المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

عشية المؤتمر العاشر.. النهضة في “جلباب الإخوان”

يحرص منذ فترة قادة “النهضة” على التبرؤ من الانتماء التنظيمي، وحتى الفكري لجماعة “الإخوان المسلمين”، معتبرين أن التأثر بـ”الأخونة” أصبح من تراث البدايات، وأنه زال وانتهى، وأن الحركة حزب تونسي لا يرتبط بـ”الأممية الإخوانية”. فما مدى مصداقية مثل هذا القول؟

بعيدا عن “الضجيج” الذي خلفته الرسالة المسربة مؤخرا والمنسوبة للغنوشي، للتنظيم العالمي للإخوان، والتي ورد فيها “تهجم” على الجماعة، وكتبت بلهجة وأسلوب تجعلها أقرب للفبركة، وفعلا تم تكذيبها من الغنوشي، ليؤكد على تثبيت انتسابه وحركته للجماعة الأم.

رابط بل بيعة مقدسة

قد تكون هناك بعض الخلافات في التقدير والتقييم بين الغنوشي والإخوان، غير أن هذا “الخلاف” المشكوك فيه أصلا لا يمكن أن يتم التعبير عنه مثلما ورد في الرسالة المزعومة.

وهنا نريد أن نشير إلى أن فك الارتباط بين الغنوشي وحركته وجماعة الإخوان ليس بالأمر البسيط كما قد يذهب إلى ذلك البعض، فالعلاقة بين الطرفين معقدة وتحكمها بيعة مقدسة، فضلا عن وجود تحالف متشابك بين الجماعة ومن يساندها من شخصيات ودول وجهات. وهذا ليس بالأمر السري فهو معلوم لكل متابع حصيف.

في تقديري لا يمكن تصور وجود “النهضة” خارج “مملكة الإخوان” المقعدة وذات السند المالي والسياسي، ما يجعل خروج “النهضة” من التنظيم العالمي للإخوان المسلمين عملية معقدة وغير واردة أصلا.

كان راشد الغنوشي قد أعلن في 9 أبريل 2015، أسابيع قليلة بعد تصنيف السعودية للإخوان “جماعة إرهابية” أن “النهضة حزب تونسي يعمل ضمن قانون الأحزاب في تونس، ويعمل وفق ما تمليه عليه مؤسساته، ولا يتبع أحدا خارج البلاد”. وأضاف “نحن نرتبط بالمسلمين في كل العالم برابطة الأخوة الإسلامية والفكر ولا يوجد لدينا (بابا) مثل النصارى. أنا رئيس النهضة المنتخَب ولستُ رئيس أي حزب أو تنظيم خارج بلادي، والإخوان في مصر لهم حزبهم وتنظيمهم المستقل عنا”.

ضغط خارجي لا دينامية داخلية

عاد الجدل حول العلاقة بين النهضة والإخوان بمناسبة المؤتمر العاشر (20-23 ماي الجاري)، الذي تقول قيادات النهضة إنه سيعلن عن قرارات “تاريخية”، هي نتيجة “مراجعات” تقول الحركة إنها أنجزتها خلال السنتين الأخيرتين، منها “الفصل بين الدعوي والسياسي”، والاستعداد للإعلان عن “حزب مدني ووطني” لا يربطه ولاء تنظيم خارج الحدود، تبني رؤية فكرية جديدة تؤكد على “هوية” الحركة، خاصة ارتباطها بالمسألة الوطنية، بما يعني ذلك التنازل عن “وهم المشروع الإسلامي” القائم على السلفية الإخوانية وفكرة “الخلافة”.

ليس هناك ما يبين أن النهضة قطعت صلاتها الفكرية والتنظيمة بالإخوان بل على خلاف ذلك فإن هناك شواهد كثيرة تؤكد مثل هذه العلاقة المتجذرة، وهو ما يترك الجدل مستمرا حول إمكانية وجود علاقة تنظيمية تربط “النهضة” بجماعة “الإخوان” سواء في مصر أو “بالتنظيم الدولى”. هذه الجماعة التي تعرف تتبعات أمنية واتهام بكونها “جماعة إرهابية” ما جعلها محل محاصرة سياسية، داخل مصر – حيث نشأت في عشرينات القرن الماضي – إضافة إلى كونها أصبحت محل ملاحقة من قبل دول عربية وأوروبية، بعد إعلان السعودية والإمارات وعدد من الدول الأخرى تصنيفها هي والجماعات المرتبطة بها كتنظيمات إرهابية، فضلا عن الضغط على داعميها من الدول الأخرى من أجل فك الارتباط بها.

القرار الخليجي والاتهامات الأوروبية، رمت بظلالها داخل الفاعلين في الحقل السياسي التونسي، نخب وأحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني، التي لا تزال تنظر بعين الريبة إلى إخوان تونس – نعني هنا حركة النهضة – عبر علاقة ما زالت تخيم عليها أجواء “أزمة الثقة” رغم كل “التنازلات” التي قدمتها النهضة.

كما كان لوقع “صدمة” إسقاط حكم الإخوان في مصر مفعول الزلزال على النهضة الإسلامية في تونس، وهو ما جعل زعيمها يدرك أن الدور القادم سيكون عليهم، ما جعله يسرع بإقناع إخوانه بضرورة التسريع بإجراء “مراجعات” تشير إلى وجود مسافة بين النهضة والإخوان، بما يساعد على تجنب إعادة “السيناريو المصري”، قبل أن “يسقط المعبد على رؤوسهم” مثلما ورد في تصريح شهير منسوب للغنوشي موجه لأبناء النهضة الرافضين للتنازل والتسوية السياسية.

خيار “الواقعية السياسية” مكن النهضة من خروج آمن من الحكم، مع المحافظة على “موقع رئيسي” في المشهد السياسي وفي الخارطة الحزبية. ذات الموقف البراغماتي تسلح به الغنوشي مرة أخرى، لتجاوز تداعيات القرار الخليجي والمتمثل في اعتبار “الإخوان” و”مشتقاتها” في كل الأقطار العربية والإسلامية تنظيمات إرهابية. من خلال “تبرئه” من الإخوان، وتأكيد أن النهضة حزب تونسي يخضع للقانون التونسي، ولا تربطه أية علاقة بالإخوان التي قال إنها “تنظيم مصري”. برغم وجود شواهد دامغة على صلة وثيقة كانت وما تزال تربط الغنوشي بمكتب الإرشاد، وبالتنظيم الدولي للإخوان وواجهته الدعوية الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين برئاسة المرشد الروحي للإخوان الشيخ يوسف القرضاوي .

القطيعة بين المناورة والمبدئية

إن مواقف راشد الغنوشي، التي أعلن فيها ما يشير لوجود تباين وليس قطيعة بين الطرفين، لا يمكن فهمها إلا في سياق العلاقة التي بدأت تبرز بين الجانبين، مباشرة بعد الانفتاح على الحراك الاجتماعي والسياسي التونسي، وبعد قيام الثورة الإيرانية التي أحدثت هزة في مسلمات الفكر السياسي والاجتماعي الإخواني، تم التعبير عنها خاصة من قبل الحركة الإسلامية في تونس، والذي مثل بداية خلق مسافة نقدية بين المركز/القاهرة والأطراف/تونس. لكن هذا لا يعني القطيعة بين “المرشد” في القاهرة والشيخ الغنوشي، حيث تواصلت روابط التضامن والتنسيق بين الطرفين، رغم بروز خلافات جوهرية، ستتعمق خلال فترة التعاطي مع الحكم بعد ثورات الربيع العربي.

بعد امتصاص “صدمة” ما حصل في مصر، التي تلت عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي من قبل المؤسسة العسكرية استجابة لمطلب مجتمعي واسع، لم يتورع راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة عن التلميح لتحميل الإخوان جانبا من المسؤولية عما حدث، غير أن هذا لم يجعله يتجاوز سقف “التمترس” وراء اعتبار أن “الأزمة في مصر ولدت من خلال التمرد على الشرعية باستغلال صعوبات وحتى أخطاء، لا من خلال التصحيح، الذي هو من واجب المعارضة، وإنما من خلال الرفض لإرادة الشعب المعبّر عنها في انتخابات حرّة نزيهة شارك فيها الجميع واعترف الجميع بنتائجها، فالمشكل هو مشكل فشل ديمقراطي وفشل النخبة الحداثية المصرية في الوفاء بمقتضيات الديمقراطية”.

وهنا يحاول الغنوشي البروز في صورة المدافع عن الديمقراطية، في انسجام تام مع مواقف العواصم الليبرالية الغربية وكذلك واشنطن، التي يريد الغنوشي أن يتماهى معها بغاية الترويج لصورة “الإسلامي الديمقراطي”.

في هذا السياق يقول الغنوشي: “الآن هناك إصرار عنيد على تعريف جديد للديمقراطية وعلى تعريف جديد للشرعية تؤمن بأن طريق الشرعية الديمقراطية ليس صناديق الاقتراع وإنما الحركة في الشارع”، وشدد الغنوشي على أن هذا المنطق “معناه إلغاء الديمقراطية وتوليد شرعيات غير مصادر الانتخابات، ولو أننا سايرنا هذا لأعطينا الحق لكل من يفشل في الانتخابات أن يقود تحركا في الشارع لينتج شرعية”.

رغم بعض “الجرأة” في نقد إخوان مصر، تحديدا مسؤوليتهم في دفع الوضع نحو التأزم، وتأخير بل رفض كل فرص البحث عن حل سياسي على غرار ما حصل في تونس، فإن راشد الغنوشي ألمح إلى فشل وساطته في إقناع الإخوان بالوساطة، التي قال إنها حظيت “بترحيب من أكثر من جهة دولية ومصرية”، لكن الأحداث كشفت لاحقا عن عجز الغنوشي في إقناع مرسي والمرشد خاصة بتجاوز تداعيات الأزمة، التي كان يدرك جيدا أنها “ستكون لها انعكاسات كارثية ليس على مصر فقط بل على الربيع العربي والتونسي الموصوف بالنجاح”.

براغماتية الشيخ “التكتاك”

إن مواقف راشد الغنوشي، التي جنبت تونس الدخول في مواجهة بين الإسلاميين والعلمانيين، وبين الإسلاميين والدولة، والتي كانت محل ترحاب وتم الترويج لها على أنها “نموذج” لإسلام معتدل، بينت مقدرة في “التكتيك” أو “البراغماتية” السياسية. لكن لابد من الإشارة إلى أنها مواقف قامت على إكراهات سياسية أكثر من أنها مبنية على جهد فكري وتنظيري.

ولعل هذا ما يفسر الريبة في التعاطي معها، وتواصل النظر إليها على أنها لا تتجاوز حدود “المناورة السياسية”، فالإسلاميون – بما في ذلك زعيم النهضة راشد الغنوشي- ما زالوا بعيدين عن تقديم قراءة واقعية لموقع الدين في المجتمع والدولة، بل إنهم كلهم يتبنون المقولة المركزية: “الإسلام هو الحل”، وأن “الإسلام دين ودولة”.

وهذا ما ذهبت إليه جل البحوث، التي اهتمت بدراسة حركات الإسلام السياسي على تباينها، وتحديدا حركة “الإخوان المسلمين”، التي تمثل التيار الرئيسي، لما يعرف بظاهرة الإسلام السياسي، ما يجعل من المراهنة على وجود انقسامات وتباينات داخل “الإخوان” والجماعات التي تأثرت بها وبنهجها وبأدبياتها، مجرد سراب و”حرث في أرض بور” كما يقال، نظرا لوجود روابط عقدية عميقة، إضافة إلى رابطة التنظيم وهي مقدسة، وبالتالي ليس من السهل الفكاك منها، فضلا عن تحالفات معقدة.

العربية نت – منذر بالضيافي

Exit mobile version