن المفاوضات ليست حياة، بل إرادة وفن وتكتيك وموازين قوى، وأن وجود توافق وطني وإرادة شعبية من أهم عناصر نجاح المفاوض والمفاوضات.

صحيح أن تدخل إيران في بعض ملفات وصراعات المنطقة كان مقصودا ومرتبطا بالملف النووي وكورقة ضغط على الغرب، منها تصعيد التوتر على جبهة جنوب لبنان أو قطاع غزة في أوقات محددة ومحسوبة إيرانيا، إلا أن بعض المواقف الإيرانية تنطلق من رؤية إيران لذاتها كدولة إقليمية لها مواقف دينية وسياسية ثابتة منفصلة عن المصالح، ومنها الموقف من القضية الفلسطينية كقضية عادلة، وبالتالي تأثير الاتفاق على موقف إيران من فلسطين لن يكون جذريا، على الأقل في المدى القريب.

ثمة من يراهن بعد طي صفحة الملف النووي الإيراني على الاهتمام بالصراع العربي الإسرائيلي و”عملية السلام” بين الفلسطينيين والإسرائيليين، هذا إن لم يتم تفجير قضايا جديدة كتصعيد الوضع الأمني في السعودية أو مصر، غير أن المؤشرات في الحراك الأوروبي الراهن لاستئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وانشغال إدارة أوباما بملفات سوريا والعراق وغيرهما، إضافة إلى نقل نتنياهو المعركة إلى الكونغرس، تعزز الاستنتاج بأن إدارة الصراع وليس حله ستكون عنوان المرحلة الراهنة.

لا شك أن إيران وأطرافا أخرى كانت تتدخل أحيانا في الشأن الفلسطيني بشكل فج، مما أدى لتعقيد ملف المصالحة وتكريس الانقسام، إلا أن ذلك لا يعني أن إيران وغيرها كانت السبب الرئيس في المشاكل الفلسطينية الداخلية، وبالتالي فإن تغير السياسة الإيرانية لن يؤدي تلقائيا إلى إنهاء الانقسام الفلسطيني أو تغيير معادلة الصراع مع إسرائيل. فالخلل، إضافة إلى السياسة الإسرائيلية، يكمن في النخب السياسية الفلسطينية، وفي النظام السياسي الفلسطيني نفسه، وإن لم تُغير هذه النخب سياساتها وترتقي بمواقفها للموقف الوطني المسؤول فإن أي تغيير في سياسة إيران تجاه القضية الفلسطينية سيكون تأثيره محدودا.

أما بالنسبة لتأثير الاتفاق على فصائل المقاومة المسلحة، وخصوصا حركتي حماس والجهاد الإسلامي، فتجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين الطرفين، وخصوصا مع “حماس”، توترت وتراجعت حتى قبل توقيع الاتفاق النووي بسبب الأزمة السورية، ثم بسبب تقارب جماعة الإخوان المسلمين و”حماس” مع “المعسكر السني” بزعامة السعودية. صحيح أن إيران استمرت في دعم حركة الجهاد الإسلامي، ماليا وعسكريا، إلى وقت قريب، إلا أن هذا الدعم بدأ بالتراجع، وربما التوقف، باعتراف مسؤولين في الحركة.

مع ذلك، يجب عدم تحميل الاتفاق مسؤولية تراجع حالة المقاومة، وخصوصا في قطاع غزة، لأن حركات المقاومة بدأت تعيد النظر بنهجها المقاوِم خلال الفترة القادمة على الأقل، وتسعى لهدنة مع إسرائيل قبل توقيع الاتفاق. كما أن فتح الطريق أمام التقارب ما بين “حماس” والسعودية سيبقى مرهونا بمدى استعداد الحركة لإعادة النظر بنهج المقاومة بالشكل الذي كان معمولا به، وتبني مواقف سياسية تقترب من الموقف الفلسطيني الرسمي. وعليه، لا يمكن تحميل الاتفاق وتغيير سياسة إيران المسؤولية وحدهما عن تراجع المقاومة في فلسطين، بل وربما يوفر انفتاح السلطة الفلسطينية على استعادة العلاقات مع إيران بالتزامن مع الحفاظ على علاقات وثيقة مع السعودية ومحورها مبررا لحركة حماس لاستمرار المناورة بين العلاقة مع محوري السعودية وإيران في آن واحد.

من جانبها، سوف تفضل إيران سيناريو استمرار العلاقة وفق منسوب يخدم مصالحها مع حركات المقاومة، وبما يلبي عدة أهداف مشتركة مختلفة، على رأسها المصلحة المشتركة للطرفين في مواجهة خطر تنظيم “داعش”، سواء في قطاع غزة أو المنطقة. كما ستحافظ إيران على علاقتها مع هذه القوى كورقة احتياطية في حالة تعثر تنفيذ الاتفاق مستقبلا، وللضغط على إسرائيل. كما أن من مصلحة إيران عدم قطع العلاقة مع هذه الأطراف الفلسطينية حتى لا تذهب هذه الأطراف بعيدا إلى المحور السني.

خلاصة

لا شك بأن الاتفاق النووي سيترك تداعيات على مجمل ملفات المنطقة، وخصوصا الملف الفلسطيني. ولكن أيا كان الموقف الإيراني الجديد، فلن يكون منوطا به وحده الحكم على مستقبل القضية الفلسطينية. إن لم يتم إنهاء الانقسام والتوصل إلى إستراتيجية وطنية، فإن المتغيرات والتحولات الخارجية ستكون مجرد عوامل مساعدة إن أحسن توظيفها.

إذا كان من المهم معرفة ماذا تريد إيران من موقفها حيال القضية الفلسطينية والعلاقة مع مختلف الأطراف الفلسطينية، فإن الأكثر أهمية يتعلق بماذا يريد الفلسطينيون أنفسهم، وخصوصا النظام السياسي الرسمي؟ وإلى أي معسكر من المعسكرات والتحالفات التي تتشكل في المنطقة ستنحاز السلطة الفلسطينية؟ والخطورة في حالة تكريس الانقسام الفلسطيني أن تنحاز السلطة ومنظمة التحرير لمعسكر وتنحاز حركتا حماس والجهاد الإسلامي للمعسكر المنافس. في هذه الحالة لن يكون لتغير الموقف الإيراني من القضية الفلسطينية قيمة إيجابية.

إعداد: أ.د. إبراهيم أبراش

لقراءة ورقة تقدير الموقف أو تحميلها … اضغط/ي هنا

Exit mobile version