المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

الفنان المقاتل

بقلم: عمر حلمي الغول

على ثرى مدينة الفالوجة البطلة صرخ صرخة الحياة الاولى في الخامس عشر من إكتوبر عام 1940. تلك المدينة الواقعة بين قضائي الخليل وغزة. والتي حوصر فيها الزعيم البطل جمال عبد الناصر، وشكلت واحدة من اهم الارهاصات الاولى لثورة الضباط الاحرار تموز 1952. تلمس مهدي طريقه للايقاع عبر المدرسة الدينية الصوفية، التي أجادها والده، حيث كان شيخ طريقة. وتابع الطفل تطوير ملكته الايقاعية عبر مسيرة الطرد والتهجير في اعقاب نكبة العام 1948، فأمضى عامان في الاردن ثم هاجر إلى قطاع غزة. وحط رحال العائلة في معسكر الشاطىء على ساحل مدينة غزة الشمالي. وكان ابن الفالوجة يتابع عالم الافراح والاهازيج الشعبية والايقاع، لانها سكنته، وباتت جزءا من هويته وملامحه الشخصية. وشد الرحال واللجوء إلى قاهرة المعز لدين الله في العام 1958 او كما يقول هو في مقابلته المميزة مع الشاعر مراد السوداني في ال29 من يناير 2015، انه غادر القطاع في 1957 بعد انسحاب جيوش العدوان الثلاثي (البريطاني الفرنسي والاسرائيلي) منه ومن مدن القناة: بور سعيد والسويس والاسماعيلية، التي كانت بالاضافة للقطاع وسيناء ميدانا لذلك العدوان الاجرامي في ال29 إكتوبر 1956.

غيب الموت الفنان والملحن الفلسطيني العربي الكبير مهدي سردانة عن عمر ستة وسبعين عاما في قاهرة المعز، التي عشق العيش فيها بعد مغادرته قطاع غزة مع إلتحاقه بالعمل في إذاعة “صوت العرب” ثم إذاعة “صوت فلسطين” في القاهرة، واستقر به المطاف في إذاعة “صوت العاصفة” بعد إنطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، التي اعطاها ثمرة جهده الفني الابداعي. وفيها برز وتعملق كموهبة فنية عبر الحانه، التي هزت وجدان الشعب العربي الفلسطيني وكل الجماهير الشعبية العربية مع فريق من الشعراء والملحنين والاعلاميين، منهم: فؤاد ياسين، حسيب القاضي، صلاح الحسيني، الطيب عبد الرحيم، احمد عبد الرحمن، يحيى رباح، ابو عرب وكامل عليوة وآخرين من فلسطيني لبنان وسوريا.

يوم الاثنين الماضي توقف قلب مهدي سردانة. لكن الحانه وعطائه الفني مازال يبنض بالحياة والحضور الدائم. وإعترف له فنانون كبار بموهبته الموسيقية او كما جاء في لقائه مع رئيس اتحاد الادباء والكتاب الفلسطينيين على فضائية فلسطين، انه انتج سيمفونيات لا تقل اهمية عن سيمفونيات عباقرة الموسيقى، منهم: بليغ حمدي ورياض السنباطي والموجي وغيرهم من كبار الملحنين المصريين والعرب. كما واشار في تلك المقابلة المهمة، انه سجل تحفظ على اغنية ولحن “اخي جاوز الظالمون المدى” للفنان المصري والعربي الكبير محمد عبد الوهاب، التي إعتبرها من أضعف اغاني الفنان القدير لحنا وغناءا. وفي إتصال هاتفي من الفنان عبد الوهاب معه، إعترف لسردانة بصوابية وجهة نظره الفنية. واثنى على دوره الفني في حقل التلحين.

ولا يمكن لمؤرخ او فنان فلسطيني او عربي يريد التأريخ لميدان الفن والتحلين زمن الثورة الفلسطينية المعاصرة تجاوز الدور الريادي للفنان مهدي سردانة. لان بصمته مائلة بقوة في اغاني الثورة، التي شكلت الحامل المعنوي للثورة، وجعلت من كلماتها والحانها زادا للشعب والفدائيين والقيادات السياسية والعسكرية لمواصلة الصمود والثورة والعطاء. وكان الفريق الرائع والمبدع بقيادة الاعلامي المتميز فؤاد ياسين يقف على نبض الثورة. وفي كل لحظة سياسية من مسيرة الثورة ومحطاتها وانعطافاتها، كانوا ينتجوا الاغاني والالحان المناسبة للرد على هذه المؤامرة او تلك وجرائم دولة الاستعمار الاسرائيلية او التداعيات السياسية وعن الانجازات والبطولات الفردية والجمعية للشعب ومقاتلي الثورة عموما، ومنها “طالعلك يا عدوي طالع” و “ثوري ثوري يا جماهير الارض المحتلة”، و”انا يا اخي”، و”عالرباعية”، و”ياشعبنا في لبنان”، وغيرها الكثير من الاغاني الآسرة للعقول والوجدان الوطني والقومي والانساني.

ووفق ما ذكر لي الاخوة أحمد عبد الرحمن ونبيل عمرو عن عمل الفريق الفني الابداعي في القاهرة او درعا/ سوريا، عندما كانت الضرورة تستدعي إنتاج عمل غنائي، يقوم القائد الاعلامي فؤاد ياسين بعقد إجتماع لهم: ويطلب من الشعراء إعداد كلمات اغنية لحدث بعينه، ثم يطلب من الملحنين وخاصة مهدي إعداد اللحن المناسب، وبعد ذلك يجلسوا جميعا للتدقيق في جمالية النص واللحن، وتدوين الملاحظات او التثنية والمباركة عليه. بمعنى ادق، كان هناك شكل من اشكال التناسق والتناغم الهرموني بين كل القائمين على نجاح وتطور الاذاعة. لانهم كانوا يعتبرون الاغنية واللحن شكلا من اشكال القتال الميداني مع الاحتلال الاسرائيلي وثقافتة الاستعمارية.

ونحن نودع الفنان القدير مهدي سردانة إلى حياة الخلود. يجزم المرء، ان مهدي لم يمت. وهو باق فينا ومعنا بالحانه وعطائه. هذا الفنان المقاتل، الذي لم يتفرغ إلآ في العام 1995، رغم انه التحق بالثورة وحركة فتح في عام 1965. كيف يمكن لانسان فلسطيني قائدا ام مناضلا ام إنسانا عاديا ان ينساه. ومازالت أغانيه والحانه تمثل لنا جميعا الزاد والغذاء الروحي، وتعزز فينا روح البطولة والصمود والثبات في الملمات امام التحديات من مختلف المسميات والالوان الداخلية والخارجية وخاصة الاسرائيلية. سنردد اغانيك والحانك مع كل صباح ومساء، وسنتسلح بها، لانها باتت اناشيد والحان الروح والهوية الوطنية، وعميقة الصلة بالموروث الفني الفلسطيني. وداعا مهدي سردانة. نم قرير العين، صفحتك الذهبية ستبقى تضيء افراحنا، وتخفف من احزاننا، وتشد من ازرنا، وتأخذنا بعيدا نحو احلامنا، وسنعود يوما الى الفالوجة وننقل ضريحك إلى جوار ضريح والدك واضرحة االشهداء من الفلسطينيين والعرب، لتلقي عليهم التحية وتغرد من جديد الحانك، التي ستحي العظام وهي رميم، وتمجد راية فلسطين الشعب والدولة والاحلام الكبيرة .

Exit mobile version