المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

الحرب المستجدة والحروب المتنقلة لتجديد «الشرق القديم»! كتب ماجد الشيخ

في مخاض الحروب المتعددة والمتنقلة على كامل مساحة المنطقة، وفي ثنايا الحرب التركية المستجدة اليوم، ضد الطموحات القومية الكردية، أقله في الداخل التركي، وما تحمله من استهدافات ربما بدت غير مباشرة، في الشمال العراقي وعلى الحدود مع سورية، في أعقاب عمليتين عسكريتين، واحدة نسبت إلى «داعش»، والأخرى إلى «حزب العمال الكردستاني»، وفي ظل تفجر الوضع الإقليمي المحيط بتركيا، لا تمكن قراءة هذا الحدث إلا ضمن سياق استئناف سردية الصراع بين طموحات قومية متضاربة و «متعادية»، بالتالي فإن حروباً من هذا الطراز، لا يمكنها أن تنتهي سريعاً، حتى ليبدو أن الحرب الجديدة لم تنزل من سماء صافية، بمقدار ما أريد لها أن تنطوي في السياق الجديد أو المتجدد لما أسموه يوماً «الشرق الأوسط الجديد»، وما هو بالجديد مطلقاً، حيث مجموع الحلفاء القدامى والجدد لم يتغيروا، لا في مواقع وتراتبيات بعضهم، ولا في انتماءاتهم إلى «عالم الأحلاف» (الناتو والسنتو وغيرهما) التي قامت على المصالح العميقة والانحيازات التحالفية، بغض النظر عن طبيعة العلاقات البينية المتصالحة أو المتعادية في العلن، وعلى الأصعدة السياسية والديبلوماسية.

وإذ تتواصل الحملة العسكرية التركية داخل الأراضي العراقية ضد «حزب العمال الكردستاني»، في الوقت الذي خفت أو تباطأت ضد «داعش» داخل الأراضي السورية، فلأن طبيعة التحالف الأميركي – التركي في أعقاب ما قيل عن اتفاقات، أعقبها فتح قاعدة إنجرليك أمام الطيران الأميركي، أو طائرات التحالف الغربي، ما زالت تحت الاختبار، اختبار النوايا التركية – الأميركية، كل بإزاء الآخر وأهدافه، التي تبدو متطابقة حيناً، ومتنافرة في أحيان أخرى، لا سيما تجاه النظام السوري ومجموع القوى التي تقف في مواجهته، في وقت نسب إلى مسؤولين أميركيين وأتراك، أن الجانبين لم يتفقا على جماعات المعارضة السورية التي يمكن تسليمها سلطة «المنطقة الآمنة» المزمع إنشاؤها بعد تردد ومحادثات مطولة، لم ترس بعد على بر الوضوح.

ووسط تقسيم العمل الأميركي – التركي الجديد، وهو تقسيم متجدد، ربما بدا تعسفياً أو متسرعاً من دون دراسة متعمقة أو إيضاحات سياسية، يلاحظ أن ما تشنه تركيا من غارات وهجمات مزدوجة، لا يقل أهمية من حيث الشكل، لكن لجهة المضمون هناك فروق جوهرية بين الهجمات التي يشنها سلاح الجو التركي ضد مواقع «داعش» في سورية، وقواعد «حزب العمال الكردستاني» في العراق. في الوقت الذي توجد لحزب العمال قواعد في سورية كذلك لم تطاولها الغارات، بينما يسيطر «داعش» على مساحات شاسعة في العراق. فلماذا لا يعمل الأتراك ضد الطرفين في كل من سورية والعراق سوية وبالقوة ذاتها؟ إلا إذا كان هناك ما يبدو اتفاقاً أميركياً – تركياً، يترجم جوهر ما اتفقت عليه أنقرة مع واشنطن التي تنظر إلى أكراد سورية حلفاء في محاربة المتطرفين والإرهابيين، ما يدفعها إلى عدم السماح لتركيا بالعمل ضدهم، أو على الأقل بإيذائهم، وفي الوقت ذاته الحد من إطلاق اليد التركية ضد أكراد الداخل التركي، مع إدراك واشنطن ومعها الوضع الدولي، أن المسألة الكردية في تركيا، إنما هي عبارة عن كفاح وتطلعات مشروعة، نحو اعتراف بالحقوق المدنية والقومية في الحد الأدنى، وتطلعات نحو الاستقلال إن أمكن كحد أعلى، أو في المتوسط إرساء حكم ذاتي موسع، كذلك الموجود في الشمال العراقي.

في المقابل وفي الاتجاه ذاته، وعلى غرار الموقف الأميركي، سعى حلف شمال الأطلسي إلى إظهار وحدة صفوفه بـ «إعلانه دعماً سياسياً» للحملة العسكرية التركية على مسلّحي تنظيم «داعش» في سورية والعراق. إلا أنه دعا الأتراك إلى «ضبط النفس» في التعامل مع حزب «العمال الكردستاني».

وسط هذه التطورات المستجدة والمتسارعة، يجيء إعلان أردوغان عن انتهاء «عملية السلام» مع الأكراد، ورفضه في البداية التمييز بين «داعش» و «العمال»، إضافة إلى شنّ قوات الأمن التركية حملات اعتقال طاولت أكثر من ألف شخص مشتبه بعلاقتهم مع «داعش» و «العمال» و «الجبهة الشعبية الثورية» في 34 ولاية تركية، ليثير مخاوف القيادات الكردية من تعمّد أنقرة خلط الأوراق، للانتقام من الأكراد، تحت غطاء «محاربة الجماعات المتطرفة»، إذ تزداد شكوك أكراد تركيا في نيات أنقرة التي ترفض بشدّة فكرة «إقامة دولة كردية» على حدودها الجنوبية. في وقت ذهب زعيم حزب «الشعوب الديموقراطي» التركي، صلاح الدين دميرطاش، إلى أن «الحكومة التركية تستهدف أساساً أكراد سورية في المنطقة العازلة، التي تخطط لإنشائها على الحدود السورية مع تركيا». واعتبر في مقابلة مع محطة «بي بي سي» البريطانية، أن «العملية العسكرية التركية ضد مسلحي داعش في سورية، غطاء لاستهداف حزب العمال».

داخلياً، شكلت انتخابات السابع من حزيران (يونيو) الماضي، مفصلاً مهماً في علاقات سلطة الدولة بأكراد الداخل التركي، بعد نيل «حزب الشعوب الديموقراطي 13 في المئة من مجموع الأصوات، وهو رقم يؤشر إلى إمكان حدوث انقلابات مهمة لمصلحة الأكراد الأتراك مستقبلاً، الأمر الذي دق ناقوس الخطر أمام أردوغان وحزبه الذي استمرأ الحكم منفرداً من دون إشراك أي طرف معه، ما يفسر إصراره على المواجهة مع الأكراد، في الداخل وعلى الحدود مع سورية والعراق، بعد أن حولتهم الصراعات في المنطقة إلى خصم حقيقي، ليس انتخابياً فقط، بل وكنوع من الخصومة الجيوسياسية التي يحسب حسابها، إن لم يؤخذ في الاعتبار ما يجري للمنطقة من ترتيبات، فإنه مما لا شك فيه قادر على القيام باعتراضات عنيفة، وليست سياسية فقط.

في معمعة ما يجري من اختلاط أوراق اللعب السياسي في المنطقة، يلاحظ من علامات الغموض التي تغلف سرديات التعاون الجديد الأميركي – التركي، ما يقوله روبرت فورد، السفير الأميركي السابق لدى سورية، والذي يعمل حالياً في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، من أن تركيا سيكون لها قول أكبر على الأرجح في شأن الترتيبات الأمنية المتخذة في المنطقة القريبة من حدودها. لكن واشنطن لن تعمل مع «جبهة النصرة»، جناح تنظيم «القاعدة» في سورية (الذي انضم إلى تحالف قال إنه تلقى دعماً من تركيا)، فيما قد تتعايش مع جماعات إسلاموية أقل تشدداً.

وعلى رغم الانتقادات الكردية السياسية، وتصعيد حملة العمليات العسكرية من جتنب الطرفين، لا يبدو أن تركيا في سبيلها للعودة إلى آليات العملية السلمية مع أكرادها في الداخل، أو ممارسة المزيد من الضغوط العسكرية، لجهة وقفها غاراتها الجوية ضد قواعد «حزب العمال الكردستاني» التي تواصلت بالعنف نفسه، منذ بداية الحملة داخل الأراضي العراقية. بينما بدا ويبدو أن الهجمات التركية ضد المتطرفين «الداعشيين» في سورية، وإن خفت حدتها، فإن أهدافها الحقيقية تكمن بعيداً منهم، بل إن ما يجري التعويل عليه، هو منع إقامة أو السماح باستقلال المزيد من كيانات المكونات الكردية، وإن أدى الأمر إلى تدمير ما سبق وإن جرى البناء عليه مع أكراد الداخل التركي، بحيث باتت عملية السلام بين تركيا وأكرادها كأنها هي المستهدفة من جانب السلطات التركية، لا سيما أنها تدرك أن التخلي عما جرى التوصل إليه مع «العمال الكردستاني»، سيعني عودة أجواء الصراع العنيف والأعمال التفجيرية إلى شوارع المدن التركية، وإعادة توتير ما يتجاوز الوضع الداخلي إلى فرض نوع من التشابك والتداخل مع الوضع الإقليمي المتفجر أصلاً.

في كل الأحوال ما يحكم الحملة التركية الراهنة أو حتى في المستقبل، تلك الهواجس التي تخشى أنقرة تحققها عبر إقامة دولة كردية أو ما شابهها في سورية، تلتحق بدولة الحكم الذاتي الكردي في الشمال العراقي، الأمر الذي سيغير بالتأكيد من معادلات المنطقة، وفي إعادة اقتسامها مجدداً، وفق معادلات ما يشبه «سايكس بيكو» جديد، ولكن على شاكلة «شرق أوسط جديد»، عماده تحالفات جديدة، وقوى جديدة تتنافس على مصادر ومواقع النفوذ والهيمنة، ومن أبرزها التسليم بنفوذ النظام الإيراني وهيمنته إقليمياً بعد الاتفاق النووي، وتركيا في ظل اتضاح بنود تحالفاتها الجديدة مع الولايات المتحدة، ونشوء أوضاع مستجدة في كل من العراق وسورية، وبالطبع في ظل وجود إسرائيل كثابت من ثوابت الوضع الإمبريالي والاحتلال الكولونيالي، في منطقة باتت تتقلب صراعات القوى فيها، وفق حسابات المصالح المستجدة، وما آلت إليه موازين قوى أكثر جدة بطبيعتها وطبعها.

أليس هذا ما يراد لـ «الشرق الأوسط الجديد» أن يكونه، بعيداً من معطيات وموازين قوى عفّ عليها الزمن، وبات لزاماً تفكيكها وصولاً إلى تغييرها؟ وما نراه أمام أعيننا هي محاولات دؤوبة لإرساء هذا التغيير الذي قد ينقلب إلى ضده، أي تكريس ما هو أسوأ مما أريد تغييره، من قبيل أن تصبح «القوى الداعشية» وأضرابها، جزءاً عضوياً من معادلات المنطقة، وحينئذ نصبح جميعنا غرقى في أتون «أم الكوارث».

* كاتب فلسطيني

الحياة اللندنية

Exit mobile version