المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

النفط أداة لهيكلة النظام الدولي الجديد كتب باسم برهوم

يبدو أن النفط يُستخدم مرة أخرى كإحدى الأدوات لإعادة هيكلة ورسم النظام الدولي الجديد الآخذ بالتبلور عبر اشكال مُتعددة للصراع بين الدول الكبرى العنيف منها والناعم. الجميع يتساءل اليوم عن الأسباب الحقيقية لتدهور اسعار النفط، التي من المتوقع أن تتدهور أكثر فأكثر خلال الأشهر المقبلة لدرجة أن يُصبح النفط أرخص من الماء، كما توقعت صحيفة “التايمز” البريطانية.

التفسيرات والتحليلات كثيرة ومتناقضة، وهذا أمر مفهوم لأن الانخفاض بالأسعار هائل ولم يكن مُتخيلاً لأي من الخبراء قبل عام وبالتحديد أن ينخفض سعر برميل النفط من 147 دولارا عام 2014 إلى أقل من 30 دولارا الآن، والتوقعات تُشير الى أنه قد ينخفض إلى أقل من عشرين دولارا.

وبلا شك أن المصالح المتناقضة، مصالح الأطراف ذات العلاقة، هي السبب الرئيس وراء التناقض في التحليلات المتداولة. فالاقتصاديون، الخبراء المهنيون او الاكاديميون يرجعون اسباب التدهور الى تقلبات السوق ومبدأ العرض والطلب. أما السياسيون والمحللون عموماً، فلهم وجهة نظر مُختلفة، فسلعة استراتيجية بأهمية النفط لا يمكن أن تكون متروكة تماماً لمنطق تقلبات السوق، بالرغم من أهمية ذلك. إلا أن هذه التقلبات يمكن أن تؤثر على اسعار بنسب محدودة ولفترات قصيرة ولكن ليس كهذا التدهور الذي نشهده حاليا، والمتوقع استمراره لفترة طويلة.

ودون التقليل من مسألة العرض والطلب، والحديث عن النفط الصخري المتزايد انتاجه، وهي جميعها أسباب مهمة لهذا التدهور، لكنها تبقى هي ظاهر الأمور وليس جوهرها الحقيقي، لماذا؟

من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن يترك النفط للسوق وحده ليتحكم به وبسعره، خصوصاً إذا لاحظنا أن حروباً طاحنة جرت وتجري، ودماء كثيرة سالت في سياق الصراع على هذه السلعة الحيوية التي تشكل المصدر الرئيس للطاقة حتى هذه اللحظة. فمن يسيطر على النفط تنقيباً وانتاجاً، ويتحكم بسوقه وتسويقه وسعره هو من يتحكم به. والنفط كغيره من المسائل الاستراتيجية في عالمنا، فهو خاضع لسيطرة القوى المهيمنة وفي مقدمة هؤلاء الولايات المتحدة الأميركية المنتج والمستهلك الأكبر للنفط، فهذا البلد ينتج يومياً ما بين 11 الى 12 مليون برميل ويستهلك من 18 الى 20 مليون برميل اي ما يعادل 20% من مجمل الاستهلاك العالمي.

وليس من بين الأسرار، أن الولايات المتحدة، هي أكبر المتحكمين بالنفط منذ انتصارها في الحرب العالمية الثانية. وهناك أدلة وشواهد تاريخية وراهنة على ذلك، وتجدر الإشارة هنا إلى الاتفاق الأميركي- السعودي عام 1973 لرفع سعر برميل النفط من دولار واحد الى 20 دولارا، بهدف الضغط على أوروبا في حينه لتفرض عليها مبدأ الفصل بين الدولار والذهب، والقصة باتت معروفة، فقد تجمع في اوروبا كمية كبيرة من الدولارات نتيجة لمشروع مارشال الذي نفذته الولايات المتحدة بهدف النهوض بأوروبا وبألمانيا خصوصاً، بعد ما اصابها من دمار في الحرب العالمية الثانية، وايضاً بهدف وقف التغلغل الشيوعي السوفييتي إليها أبان الحرب الباردة، ولا بد من الإشارة هنا أيضاً الى أن الرئيس الفرنسي ديغول طالب واشنطن بتعويض بلاده واوروبا بالذهب بدل الدولارات التي تنوي الولايات المتحدة استرجاعها. وكان ما كان من رفع أسعار النفط.

ولم يعد من بين الاسرار ايضاً، ان الولايات المتحدة كانت وراء رفع اسعار النفط أبان أزمتها الاقتصادية، “ازمة الرهونات العقارية”. التي تفجرت عام 2008، وذلك عندما اقدمت واشنطن على ضخ كميات هائلة بمليارات الدولارات في السوق بهدف انقاذ اقتصادها وشركاتها وبنوكها الكبرى من الانهيار.

ولكن يبقى السؤال، لماذا هذا التدهور الحاد الحالي في اسعار النفط؟ وما هي الأسباب الحقيقية له؟ اذا اتفقنا ان النفط كمادة استراتيجية لا يمكن ان تترك لتقلبات السوق ومبدأ العرض والطلب وحده، فإن هناك أسبابا سياسية كبيرة تقف وراء هذا التدهور، وبالتأكيد ليست السعودية سببه كما تقول ايران ومنظروها، لأن من يتحكم بالنفط لا يمكن إلا أن يكون واحدا من بين القوى الكبرى المهيمنة وليس اللاعبين المحليين بالرغم من أهمية دورهم كمُنتجين.

وربما السؤال الأدق هنا لماذا تريد واشنطن هذا التدهور كونها أكبر المتحكمين بالنفط وأسعاره؟ وللإجابة، فإنه لا يمكن الفصل بين ما يجري لأسعار النفط والصراع الدائر على اشده بين الدول الكبرى من أجل إعادة هيكلة وترتيب واقع النظام الدولي، وتحديد من سيقود العالم في العقدين المقبلين، ودور ومدى وحدود تأثير كل دولة من هذه الدول في هذا النظام الجديد الذي سيفرزه الصراع الحالي. فالعرب هم من يدفعون ثمن هذا الصراع دماً ومالاً وتمزُقاً، لأن الجانب العنيف الدموي يدور على أرضهم. ولمعرفة حقيقة التحكم الاميركي واسباب هذا التدهور في اسعار النفط لا بد من ملاحظة خارطة إنتاج واستهلاك هذه السلعة الحيوية والاستراتيجية. فكما ذكرنا فإن الولايات المتحدة تقف في قمة المنتجين والمستهلكين بواقع 12 مليون برميل انتاجاً، و 20 مليون برميل استهلاكاً، تليها روسيا من حيث الانتاج بواقع 11 مليون برميل يومياً، ثم السعودية بواقع يزيد قليلاُ عن عشرة ملايين برميل. باختصار فإن الخارطة تُشير الى أن الولايات المتحدة وحلفاءها يسيطرون ويتحكمون بما يزيد عن 70% من سوق النفط انتاجاً واستهلاكاً، واذا اخذنا بالاعتبار طبيعة الاقتصاد الروسي، وبالرغم انها دولة صناعية، إلا أن اقتصادها لا يزال ريعياً، يعتمد اساسا على تصدير النفط والمواد الخام الأخرى. فالنفط والغاز يعادلان 54% من صادرات روسيا، لذلك فإن الدور الروسي الدولي المتعاظم هو المستهدف الأول من تدهور اسعار النفط، لماذا؟ لأن روسيا النووية والقوية عسكرياً، التي تزاحم الولايات المتحدة في السيطرة على الفضاء، وتمتلك ما يقارب من ثلث مخزون المواد الخام العالمي، هي الأكثر قدرة من غيرها على منافسة واشنطن على قيادة النظام الدولي الجديد، أو ان تكون الند لها في معادلة هذا النظام.

من هنا وبغض النظر عما يقال حول مصادر الطاقة البديلة، والمقتضيات البيئية، فإن النفط سيبقى أحد أبرز الأدوات الناعمة الصراع بين الدول الكبرى، وما التدهور الحالي بأسعار النفط ليس سوى تعبير عن تقلبات المصالح وليس تقلبات السوق، وتعبيرا عن تزاحم القوى العظمى وتنافسها على قيادة العالم، فالنفط وتدهور أسعاره، من هذه الزاوية هو أحد أهم أدوات رسم النظام الدولي الجديد وتحديداً إحدى الأدوات الأميركية لتأكيد استمرار قيادتها للعالم.

Exit mobile version