المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

قراءة في كتاب: حرب أميركا في الشرق الأوسط الكبير

حرب أميركا في الشرق الأوسط الكبير
التدخل الأميركي في المنطقة يحصد نتائج فاشلة
التاريخ: 15 مايو 2016

البيان

يلخص هذا الكتاب في طروحاته وآرائه العبارة التي سبق وأطلقها السياسي الفرنسي القديم جورج كليمنصو (1841- 1929) وقال فيها: الحرب مسألة خطيرة، وأخطر من أن تُترك للجنرالات!

والمعنى بداهة أن الحرب غير القتال، وهي تتطلب رؤية أشمل وأوسع من مجرد الاقتصار على حشد الجيوش وتدريب الجنود وتعبئة السلاح والعتاد في ساحات القتال.

من هنا دارت محاور هذا الكتاب حول تأكيد المؤلف ضرورة ألا يقتصر أي قرار أميركي يتعلق بالتدخل العسكري في منطقة الشرق الأوسط الكبير على الجانب العسكري، بقدر ما أن المطلوب هو أن يكون هذا القرار في خدمة العمل السياسي والجهد الدبلوماسي وليس العكس، رغم أن هذا ما شهدته قرارات الرؤساء الأميركيين المتوالية، وبالذات ما بين جيمي كارتر في سبعينات القرن الماضي وحتي جورج بوش – الابن في السنوات الأولى من القرن الجاري.

ويوضح الكتاب أن التحليل السياسي والجهد الدبلوماسي كفيلان بتشكيل الركيزة المعرفية المطلوبة لكي يقوم القرار العسكري على أساس من الإلمام بعوائد وتاريخ وأعراف وآمال شعوب الشرق الأوسط الكبير، وإلا تحولت الجهود العسكرية بعيداً عما كانت ترمي إلى تحقيقه من أهداف.

كان ذلك منذ 114 سنة. بالتحديد في عام 1902 للميلاد، يومها عمد القبطان الأميركي ألفرد ثاير ناثان (1840- 1914) إلى صياغة مصطلح كان مستجداً في تلك الأيام لتحديد معالم المنطقة التي تفصل بين الهند والجزيرة العربية. وفي إطار هذه المحاولة الأميركية أضيف إلى أجرومية الجغرافيا السياسية في عالمنا ذلك المصطلح الجديد: «الشرق الأوسط».

والحق أن كانت دوائر الأمبريالية البريطانية قد سبقت في مناسبة أو أخرى إلى استخدام مصطلحات من قبيل الشرق الأوسط والشرق الأدنى، وكان ذلك أيام سطوة المؤسسة الاستعمارية – الاقتصادية التي شهدتها في أيام القرن التاسع عشر شبه جزيرة الهند، وما يجاورها من تخوم في شرقي الجزيرة العربية، وهي شركة الهند الشرقية.

لكن مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، اتسع استخدام مصطلح الشرق الأوسط للدلالة على المنطقة التي شهدت صراعات الحلفاء الغربيين مع جيوش ألمانيا النازية وجحافل موسوليني الإيطالية، وجاء ختامها الحاسم في معركة العلمين (1942) على الساحل الشمالي الغربي من مصر، بانتصار جيوش مونتغمري البريطاني على قوات رومل الألماني، وهو الانتصار الذي رفعت أعلامه وقتها قيادة الشرق الأوسط التي كانت إنجلترا أو حليفاتها قد أنشأتها واتخذت مقرها في حي جاردن سيتي الأرستقراطي على نيل القاهرة.

وكان طبيعياً أن تتغير معالم الصورة بعد انتصار الحلفاء (غرب أوروبا وأميركا) في الحرب العالمية الثانية، وجاءت أبرز معالم وحقائق هذا التغيير متمثلة في تسلّم الولايات المتحدة زمام القيادة في عالم النصف الثاني من أربعينات القرن الماضي، فيما كان طبيعياً أن يصبح الشرق الأوسط من أهم محاور اهتمام ساستها ومفكريها بعد أن آلت إلى عاصمتها واشنطن مواريث المصالح والاهتمامات بالمنطقة المذكورة منحدرة من أيام ومصالح الإمبراطورية البريطانية والاستعمارية الفرنسية.

دور النفط

ثم زاد الاهتمام الأميركي بالمنطقة، وخاصة شبه الجزيرة العربية في القلب منها، بعد اكتشاف واستخدام النفط من ناحية، فضلاً عن فرض مشروع الاستيطان العنصري الصهيوني عند تخوم الشرق الأوسط المطلة على البحر المتوسط في فلسطين.

ثم ازداد الاهتمام – الأميركي بالذات بمنطقة الشرق الأوسط في غمار وقائع الحرب الباردة التي اشتعلت كما هو معروف بين القطبين السوفييتي والأميركي، وكان الشرق الأوسط في مقدمة ساحاتها، خصوصاً بعد ما شهدته المنطقة المذكورة من متغيرات جذرية بكل معنى، كان في مقدمتها اشتداد ساعد حركات التحرير، ودعوات الاستقلال الوطني، ناهيك عن بروز زعامات وطنية رسمت مسارات غير مسبوقة لديناميات الحركة الشعبية في المنطقة، وكان في مقدمة هذه الزعامات بالطبع شخصية الزعيم المصري جمال عبدالناصر.

عن سياسة الاحتواء

والحاصل أن بدأ التعاطي الأميركي مع أحوال المنطقة وتطوراتها باتباع سياسة الاحتواء التي نادى بها الدبلوماسي الأميركي البارز جورج كينان (1904- 2005) وتقصد إلى محاولة عزل النفوذ السوفييتي وتطويقه من خلال سلسلة من القواعد العسكرية التي يتم بثها في تخوم الشرق الأوسط، فضلاً عن تنفيذ برامج التقرّب إلى جماهير المنطقة من خلال برامج المعونات والمساعدات (النقطة الرابعة نموذجاً).

كان ذلك على امتداد عقدي الخمسينات والستينات، وحين جاء العقد السبعيني شهدت أميركا قيادة جديدة جاءت من صفوف الحزب الديمقراطي وتمثلت في شخصية جيمي كارتر الرئيس رقم 39 للولايات المتحدة الأميركية.

كتاب الكولونيل الأميركي

حقبة كارتر هي المهاد الفكري الذي تنطلق منه طروحات الكتاب الذي نعايشه في هذه السطور، عنوان الكتاب هو: «حروب أميركا من أجل الشرق الأوسط الكبير». بعدها يورد عنوان الكتاب عبارة تفصيلية تقول بما يلي: تاريخ عسكري.

والعبارة بديهية، لأن مؤلف هذا الكتاب يستند إلى تاريخ مهني في سلك العسكرية الأميركية، حيث عمل مؤلفنا الكولونيل السابق أندرو باﺴﯿفيتش على مدار 23 سنة ضابطاً في الجيش الأميركي، وهو ما أدى إلى إثراء معارفه وقدراته الفكرية التي يجمع فيها بداهة بين الجانب النظري – التحليلي وبين الجوانب الميدانية والخبرة المباشرة.

ثم تزداد أهمية هذا الكتاب من واقع تعرّضه بالدراسة والتحليل للحقبة الممتدة من رئاسة جيمي كارتر في السبعينات كما أسلفنا، إلى رئاسة باراك أوباما التي تميل حالياً إلى أوان الغروب مع نهاية عام 2016 الجاري.

الحرب ونتائجها العكسية

وفي كل حال يصدُر المؤلف عن رأي يفيد بأنه كلما أرسلت أميركا مجموعات أو قوات من جنودها (وضباطها) إلى الشرق الأوسط، فإنها لا تجني في تصوّر المؤلف سوى مزيد من إراقة دمائهم. لماذا؟

لأن الرؤساء الذين يُصدرون القرارات الاستراتيجية في البيت الأبيض، لم يتوافر لديهم – كما يوضح الكتاب – الإلمام، ومن ثم الحذق الكافي في التعامل مع مشكلات وقضايا وأوضاع المنطقة، ولا الإحاطة المطلوبة بأوضاع وتيارات ومآلات السياسة الخارجية لدولة عظمى في حجم الولايات المتحدة: ربما يكون الاستثناء الذي يتوقف عنده مؤلف هذا الكتاب هو الرئيس الأميركي الأسبق دوايت أيزنهاور (1890- 1969). وربما يرجع هذا الاستثناء إلى أن أيزنهاور تولى الرئاسة خلال وهج الانتصار الأميركي في الحرب العالمية الأخيرة وكان كما هو معروف قائداً لقوات الحلفاء.

مشكلة أميركا كما تعرضها فصول هذا الكتاب تتمثل في أن قواتها العسكرية عمدت إلى خوض حروب على صعيد ما يصفه المؤلف بأنه الشرق الأوسط الكبير، حيث تتجاوز حدوده وتخومه المنطقة الواقعة في معظمها إلى شرقي البحر الأبيض المتوسط، فيما تمتد المنطقة، ومن ثم تتوسع اهتمامات واشنطن، إلى مناطق تصل إلى أفغانستان عبوراً بإيران وباكستان وربما إلى شمالي شبه القارة الهندية، وهنا يرى المؤلف أن واشنطن دخلت في سلسلة من الحملات العسكرية عبر العالم الإسلامي.

ولم تستطع تحقيق في ذلك ما يصفه المؤلف أيضاً، بأنه نجاحات حاسمة، بل إن من الإجراءات التي سبقت واشنطن إلى اتخاذها أملاً – كما أعلنت – في التوصل إلى السلم والاستقرار، ما لبثت أن أوصلت إلى عكس المطلوب، وهو ما أدى إلى طرح وانتشار مصطلحات ما برحت تتردد في الخطاب السياسي الراهن، ومنها مثلاً الحروب المتواصلة والمفتوحة (بلا نهاية أو ختام).

حين أخطأت القيادات

هنا أيضاً توضح فصول هذا الكتاب أبعاد الخطأ في التصورات على نحو ما فعلت القيادات العسكرية الأميركية في ساحة أفغانستان: بادروا في أعقاب التدخل المشهود (بعد أحداث 11 سبتمبر 2001) إلى إعلان انتصارهم (على طالبان وحلفائها) دون أن يدركوا أن أعداءهم بادروا من جانبهم إلى الانسحاب ترقباً ليوم آخر، أو ظروف مغايرة يعاودون فيها خوض القتال بوصفهم قوى لحرب العصابات، وهذا ما حدث بالضبط.

أما الخطأ الآخر الذي توضحه تحليلات المؤلف، فيلخصه ما يطلق عليه الكتاب المصطلح التالي: «شخصنة العدو»، بمعنى الافتراض الخاطئ بأن إزاحة شخصيات من قبيل صدام حسين أو بن لادن أو القذافي كفيل بإنهاء الصراعات المحتدمة وإطفاء نيرانها بغير توان، وهو بالطبع افتراض مغلوط على نحو ما لاتزال تشهد به تطورات الأحداث. وهنا لا يتردد مؤلفنا في إبقاء المسؤولية على عاتق كل من راسمي السياسة الخارجية وأيضاً مخططي التدخلات والعمليات العسكرية في أميركا على حد سواء.

فولبرايت وغطرسة القوة

ومن سطور هذا الكتاب أيضاً ما يكاد يعكس العبارة الشهيرة المنسوبة إلى السناتور الأميركي الشهير وليام فولبرايت (1905- 1995) وكان رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي وقال فيها: مشكلة أميركا تتمثل في غرور – غطرسة القوة.

والمعنى بداهة ينصرف إلى فرط الاعتداد بما حازته أميركا من إمكانات، بوصفها أحدث دولة كبيرة على خارطة العالم، بحيث لا يزيد عمرها على قرنين من عمر الزمان أو ما يزيد قليلاً – مع ثروات طبيعية ومالية، وبالتالي من نفوذ سياسي وقدرات علمية وتكنولوجية، وهو ما تولّد معه ذلك الشعور الذي ألمح إليه فولبرايت بالغطرسة لدى المقارنة مع كثير من الدول الأفقر والشعوب الأقل حظاً في عالمنا، بيد أن هذا الشعور الذي يكاد يصل إلى حد الاستعلاء إنما يسلم، على نحو ما يوضحه الكتاب – إلى التصور بأن القوة العسكرية، مجرد القوة العسكرية، هي القادرة على حسم كل القضايا وتغيير كل المسارات، وتلك أمور ثبت – في تصورات المؤلف – أنها لا تحقق لأميركا ما كانت ترجوه من وراء تدخلاتها العسكرية في أقطار وأرجاء شتى من الشرق الأوسط الكبير، ما بين الصومال، إلى أفغانستان وإلى العراق.

ومن قبل هذا كله في لبنان، بل تكاد النتائج تفيد بأن الذي حدث هو العكس، متمثلاً في نشوء حركات ودعوات مناوئة لأميركا بقدر ما أنها بعيدة عن مصالح الشعوب التي تعرضت لتلك التدخلات التي استعرضت فيها واشنطن ما تتصوره بأنه جبروتها العسكري، بدلاً من أن يقوم هذا الاستعراض على أسس من الفهم السياسي والجهد الدبلوماسي والتواصل البنّاء مع شعوب المنطقة.

ومن خلال جهد حقيقي وجاد لدراسة أحوالها وظروفها وفهم لتاريخها وتراثها وأعرافها وآمالها، بدلاً من المبادرة إلى تصوّر أن شعوب الشرق الأوسط لم يعد يهمها – على نحو ما يهم الأميركيين – سوى محاكاتهم في نزعة الإغراق في الاستهلاك.

ومن هذا المنطلق، وكما يوضح الناقد الأميركي دﻳفيد رودي، فإن المبادرة بغير تردد أو توان إلى وضع الثقة في القوة العاتية للعسكرية الأميركية تضع واشنطن في مأزق لا يمكن الخروج من ربقته إلا مقابل ثمن باهظ ومغارم بغير حدود.

التدخل من الصومال إلى العراق

في هذا السياق يتوقف مؤلف الكتاب، بحكم خبرته العسكرية وتحصيله الأكاديمي في مجال التحليل السياسي، عند نماذج تثبت ما يذهب إليه في هذا المضمار، وهي النماذج التي تشمل ما يلي: قصف العاصمة اللبنانية بيروت عام 1983، ودور العسكرية الأميركية في ساحة الصراع الملتهب بالصومال، ثم حرب العاصمة الصومالية مقديشو في عام 1993، إضافة إلى عملية غزو العراق خلال رئاسة بوش – الابن عام 2003، ناهيك عن ظهور واستشراء عناصر «داعش» خلال سنوات العقد الراهن.

في السياق نفسه، يتوقف المؤلف عند نقطة جوهرية من نقاط ومعطيات السلوك الذي تنهجه القيادات العليا في العاصمة واشنطن خلال معالجاتها للقضايا المحورية، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط: إنهم – في رأي المؤلف – يبادرون إلى الحشد والتعبئة تمهيداً لاستخدام القوة العسكرية، ومن منطلق الفهم، أو التصور، بأن استخدام القوة العسكرية لأكبر دولة في العالم، ينطوي على إشارة بليغة بأن واشنطن لا تعرف الهزل أو الاستضعاف بل هي جادة بكل معنى الكلمة في التعامل مع مشكلة هنا أو ظاهرة سلبية هناك.

لكن المؤلف يرى في مثل هذا السلوك ما يؤدي إلى تقليل أو إضعاف الدور الذي يجب أن يضطلع به السياسيون والدبلوماسيون في التعامل مع مثل هذه القضايا والمشكلات، وفي هذا الخصوص يقول: بدلاً من وضع القوة العسكرية في خدمة الدبلوماسية، ينبغي أن يتم العكس (بحيث تعمل الدبلوماسية أولاً في خدمة القوة العسكرية).

قرار التدخل يحتاج لدراسة سياسية

لا يكفّ المؤلف عن تأكيد رؤياه ومن ثم دعوته، إلى أن يقوم القرار، أي قرار يقضي بتدخل عسكري أو باستخدام القوات الأميركية المسلحة، على أساس وطيد من الدراسة السياسية ومن الجهود الدبلوماسية التي تستهدف قبل كل شيء استيعاب أفكار وحياة وآمال الشعوب المستهدفة بأي تدخل من هذا القبيل في منطقة الشرق الأوسط الكبير، وهنا يرى المؤلف أيضاً أن دعوته الموضحة أعلاه، لا تصدر فقط عن جهد مبذول في مجال التحليل السياسي أو استيعاب دروس – كثير منها بالغ المرارة وهي مستقاة من تدخلات العسكرية الأميركية، ولكنه جهد ينطلق من وعي أبعاد عصرنا في القرن الحادي والعشرين.

المؤلف

أندرو باسيفيتش محلل ومؤرخ عسكري وأستاذ علوم الاستراتيجية والعلاقات الدولية في المعاهد الأكاديمية بالولايات المتحدة. يبلغ من العمر 69 عاماً، وقد تخرج أصلاً في كلية وست بوينت العسكرية. وبحكم مولده ونشأته في أميركا فقد خدم في مطلع شبابه في جيش أميركا خلال حرب فيتنام إلى أن نال رتبة الكولونيل (العقيد) في بداية عقد التسعينات، ثم تقاعد مبكراً كي يتحول إلى العمل الأكاديمي والدراسات الفكرية بوصفه مؤرخاً ومحللاً للسياسة الخارجية والتوّجهات العسكرية للولايات المتحدة.

تأليف: أندرو باسيفيتش

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: راندوم هاوس، نيويورك، 2016

عدد الصفحات: 480 صفحة

Exit mobile version