المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

تأجيل الأيدولوجيا واستعجال الدولة

بقلم: د.أحمد جميل عزم

كانت إحدى الأفكار المؤسسة للحركة (أو الفكرة) الوطنية الفلسطينية المعاصرة، التي انبثقت مع ظهور حركة “فتح” في الخمسينيات، تأجيل الخلافات حول النظام الاجتماعي والسياسي، لحين قيام الكيان الفلسطيني المستقل والمحرر. ومن هنا قال المؤسسون، إنّ الخلاف حول تبني الماركسية أو الإسلام وغيرها سابق لأوانه، لأنّه لا يوجد مجتمع مستقل يتبنى نظام حياة. وهكذا تصبح الأولوية للقاء كل البنادق والسواعد، في اتجاه واحد هو انهاء الاحتلال.

وترافقت بساطة هذه الفكرة مع الحماسة لامتشاق السلاح، وتفعيل الشبان والشابات، في المخيمات وقواعد التدريب والإعداد، وخلايا العمل السري، سبباً في الإقبال الهائل على الحركة، من جماهير ملت شعارات الإخوان المسلمين، والقوميين العرب، والبعثيين، والاشتراكيين، والناصريين، أي، الحركات الأممية العربية التي تبناها فلسطينيون، التي زجت بهم في خلافات عربية – عربية، دون جدوى في الشأن الفلسطيني.

طبعاً دون أن يعني هذا استغناء أو تخلي الفتحاويين عن الالتزام الأممي بالمنظور بعيد المدى. وبالتالي تم تبني فكرة تأجيل الأيدولوجيا واستعجال الثورة والمواجهة مع المشروع الصهيوني. ولم تشترط “فتح” أن تكون رؤيتها هي الوحيدة بل دخلت في منظمة التحرير الفلسطينية في علاقة تحالفية مع مختلف الفصائل بأجنداتها السياسية والأيدولوجية المختلفة.

لم تكن مظاهر التحول نحو الوطنية مقتصرة على بروز “فتح”، فتحول القوميون العرب، إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، (ومشتقاتها اللاحقة)، وأسس حزب البعث تنظيمات “الصاعقة”، و”جبهة التحرير العربية”، حيث حدث تحول عام في الحركات الشعبية الفلسطينية، من الأممية إلى الوطنية، بعد اليأس من الحلول العربية لقضيتهم. وانتقل كثير من القوميين والماركسيين والإسلاميين والبعثيين إلى حركة “فتح”، وصاروا جزءا منها.

لم تستطع “فتح” استكمال المشروع الوطني، خصوصاً من الناحية الفكرية، وذلك لسببين أساسيين؛ أولهما تسلل الأيدولوجيا داخلها، وثانيهما نشوء الكيانية الدولاتية السابقة لأوانها وغير المتوازنة.

استطاع المُؤدلجون في “فتح”، خصوصاً الماركسيين منهم في النصف الأول من السبعينيات، (بغض النظر أنّه لم يكن لديهم العمق الأيدولوجي الكافي وكانت يساريتهم فضفاضة شعاراتية)، بأن يجروا الحركة نحو العودة للتفكير بالإيدولوجيا والنظم المجتمعية، فبرزت تيارات متعارضة فكريا داخل الحركة، وساعد على ذلك أنهم كانوا في مجتمعات ودول قائمة، (الأردن ولبنان) وأرادوا الانخراط وجذب قوى شعبية في هذه الدول، بطرح قضايا اجتماعية. حدث ذات التحول لدى الجبهة الشعبية، التي انشقت عنها الجبهة الديمقراطية رافعة شعارات اليسار، ثم تحولت الشعبية للفكر اليساري بشكل كبير.

ورغم ذلك كان هناك يساريون في “فتح” استطاعوا تقديم طروحات وطنية مميزة، تمزج بين أفكار مشتقة من الثورات الشيوعية واليسارية والفكرة الوطنية، ومن أشهر هؤلاء منير شفيق، الذي قدّم مزجاً بين الفكر الماوي الصيني، والفكرة الوطنية، خصوصاً في كتابه “التناقض والممارسة في الثورة الفلسطينية”. وفي النصف الثاني من السبعينيات ومطلع الثمانينيات، قاد يساريون انشقاقات عن حركة “فتح”. وتحول جزء من اليساريين إلى الفكر الإسلامي، وترك بعضهم الحركة، وقد ارتبطت الانشقاقات جزئيا، بالمشكلة الثانية التي واجهت الفكرة الوطنية، هي “الدولاتية” بأمراضها.

بعد أن قادت “فتح” منظمة التحرير الفلسطينية، تطورت في جزء كبير منها لجهاز بيروقراطي، ومثلما التحق مؤدلجون أمميون بفتح رغم وطنيتها لأنها توفر منفذاً للجماهير، التحق أشخاص باحثون عن القيادة، والوجاهة، والمكاتب والميزانيات، بالمنظمة، ومؤسسات شبه الدولة فيها. ودخلت أمراض الترهل والفساد فيها، فإذا كانت فتح طرحت تأجيل الأيدولوجيا لحين قيام المجتمع المستقل. فإنّ الحاجة لممثل شرعي للفلسطينيين منهم، أدى لتسويق فكرة منظمة التحرير، ككيان قائم بذاته، شبه دولة، دون تطوير توازن بين متطلبات وأمراض الكيانية المؤسسية للدول والثورة الشعبية ومتطلباتها.

تعمقت الأزمة بعد قيام السلطة الفلسطينية، فقد تراجعت كل فكرة “حركة التحرر” لصالح فكرة “الكيانية الدولاتية” تحت الاحتلال، ولم يجرِ تطوير أي نظرية أو فكرة تزاوج الفكرتين، وبالنتيجة تغيرت وظيفة البندقية من مواجهة الاحتلال لجهاز أمني داخلي تحت الاحتلال، على اعتبار أن بناء مؤسسات الدولة مقدمة لاستقلالها. وكما سار اليساريون خلف فتح في الفكرة الوطنية والبيروقراطية، يسير الإسلاميون، وتحديداً “حماس” خلف “فتح” في فكرة السلطة والدولاتية، والآن فإنّ أهم سؤال يواجه الفلسطينيين تقريبا هو كيف تتجاور “الدولاتية” مع التحرر.

Exit mobile version