المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

من هتلر والإنجيل إلى «داعش» والقرآن

بقلم: د. خالد الحروب

الهوس والتفاهة اللذان يمتاز بهما خطاب الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب تجاه شؤون كثيرة منها “الإسلام الراديكالي” سوف يسرعان في جر العالم نحو حقبة جديدة من “صدام الأديان والأصوليات”.
تاريخ البشر، قديماً وحديثاً، حافل بحقب دموية تسبب فيها قادة رُعْن مهووسون بخطابات دينية أو شعبوية أو شوفينية، يقودون شعوبهم والعالم إلى بحار من الدماء.
عندما يتحدث زعيم شعبوي لقوة عظمى وصل إلى الحكم على رافعة الشعارات الغرائزية التي تمجد الأنا الجماعية وتطهرها وتشيطن الآخر وتجرمه، فعلى العالم توقع الأسوأ.
تاريخ البشر يقول لنا، أيضا، إن استغلال الدين وتوظيفه وتحويره هو الطريقة الأقصر للوصول إلى قلوب عامة الناس وتثويرهم وحشدهم كالقطيع وراء الزعيم أو الحزب أو الدولة التي تقوم بالتوظيف.
خطورة خطاب ترامب لا تحتاج إلى نقاش مُعمق، وبعض من تلك الخطورة يتأتى من تراكم إدراك غربي وغير غربي خلال العقود القليلة الماضية يحصر العنف الديني واستغلال الدين في المسلمين والإسلام، بسبب صعود التنظيمات الأصولية الإسلاموية التي تنسب نفسها للدين والجهاد، وآخر تمظهراتها القاعدة وداعش.
هذا الإدراك الغربي المُختزل والتسطيحي يخلق البيئة المناسبة لتبني سياسات عنصرية وفجة وحربية أيضا ضد الآخر.
على ذلك من الضروري معرفياً وسياسياً التوقف ملياً وموضعة العنف المنسوب للدين في سياقاته التاريخية من ناحية، وإدراك اتساع نطاق تطبيقاته لتشمل معظم إن لم يكن كل الأديان والثقافات.
لا تقدم هذه السطور أية مرافعة اعتذارية للعنف الإسلاموي الذي يستخدم الدين من قريب أو بعيد، بل تدينه بلا تردد ومن دون “لكن”، بيد أنها توسع النقاش وتوجه الاتهام إلى الغرب أيضا حيث تاريخه القديم والقروسطي والحديث حافل باستغلال الدين ويفيض بالعنف الديني الدموي.
لا يحق لترامب ولا لأي زعيم غربي أن يتغاضى عن تواريخ عريضة في إبادة الشعوب الأصلية سواء في القارة الأميركية نفسها، الشمالية والجنوبية، وكذا في بقية مناطق العالم حيث استخدم الدين لصالح سياسة الاستعمار والاستئصال وعلى نطاق واسع.
في كتاب كلاسيكي رصين صدر أواخر القرن الماضي بعنوان “الإنجيل والاستعمار”، The Bible and Colonialsm تصدى بروفسور الإلهيات مايكل بريور في جامعة ساري آنذاك إلى العلاقة الوثيقة بين العديد من المشروعات الاستعمارية الغربية والإنجيل. درس بعمق المسوغات الدينية التي ساقها الاستعمار الأبيض لجنوب إفريقيا، ولأميركا اللاتينية، ولفلسطين، وأبرز آليات تبرير العنف بحدوده القصوى ضد الشعوب الأخرى.
بحسب المنظور الديني المُحور والمُؤول فإن تلك الشعوب غير المسيحية، سواء أكانت الهنود الحمر في أميركا والسكان الأصليين في أميركا اللاتينية ونظائرهم في إفريقيا بطولها وعرضها، ثم العرب في فلسطين، كانت محكومة بالخطايا الأبدية، ولذا كان عليها أن تخضع لخيارات القوة المسيحية البيضاء: إما أن تتطهر عبر التبعية للاستعمار، وإما أن تواجه خيار الإبادة.
وروجت الخطابات المرافقة للقوة الباطشة آنذاك بأن الاستعمار الغربي كان تعبيرا عن انتصار الرب ورغبته في توسيع مملكته، وكل من يواجه هذه الرغبة عليه تحمل النتائج الإبادية.
في التأمل الأعمق في “الرواية المسيحية المتعصبة” لقيام الولايات المتحدة نفسها فإننا نقرأ أن إبادة الهنود الحمر كانت مجرد “تفصيل” صغير في السردية الكبرى حول هجرة المسيحيين البيوريتانيين المخلصين من أوروبا وتحديهم للصعاب وإقامتهم لمملكة الرب في هذه الرقاع البعيدة: إنها النور على قمة الجبل التي تجسد إرادة الرب، وهي الإرادة التي لا بد أن تتمثل وتطبق حتى لو قادت إلى إبادة الشعوب الجاهلة والضالة عن تلك الإرادة.
لاحقاً، تم تطبيق نفس النظرية على قيام إسرائيل واندمجت الرؤية المسيحية الراديكالية مع نظيرتها اليهودية وانتجت المسيحية الصهيونية التي رأت في “انبعاث” إسرائيل تجسداً لإرادة ونبوءة الرب، ولم تر في الفلسطينيين، وهم السكان الأصليون، إلا “تفصيلاً” صغيراً لا يستحق الاهتمام وسط حركة التاريخ العريضة والهائلة التي يرعاها الرب.
في كل حالات السيطرة الاستعمارية على الشعوب الأخرى ومشروعات الإبادة سواء أكانت على مستوى صغير أو مستوى كبير بحجم إبادة الهنود الحمر، أو اليهود في ألمانيا الهتلرية، كان هناك محور أساسي تحوم حوله أفكار الإبادة والعنف الكلاني المنظم والطاغي، وهو تأثيم وتجريم الآخر و”طرده من رحمه الله” بقرار بشري.
بكلمة أخرى، كان الادعاء الديني الدائم هو أن الشعوب الأخرى “ضالة” وغارقة في الخطئية ولا بد من تطهير الأرض أو المجتمعات منها، وهي شعوب رديئة بالتعريف ولا تقارن بالجنس الأبيض المسيحي والمتفوق.
هذه الفكرة هي الجوهر العنصري والتدميري الذي قامت عليه النازية والتي بررت عنصريتها ومشاريع الإبادة التي تبنتها من خلال تبني تفسيرات ومقولات دينية أيضاً.
وإذا كانت الكتب والدراسات التي تعرضت للنازية وهتلر والهولوكوست تكاد لم تبق شيئاً إلا ونبشته وفككت جوانبه، إلا أن مسألة الجذر الديني للفكر النازي واستخدام هتلر للإنجيل ظل من أقل الجوانب بحثاً.
وهذا النقص هو ما دفع Ray Comfort للعودة إلى تاريخ هتلر وفكره وتأويلاته وتوظيفه للدين ثم إصدار كتابه المهم العام الماضي بعنوان “هتلر والرب والإنجيل”: Hitler, God & the Bible.
الفكرة الأساسية التي يطرحها كومفورت في كتابه ويثبتها عبر العودة إلى حياة وأفكار وخطابات وممارسات هتلر هي أنه من دون الاعتماد على المسيحية والتأويل الديني وليّ أعناق النصوص واستغلالها ما كان لهتلر ولا لدولة الرايخ أن تصل إلى ما وصلت إليه، أو أن تسوغ إبادة ستة ملايين يهودي في المحرقة.
يجادل كومفورت بأن هتلر كان مقتنعاً بأن ما يقوم به من “غربلة” للجنس البشري تفرض ضرورة التخلص من الأجناس الرديئة، وترقية “الجنس الآري الأبيض” فوق الجميع، هو ترجمة لإرادة الرب وأن تلك الغربلة مسنودة بمسوغات إنجيلية.
يحتاج الكتاب إلى وقفة خاصة به، لكن على الأقل خلاصته المدهشة يجب أن تخفف من غرور الخطاب الغربي المعاصر الذي يحصر ممارسة توظيف الدين لصالح العنف بالمسلمين.
إذن لا نحتاج إلى فلسفة زائدة ولا إلى جدل مركّب كي نضع داعش وتوظيفها الإجرامي للدين في المكان المناسب.
ونعلم، عبر المسوح الإحصائية والدراسات البحثية، أن الغالبية الكاسحة من مسلمي العالم ترفض هذه التنظيمات وتلفظها.
على ذلك فإن القاعدية والداعشية، وفي تجسدها العنفي والمسلح على الأقل، تمثل ظاهرة هامشية أقلاوية منبوذة.
لكن الخطير والمرعب هو ما يحدث على الطرف الآخر: أي الطرف الغربي وصعود الشوفينية القومية والدينية، لأن هذه الأخيرة تكتسح الوسط العام ولم تعد هامشية وأقلاوية، بدليل إفرازها لترامب، ونجاحها في فصل بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، ونجاحاتها المتوقعة خلال الشهور الانتخابية القادمة في أكثر من بلد أوروبي.
يمكن الزعم في المقابل أنه لا يمكن لأي حزب ذي نزعة داعشية أو قاعدية استئصالية أن يأمل بالفوز في أي انتخابات حرة في أي بلد عربي إو اسلامي فيما لو افترضنا أن هذا الحزب قرر خوض الانتخابات وأن القوانين سمحت له.
سيُقال هنا لكن الأحزاب الأوروبية اليمينية، على فاشيتها، وترامب والجمهوريين على راديكاليتهم، يمثلون تيارات وأحزاباً سياسية لا تستخدم السلاح، كما هي القاعدة وداعش، ويحتكمون إلى صناديق الاقتراع.
وهذا صحيح لكن بشكل جزئي وظرفي فقط، لأن الخطر الكامن وراء سيطرة يمين عنصري على الحكم في أي بلد من البلدان يفوق خطر داعش والقاعدة، حيث يتحكم الحزب الحاكم بقرار الحرب الشاملة والإبادة، وعبر الحكم تتم السيطرة على مقدرات جيوش مخيفة وقوى عسكرية نووية ومدمرة.
لنتأمل الأيام الأولى من حكم ترامب والقرارات التي وقعها كي تعطينا فكرة أولية حول نزعة الاستئصال والإبادة تجاه الآخر، سواء داخلياً مثل إعلان حرب ضد فقراء أميركا عبر إلغاء نظام التأمين الصحي (أوباما كير) الذي استهدف الشرائح الفقيرة، كما التضييق على المهاجرين غير البيض، مسلمين وغير مسلمين، أو خارجياً مثل إقامة سور يفصل الولايات المتحدة عن المكسيك وإجبار هذه الأخيرة على تحمل نفقاته وغير ذلك كثير.
ليس العنف والتطرف وتوظيف الدين حكرا على المتطرفين في بلدان العالم العربي والإسلامي، وهذا مرة أخرى ليس قبولا بهم ولا دفاعا عن إجرامهم.
فهؤلاء يبدون وكأنهم هواة مقابل ما تقدمه لنا التجربة التاريخية حول نفس الممارسة وتوظيف الدين سواء في التاريخ الأوروبي والغربي القديم والحديث، وكما تمثل أيضا خلال القرن الماضي في التجربة اليهودية الصهيونية التي بررت التطهير العرقي الذي شنته ضد الفلسطينيين بمسوغات دينية وتوراتية.

Exit mobile version