المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

أحمد دحبور: عود اللوز الأخضر الذي لا يكلّ من الذهاب إلى حيفا

رام الله- وفا- يامن نوباني- في أي لقاء أدبي أو ندوة شعرية أو حوار صحفي، تكون حيفا جوهر ولذة ما سيقوله، فهو المليء بحيفا، وكما قالها مرة: لا أكلّ من الذهاب إلى حيفا. كاتب أهم أغنيات الثورة الفلسطينية، التي اشتهرت بها وغنتها فرقة العاشقين.
أحمد دحبور المولود في حيفا، يوم 21-4-1946، والعائد إلى حيفا يوم 21-4-1996، جرحه الأول خسارة حيفا، شاءت الأقدار أن تكون الخسارة في عيد ميلاده الثاني، في 21-4-1948، فيقول: لم يشعل لي أهلي شمعتين احتفاءً بعيد ميلادي الثاني، إنما حملوني وهاجروا بي في المنافي.
هي حال أقدار كثير من الفلسطينيين، فيها من الغرابة والمصادفة ما يضمن لأن تكون حياة كل واحد فيهم رواية، وهم الذين يلتقون بأبنائهم وآبائهم خلف قضبان سجون الاحتلال، ومنهم من ولد وعاش ومات وهو يحلم بأن يشم هواء الوطن، وآخرون هجّروا وهم يحملون من الوطن أسماء بلداتهم الصغيرة وبضع حكايات يروونها شفويا منذ سبعين سنة، ومنهم من أخذه الكبر إلى نسيان تلك التفاصيل، وهذا طبيعي جدا، لأولاد كانوا بعمر الثامنة والتاسعة، قبل أن تخطف المنافي باقي العمر.
حين عاد للوطن، بعد 48 عاما من التهجير عاشها في حمص، قرر دحبور أن يدخل حيفا يوم 21-4- 1996، زار بيته ووجد قاطنيه من العرب، فاطمئن. حيفا هي خلاصة روحه، عرفها من أمه وجدته، كان يساوره قلق: هل حيفا بهذا الجمال فلعا، أم أنها من نسج خيال أمه؟ وحين زارها كانت حيفا كانت أكثر جمالا وبهاء من وصف أمه.
وإن عجز جسد دحبور الممدد الآن على سرير الشفاء، فإن أشعار وأفكار وأغنيات من كتب في حمص عام1969: إن الكف لن تعجز، وباقية في أعراس الشهداء، وكلمات الشعراء، وجدران الحارات والأزقة، تصدح من البيوت والاذاعات والمناسبات الوطنية، باقية في العقول المنتفضة كل وقت على التشرد.
يقول الذين عرفوه: علمنا كيف تسكن الأوطان فينا ونحن نسكن المنافي. فهو الذي كتب:

أنا الولد الفلسطيني
أنا الولد المطل على سهول القش والطين
ويوم كبرت.. لم أصفح
حلفت بنومة الشهداء، بالجرح المشعشع فيّ: لن أصفح..
وهو الذي صرخ في قصيدة “جنسية الدمع”: يا فلسطين، يا دمعة الله، للحزن أن يترجّل يوماً، ليدخل، من بيت لحمك، طفلُ الفرح ونعرف ماذا يخبئ، في الدمع، هذا القطار ولكن أيرجع من ذهبوا؟ لقد ذهبوا ليعيدوا النهار لكنهم ذهبوا.
تعلم في طفولته على يد أمه وجدته، قبل أن يعرف الشعراء. خاصة في بداياته، أهمهم موريس قبق ونزيه أبو عفش. نشر أول مجموعاته في سن الثامنة عشرة، قبل ذلك بأربعة أعوام كان قد نشر قصائد بدائية، لكنه رفض أن تكون انطلاقته الفعلية.
أحمد دحبور الشاعر والإنسان، حاضر في كل بيت فلسطيني، بأربعة عشر ديوانا، وبأغانيه التي يرددها معظمنا دون أن يدري من كتبها، ومنها: والله لازرعك بالدار يا عود اللوز الأخضر، ودوس منت دايس عالزناد، اشهد يا عالم علينا وعَ بيروت، وجمّع الأسرى جمّع في معسكر أنصار، ووردة لجريح الثورة، وهبت النار والبارود غنى، وأبو إبراهيم ودع عز الدين، وفي كل بيت عرس ودمعتان، والعديد من المواويل والأغاني الثورية. وقام ببطولة الفيلم الروائي القصير “الناطور” عام 1988 وأدى فيه شخصية الفلاح الفلسطيني أبو القاسم، الذي يصبح حارساً (ناطوراً) للمدرسة في قريته، بعد أن قام جند الاحتلال الصهيوني بمصادرة أرضه.
“وفا” جمعت عن دحبور أقوال ومواقف من ندوات وحوارات يعود بعضها إلى منتصف تسعينيات القرن الماضي، كما قابلت أصدقاء الشاعر.
الشاعر خالد جمعة

يقول الشاعر خالد جمعة: عندما بدأ رجالات منظمة التحرير في الوفود إلى فلسطين بعد اتفاق أوسلو، صُدمنا بالكثير من الشعراء والفنانين الذين تربينا على أغانيهم وأشعارهم، وقبل أن تترسخ لدينا فكرة غير مدوزنة عنهم، تعرفنا بشخص واحد، لا يمكن تعريفه بغير كلمة “شاعر حقيقي”، جاء ليقلب المعادلة ويعيد إلينا التوازن.
فاجأني أحمد دحبور “أبو يسار” بأنه كان يتابع من الخارج جميع نتاجاتنا الأدبية، بل وكان يناقشنا فيها ويسمي الشعراء بالاسم ويتلو علينا بعض العبارات من بعض القصائد لعثمان حسين ولي ولسمية السوسي، وكأنه يسكن غزة معنا، وبدأت الثقة تعود إلينا.
كان أحمد دحبور يعاني من مشكلة اشتهار أغانيه بشكل ناري، دون أن يذكر اسمه على الأغاني، ففوجئنا كذلك بأنه كاتب عشرات الأغاني التي كنا نرددها صغاراً، خاصة تلك التي أتت على مرحلة بيروت.
تمتع أحمد دحبور بذاكرة لا مثيل لها، ففي لقاء جمعني أنا وإياه بالشاعر الراحل محمد القيسي، كان القيسي يعبئ طلباً ما، وكتب تاريخ ميلاده في الخانة المخصصة، فقام أحمد دحبور بتصليح تاريخ ميلاد القيسي، وبعد نقاش قصير اكتشفنا أن أحمد كان على حق، إلى هذا الحد كانت تعمل ذاكرته، فهو يروي لك تفاصيل التفاصيل في لقاء ربما يكون قد حدث قبل خمسين عاماً.
الشاعر زكريا محمد
وقال الشاعر زكريا محمد: أحمد دحبور واحد من الذين أسهموا في إعادة صياغة الهوية الفلسطينية الحديثة منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، أي كان واحدا من الذين صاغونا، وصاغوا أفقنا. لا يمكنك أن تتحدث بسهولة عمن أسهم بصياغتك، فأنت بشكل ما صياغته، ونحن في الواقع، وإلى حد لا بأس به، من صياغة قصيدتي: “جمل المحامل” و”حكاية الولد الفلسطيني”. ستقول لي: لكن هذه بداية أحمد دحبور، فأقول لك: ومن هو الذي لا يمكن اختصاره ببدايته؟ قل لي من هو؟ الشاعر بدايته. لا يتخطى عتبتها. البداية هي النهاية. وبداية أحمد دحبور ونهايته هي الهوية، الهوية الجمعية لا الهوية الذاتية. نحن الآن مهووسون بالهوية الذاتية، ونحن نملك هذا الترف لأن دحبور وجيله نجحوا في تثبيت الهوية الجمعية. ترف الهوية الذاتية ما كان ليكون خيارا بين أيدينا لولا أحمد دحبور ومحمود درويش وجيلهما.

يستطيع كل واحد أن يكتب عن الولد الفقير اللاجئ أحمد دحبور، عن منفاه كلاجئ في حمص السورية، عن عدم تخطيه دراسته الابتدائية، عن والده الحانوتي. كما يقدر كل واحد أن يتحدث عن مرضه الطويل خلال السنوات الأخيرة، وكيف نجا منه، مع أنه تركه منهكا. كذلك يمكن الحديث عن ضياع حاسة الذوق عنده، الأمر جعل الحلو كالمر في فمه، كما كان يدعي. ولست أدري إن كان هذا صحيحا أم أنه جزء من بناء أسطورته الذاتية. لكل واحد أسطورة يبنيها، ويعمل على ترسيخها، لا أحد يفلت من هذا. الأسطورة قدر من يعملون في الحقل الثقافي، ومشكلة الأسطورة أنها تفلت من بين صانعها في النهاية. يمسك بها الآخرون، فتتحول إلى أسطورة مختلفة. أناس الحقل الثقافي أناس أساطير. ولكي تعرفهم فإن عليك أن تتخطى أساطيرهم… لكن الأساس أن شاعرا خلقته هذه الظروف المتطرفة، تمكن من أن يكون عنصرا مركزيا في صياغة الهوية الوطنية والأدبية لشعب بأكمله.
جيل أحمد دحبور هو جيل “جمل المحامل”. الجمل الصعب الذي حمل على كتفيه عبء القضية كلها، ثم لم ينؤ بحملها.
الكاتب إبراهيم جوهر
وقال الكاتب إبراهيم جوهر: أحمد دحبور الولد الفلسطيني السبعيني يأبى الانكسار لكنّ المرض أقوى فكيف يتعايش معه “طفل” عمره سبعون مرارة وانكسار أحلام وثقة باقية؟
لم يعرفني حين أيقظته من سِنته الحالمة بفعل المهدئات والأعراض الجانبية للأدوية ومراجعة الذّاكرة. قلت له: أنا ابراهيم جوهر، وأنت قامة عالية لن يكسرها التناسي ولا الاستشفاء في مستشفى كنت تأمل كما نأمل جميعنا، أن يكون في “المتاح من الوطن”.
من عينيه وجسده المهدود ظلت إرادة قوية تطلّ برأسها لتقول لي مواسية: لا تقلق فالذي أمَّ مسيرة الحداء الفلسطيني لن ينكسر.
أحمد دحبور شاعر الثورة المعبّر عن مراحلها صعودا وهبوطا وهو يُشهد العالم “علينا وعلى بيروت والحرب الشعبية”، الذي يعرف قيمة اللحن الجميل والكلمة الصادقة في التعبئة والحفاظ على الهوية الوطنية أغنى المكتبة الأدبية والثقافية الفنية بإسهاماته الإبداعية.
كان صوتا عاليا يرسم في الآفاق حلمنا المشتهى، ومن العار على الأمة أن تترك مبدعيها أو تتخلّى عنهم لأنهم ضميرها الحي.
هو إنسان من لحم ودم وذكريات والمرض شديد الوطأة لئيم الأثر. وهذا الالتفاف الشعبي حوله يمدّه بالعزيمة ليتغلّب على “مؤامرة” المرض، فيعود منشدا للناس والأطفال مدافعا عن “النّوق” التي تذبح ظلما وامتهانا، محوّلا بيوت القشّ والطين إلى حدائق لأطفال منتظرين.

Exit mobile version