المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

اعتراف لا يبرئ الذمة

منذ تأسيسها، كانت الولايات المتحدة الأمريكية «إسرائيل الكبرى»، «إسرائيل الأولى» في العصر الحديث. لكنها انتقلت في علاقاتها مع «إسرائيل الصغرى» من موقع السيد إلى موقع التابع بالرغم من كل المعطيات النقيضة. بعد حرب يونيو/حزيران 1967، أصبحت ترى منطقة الشرق الأوسط بعيون «إسرائيلية»، في الوقت نفسه بدأ «اللوبي اليهودي» يتدخل أكثر وأكثر في السياسة الخارجية الأمريكية.
وفي وقت مبكر فضح عضو الكونغرس الأمريكي، بول فيندلي، في كتابه الموسوم «من يجرؤ على الكلام» كيف يفرض (إيباك) مطالب الكيان الصهيوني على الرؤساء الأمريكيين من خلال الكونغرس. ومؤخرا فضح جون ميرشتايمر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، وستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، في كتابهما «اللوبي «الإسرائيلي» والسياسة الأمريكية الخارجية» التدخلات «الإسرائيلية» والأذرع اليهودية. وقد دفع الثلاثة، وكل الذين تجرأوا على خرق «المقدس اليهودي» الثمن.
لكن الجديد غير المسبوق، هو أن يضطر رئيس الولايات المتحدة نفسه أن يتحدث عن تدخل رئيس الحكومة «الإسرائيلية» في السياسة الخارجية الأمريكية علناً وفي بث حي ومباشر في أوسع شبكات التلفزة الأمريكية انتشاراً. في هذه الحالة يكون الكيل قد طفح، وبلغ السيل الزبى وزاد.
كان ذلك الرئيس الثالث والأربعين للولايات المتحدة، باراك حسين أوباما، الذي قال في المقابلة التي أجراها معه فريد زكريا من على شاشات (سي إن إن): إنه لا يتذكر مثالا في التاريخ أن زعيم دولة أجنبية تدخل في شؤون السياسة الخارجية للولايات المتحدة بالقوة التي يتدخل فيها اليوم رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو.
لقد كتب الصحفي الأمريكي جاستن رايموندو مقالاً جاء فيه: «إذا فشل الكونغرس في رفض الاتفاق النووي مع إيران، فإن الولايات المتحدة تكون قد نجحت في تحرير سياستها الخارجية من قبضة «إسرائيل»». إلى هذه الدرجة ينظر بعض الأمريكيين إلى الحرب الدائرة منذ شهور بين الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء «الإسرائيلي». فمن جهة أوباما، يرى أن ما سيبقى له للتاريخ بعد ولايتين في البيت الأبيض هو هذا الاتفاق.
أما من جهة نتنياهو، فإنه يرى نفسه رابحاً سواء فشل الكونغرس في رفض الاتفاق أو نجح، لكن فشل الكونغرس سيعطي أوباما فرصة للضغط عليه في الملف الفلسطيني ما بقي من ولايته الثانية. ذلك ما ذهب إليه السفير «الإسرائيلي» السابق لدى الأمم المتحدة، زالمان شوفال الليكودي المتطرف، الذي قال في مقال له نشرته («إسرائيل» اليوم- 13/8/2015): إن «إسرائيل» تواجه اختبارين مصيريين: الاتفاق النووي مع إيران، والموضوع الفلسطيني، وكلاهما يؤثر في العلاقة مع الولايات المتحدة، كما قال.
ويبين جدية الحرب الدائرة بين أوباما والأذرع «الإسرائيلية» لتفشيل الاتفاق مع إيران، ما يصرفه (الإيباك) من أموال لهذه الغاية. فقد جاء أن (إيباك) صرفت 40 مليون دولار في حملة إعلامية لتجميع ثلثي أعضاء الكونغرس اللازمين لرفض الفيتو الرئاسي، إن لجأ إليه أوباما لتمرير الاتفاق. في الوقت نفسه، وصل الأمر في الصحافة «الإسرائيلية» إلى توجيه البعض اتهاماً مبطناً باللاسامية للرئيس أوباما من حيث عدائه لليهود والمال اليهودي.
وفي صحيفة («إسرائيل» اليوم- 13/8/2015)، كتب ليمور سمميان- درش مقالا قال فيه: «شيء خطر حصل مؤخراً في الخطاب الأمريكي. فقد بدأ يبرز في خطاب أوباما الأخير (في الجامعة الأمريكية) ذكر مال اللوبي اليهودي». وأضاف: «من اللحظة التي بدأت فيها محاولات أوباما لإقناع أعضاء الكونغرس المختلفين، لا سيما أعضاء مجلس الشيوخ، بدأ التشخيص اليهودي يطرح بلا عراقيل».
إن حاجة أوباما إلى شيء يحفظه له التاريخ، وغطرسة نتنياهو وصلفه بل إهانته له أكثر من مرة وعلى رؤوس الأشهاد، جعلته يدخل هذه الحرب الطاحنة مع نتنياهو. لكن ذلك لم يمنع أوباما من استجداء اليهود ومنظماتهم، بل واسترضاء نتنياهو وحكومته. إنه لا يزال حتى الآن، وفي غمرة هجومه على نتنياهو، يستعرض ما قدمته إداراته لكيانه. وقد أعلن متفاخراً أكثر من مرة أن ما قدمته الولايات المتحدة في عهده يتجاوز ما قدمه أي رئيس أمريكي سبقه، وأي إدارة أمريكية سابقة على إدارته. ونعرف نحن العرب أن كل رئيس أمريكي كان يصل إلى البيت الأبيض كان يزاود على من سبقه في خدمة» «إسرائيل» وحمايتها وضمان أمنها، ربما باستثناء رئيس واحد أو اثنين وإن لم يقصرا في الالتزام بالأهداف نفسها.
إن مجمل السياسة الأمريكية في منطقتنا العربية كانت من أجل خدمة الأهداف «الإسرائيلية» العدوانية التوسعية، بدءاً من العدوان الثلاثي على مصر العام 1956، و«مشروع أيزنهاور»، وحتى الغزو الأمريكي للعراق 2003، مروراً باتفاق أوسلو الذي رعته مع منظمة التحرير الفلسطينية العام 1993. وليس هناك من يجهل أو يتجاهل أن كل الخراب والدمار والفوضى التي تلحق بالعرب وبلدانهم اليوم، هي حصيلة تلك السياسة وخدمة للمصالح والأهداف «الإسرائيلية».
ومما لا جدال فيه أن اعتراف الرئيس أوباما بثقل التدخلات «الإسرائيلية» في السياسة الخارجية الأمريكية يشكل موقفاً «نافراً» بين مواقف الرؤساء الأمريكيين تجاه الكيان الصهيوني، وهو وإن جاء نتيجة موقف شخصي إلا أنه يعكس تذمراً واسعاً أصبح يضمره الأمريكيون ويحسون ثقله، وإلا لم يكن أوباما ليجرؤ على اتخاذه وإعلانه. لكنه رغم ذلك، اعتراف لا يبرئ ذمة أوباما أو من سبقوه من سكان البيت الأبيض، أو ذمة الأمريكيين مما اقترفوه من جرائم في حق الأمة العربية.

بقلم: عوني صادق عن الخليج الاماراتية

Exit mobile version