المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

الخارجية الصهيونية وتأصيل الغريب

بقلم: أحمد الدَبَشْ

كاتِب وباحِث فلسطيني في التاريخِ القديمِ

انتجت الخارجية الصهيونية، فيلم قصير لا تتجاوز مدته الـ 4 دقائق، عن أسرة يهودية صغيرة تقطن بيت صغير، يتعرض البيت للاحتلال من مجموعات بشرية مختلفة، وكل مجموعة تحمل صك ملكية للبيت، يتداول على البيت (اليوناني والروماني والمسلم والصليبي والمملوكي والعثماني..). أما أخر الوافدين فكان الإنجليزي، الذي يمنح الأسرة اليهودية صكاً بملكية البيت.
طرحت الصديقة الكاتبة عروبة عثمان، في مقالها الموسوم «على باب عائلة يهوديّة»، المنشور في «جريدة السفير»، 2016/10/21 ، السؤال التالي: إذا كان الشريط قد حسم أمره وكتب صاحبه «لا يهمّ من يدقّ بابنا، ما يهم أن اليهود منذ 3000 سنة يعلّقون على بابهم « Sweet Home, Land of Israel»، فماذا عن بابنا نحن الفلسطينيين؟
في هذا الفيديو المثير للسخرية، حاولت وزارة الخارجية الصهيونية اختلاق تاريخاً «إسرائيلياً« في بلادنا فلسطين، في محاولة فاشلة، وميئوس منها؛ بل يمكن اعتبارها محاولة هَزليَّة، وتبعثُ على الضحكِ، والفكاهة، بمجرد عرضها على المكتشفات الآثارية.
كثيرًا ما جرى إفراغ فلسطين، والتاريخ الفلسطيني من أي معنى حقيقي، حيث جرى
«تجريدها« من «الصفة التاريخية« كما يقول ملمن، أو «طمسها« [إسكاتها] كما يقول وايتلام.
في السنوات العشرون الماضية أو ما يقاربها، ألقيت ظلال من الشك العميق على إمكانية كتابة تاريخ لإسرائيل استناداً إلى روايات التوراة، ووصل بعض المؤرخين إلى حد التشكيك من حيث المبدأ، بإمكانية كتابة تاريخ من هذا النوع. فالبحث عن تاريخ إسرائيل ما زال غامضاً كما كان دوماً. وأي محاولة للتوفيق بين البينات التوراتية وغير التوراتية إثباتاً لتاريخانية إسرائيل، سرعان ما دخلت مرحلة الانهيار، التي ما زالت متواصلة حتى اليوم.
هذا ما دفع واحداً من ألمع علماء الآثار في (إسرائيل)، فنكلشتاين إلى القول: بأن المصدر التوراتي الذي تحكّم بماضي البحث في أصول [إسرائيل] قد تراجعت أهميته في الوقت الحاضر، ولم يعد من المصادر الرئيسية المباشرة. فأسفار التوراة التي دونت بعد وقت طويل من الأحداث التي تتصدى لروايتها، تحمل طابعاً لاهوتياً يجعلها منحازة، الأمر الذي يجعل من البحث عن بذور تاريخية في المرويات التوراتية عملية بالغة الصعوبة، هذا إذا كانت ممكنة من حيث الأصل. من هنا يرى فنكلشتاين ضرورة استقراء الوقائع الأركيولوجية استقراء موضوعياً وحراً، بمعزل عن الرواية التوراتية.
من أبرز رواد هذا الاتجاه البروفيسور تومس طمسن، أستاذ علم الآثار في جامعة ماركويت في ميلووكي بالولايات المتحدة الأمريكية، الذي حورب بسبب آرائه المعارضة للتوراتيين التقليديين، فقد طرد من منصبه في العام 1992، لأنه دعا في كتابه الذي صدر في العام نفسه، وعنوانه «التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي»، إلى “نقض تاريخية التوراة”، أي عدم الاعتماد على التوراة كتاباً لتاريخ المنطقة والحضارات, وإلى اعتماد الحفريات الأركيولوجية (الأثرية) وثروة الآثار الكتابية القديمة كمصادر لإعادة كتابة تاريخ المنطقة.
قام العلاّمة كيث وايتلام، أستاذ العلوم الكتابية في قسم الدراسات اللاهوتية بجامعة سترلنغ بالمملكة المتحدة، بمراجعة المؤلفات التي تعاملت مع تاريخ فلسطين القديم، وأدرك في حينه مدى توغل الخطاب الاستشراقي في الكتابات عن تاريخ فلسطين. وأشار إلى أن هناك عملية طمس متعمد ومبرمج من قبل الحركة الصهيونية لكثير من الدلالات التاريخية للمكتشفات الأثرية في فلسطين ومحاولة تفسيرها بطريقة مغلوطة في أغلب الأحيان. فتوصل في كتابه «تلفيق إسرائيل التوراتية طمس التاريخ الفلسطيني»، إلى “أن صورة ماضي إسرائيل، كما وردت في معظم فصول الكتاب العبري، ليست إلا قصة خيالية، أي تلفيق للتاريخ”.
إلا أن الصفعة القاسية والضربة القاصمة التي تلقاها الباحثون عن (إسرائيل القديمة) في فلسطين هي تلك التي رماهم به عالم الآثار (الإسرائيلي)، أستاذ قسم الآثار وحضارة الشرق القديم في جامعة تل أبيب، البروفيسور زئيف هرتسوغ، في تقريره الموسوم بـ «التوراة: لا إثباتات على الأرض»، الذي نشرته جريدة هآرتس (18/11/1999)، والذي جاء فيه: «بعد سبعين عاماً من الحفريات المكثفة في أرض فلسطين توصل علماء الآثار إلى نتيجة مخيفة، لم يكن هناك شيء على الإطلاق، حكايات الآباء مجرد أساطير، لم نهبط مصر، ولم نصعد من هناك، لم نحتل فلسطين، ولا ذكر لإمبراطورية داود وسليمان».
هذا ما حدا بأحد أساتذة جامعة تل أبيب لعلوم الآثار، البروفيسور نيل سبلرمن، وزميله البروفسور فنكلشتاين، إلى إطلاق صرختهما الشهيرة في كتابهما الصادم «التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها»، وذلك بعد أن تبين لهما وجود تضارب عميق بين ما تسطره التوراة فيما يخص تفاصيل المواقع الجغرافية لأنبياء وممالك بني إسرائيل وبين ما تشهد به الأرض بعد أن استنطقتها علوم الآثار.
أما د. شلومو ساند، البروفيسور في جامعة تل أبيب فإنه في كتابه «اختراع الشعب اليهودي»، والذي ضرب رقما قياسيا في مبيعاته يؤكد أن القومية اليهودية هي ميثولوجيا ولقد جرت فبركته قبل مئة عام من أجل تبرير إقامة الدولة الإسرائيلية. ويؤكد أن اليهود لم يطردوا من الأراضي المقدسة و معظم يهود اليوم ليست لهم أي أصول عرقية في فلسطين التاريخية».
في نهاية المطاف، أطرح التساؤل الذي طرحه الباحث غاربيني: «أين النقوش العبرية من عصر الحديد؟ إن أياً من الملوك الأربعين الذين تسلسلوا منذ شاول إلى صدقيا، لم يترك لنا أثراً يذكر فيه اسمه! أين وثائق العصر الفارسي؟ إن المدونات الكتابية والبقايا الأثرية بقيت في الحد الأدنى وصولاً إلى زمان لا بأس به من العصر الهيلينستي».

Exit mobile version