المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

الفلسطينيون والثقافة في لبنان: مختبر مدهش للعيش الحر والإبداع

بقلم: صقر أبو فخر

ارتسمت صورة الفلسطيني في عيون اللبنانيين، خصوصاً إبان الحرب الأهلية (1975- 1990)، على هيئات شتى؛ فهو، لدى البعض، اللاجئ الذي تقتضي الأخوّة مد يد العون له. وهو، لدى البعض الآخر، المسؤول عن لجوئه وفقدان وطنه لأنه باع أرضه من اليهود وغادر بلاده، فهو، والحال هذه، لا يستحق أي معونة! وكان الفلسطيني في نظر جماعات طائفية لبنانية مسلماً يُضاف إلى أعداد المسلمين في لبنان، وظل سُنياً في المحيط الشيعي، وغريباً في الاطار اللبناني في جميع الأحوال. ولم يتورع حسين القوتلي، وهو أحد المسؤولين في دار الفتوى في لبنان، عن وصف منظمة التحرير الفلسطينية بأنها جيش السُنّة في لبنان في مقابل الجيش اللبناني الذي كان يوصف بأنه “جيش الموارنة”. أما الصورة التي أهال كثير من اللبنانيين الركام والتراب عليها فهي صورة الفلسطيني المتمدن الذي كان من الرواد الأوائل في ازدهار لبنان وعمرانه.

لم يكن الفدائيون جيش السُنّة على الإطلاق، بل كان لهم مشروعهم للتحرر الوطني. ولم تكن المقاومة الفلسطينية في لبنان مجرد فصائل عسكرية ومراكز تدريب، أو رجالاً مسلحين ومستودعات ذخيرة وكفى، بل كانت حركة تحرر وطني. وأي حركة تحرر تحتاج عقلاً وسياسة وثقافة وفنوناً بصرية وسمعية واجتماعاً بشرياً. وفي البقعة الممتدة بين جسر الكولا غرباً ومحلة قصقص شرقاً (600 متر)، وبين كورنيش المزرعة شمالاً ومحطة الرحاب جنوباً (نحو 1000 متر) أنشأ الفلسطينيون مختبراً فريداً للثقافة والعيش المتمرد والسلوك الطليق المترع بالمشاكسة والصعلكة والأمل معاً. وكانت المقاهي موئلاً للمثقفين العرب الذين وجدوا في “جمهورية الفاكهاني” مكاناً أميناً بعد هروبهم من الاستبداد، وأليفاً بما يحويه من مشارب عربية متنوعة، أو محطة للرحيل نحو الغرب. إنهم فلسطينيون وسوريون وأردنيون وعراقيون ومصريون وتونسيون انتشروا في مقاهي “الشموع” و”الزاوية” و”التوليدو” و”أم نبيل” و”أبو فراس” و”أبو علي” الذي وصفه محجوب عمر بـِ “أبو علي التوسعي” لأنه تحول من دكان صغير إلى مقهى واسع يجمع الكنافة إلى القهوة. وبين هذه المقاهي التي لا يفصل الواحد عن الآخر إلا نحو عشرين متراً فقط اكتظت صنوف من الشعراء والأدباء والفنانين والسياسيين، وتزاحم فيها سعدي يوسف وحيدر حيدر وميشال النمري وسامي الجندي وسليم بركات وأمجد ناصر وجليل حيدر وشريف الربيعي وزوجته تحرير السماوي ونزيه أبو نضال ومحمد علي اليوسفي وعدنان الشريف ومصطفى الحلاج وعدنان مدانات والصافي سعيد ومصطفى أبو علي وعواد ناصر ومؤيد الراوي وزوجته فخرية وصادق الصائغ وزهير الجزائري ووليد جمعة ومنير الشعراني (عماد حليم) وعز الدين المناصرة وخالد الياسري وجميل حتمل وسلوى بكر وهاشم شفيق وغسان زقطان ورشاد أبو شاور ومحمد دامو وعبد الله صخي وعادل محمود ومخلص خليل ونوري الجراح وسيد خميس، وفيصل دراج، ومحسن الخياط وحلمي سالم وسعادة سوداح ووليد خازندار وغالب هلسا وعلي اسحق وهادي دانيال ورسمي أبو علي وعلي فودة ومهند عبد الحميد وقاسم حول وعدلي فخري وعمر سعادة وفخري كريم، وكثيرون جداً غيرهم ممن اشتهروا لاحقاً أو ممن تناثروا كحبيبات الطلع في شعاب العالم. هذا عدا عن وجود أسماء أخرى كانت أكثر لمعاناً وحضوراً ولكنها لم تتخذ من المقاهي أمكنة جلوس ولقاء مثل: محمود درويش، معين بسيسو.
وفي تلك البقعة عاش أبو روزا وولف الذي أُغرم بالممثلة باربرا سترايسند، وآدم حاتم الذي تشرد بين بيروت ودمشق ومات جراء التعب والخمر، وغيلان الذي تغيرت أحواله بعدما كان يستولي في كل يوم على نقود أصدقائه ليغسل، كما كان يردد، وجهه بزجاجة بيرة، وسمير أنيس الذي مات بحادث سير في دمشق، وحيدر صالح الذي قال عنه عواد ناصر إنه كان يسارياً بلا حزب وشاعراً بلا أي ديوان، وكذلك انفصاميون من عيار هاني الزعبي ومحمد الكبة، وشهداء أمثال طلال رحمة من سورية، وعادل وصفي من العراق وعلي فودة وحنا ميخائيل وحنا مقبل من فلسطين، وميشال النمري من الأردن، علاوة على السينمائي الشهيد سمير درويش والشهيد هاني جوهرية وغيرهم. وفي هذه المساحة أصدر علي فودة ورفاقه مجلة “رصيف 1981”.

دوريّات لا تُحصى

بين سنة 1968، وهي بدايات العمل الفدائي في لبنان، وسنة 1980، أي خلال اثني عشر عاماً فقط، أصدر الفلسطينيون في لبنان ثلاثاً وعشرين مجلة بالعربية والفرنسية والإنكليزية عدا عشرات النشرات الأخرى ذات الطابع السياسي أو النقابي. فصدرت مجلة “الهدف” في سنة 1969 لتكون ناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وتولى غسان كنفاني رئاسة تحريرها، وكذلك مجلة “الحرية” التي ظلت تصدرها منظمة العمل الشيوعي والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين حتى سنة 1981 لتنفرد بها الجبهة الديمقراطية منذ ذلك التاريخ. وعلى هذا الغرار صدرت “الثائر العربي” (1969) و “إلى الأمام” (1970) و “الطلائع” (1971) و “شؤون فلسطينية” (1971) و “فلسطين الثورة” (1972) و “نضال الشعب” (1974) و “قضايا عربية” (1974) و”الصمود” (1975) و”فلسطين المحتلة” (1975) و”القاعدة” (1978) و”صامد الاقتصادي” (1979) و”القدس” (1979) و”جبل الزيتون” (1978) و”الكاتب الفلسطيني” (1978) و”الأفق” (1980) و”الجيل” (1980) و”الكرمل” (1981) و”بلسم” (1982)، فضلاً عن Forward و Journal of Palestine Studies و Revue d’ etudes palestiniennes. علاوة على هذه المجلات الأسبوعية والشهرية والفصلية صدرت “نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية” في سنة 1971، ونشرة “رصد إذاعة إسرائيل” في سنة 1972. وفي الخلاصة الإجمالية بلغ عدد الدوريات الفلسطينية التي صدرت في لبنان بين 1948 و 2014 مئة وأربعاً وسبعين دورية منها 142 دورية بالعربية و 32 دورية بغير العربية (أنظر: أحمد طالب، الدوريات الفلسطينية الصادرة في لبنان: دراسة بيبليوغرافية، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2014). وهذه المنشورات، فضلاً عن المؤسسات ومراكز البحث العلمي، درّبت مئات الكوادر اللبنانية والعربية، وأتاحت لهم اكتساب الخبرة، وشغّلت المطابع اللبنانية، ونثرت أرباحاً هائلة على تجار الورق والأحبار والأفلام وشركات التوزيع.

بين 1968 و 1975 أنجز الفلسطينيون في لبنان 25 فيلماً سينمائياً، وعمل مع مؤسسة السينما الفلسطينية كثير من العرب أمثال رفيق حجار وكريستيان غازي وجان شمعون وفؤاد زنتوت ونبيهة لطفي وبرهان علوية من لبنان، وقاسم حول وقيس الزبيدي من العراق وأمين البني من سورية… وغيرهم بالطبع. وهكذا راح العمل الفدائي ينخرط بالتدريج في السياق اليومي للحياة الثقافية اللبنانية؛ ففي 18/4/1969 منعت السلطات اللبنانية عرض مسرحية “مجدلون” (روجيه عساف ونضال الأشقر) لأنها تعرضت بالنقد لتخاذل السلطة العسكرية اللبنانية آنذاك أمام الاعتداءات الإسرائيلية، خصوصاً الغارة الإسرائيلية على مطار بيروت التي دمر فيها الكوماندوس الإسرائيلي 13 طائرة في 28/12/1968. وعند هذا الحد عمد الممثلون إلى عرض تلك المسرحية في شارع الحمراء أمام مقهى الهورس شو. وتلك المسرحية رأت في العمل الفدائي جزءاً من حركة التجديد والتغيير في العالم العربي.

التاريخ والمحو

امتلك الفلسطينيون في لبنان أربع دور مهمة للنشر هي “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” التي أسسها عبد الوهاب الكيالي، و”دار القدس” التي أسسها مازن البندك، و”دار الفتى العربي” التي أسسها نبيل شعث وآخرون و”دار العودة” التي أسسها أحمد سعيد محمدية. وأنشأ الفلسطينيون أيضاً ثلاثة مراكز للبحث العلمي هي “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” (وليد الخالدي وبرهان الدجاني وقسطنطين زريق ونجلاء أبو عزالدين)، و”مركز الأبحاث” (فايز صايغ ثم أنيس صايغ)، و”مركز التخطيط” (يوسف صايغ). والمعروف أن قسطنطين زريق سوري من دمشق، بينما فايز صايغ ويوسف صايغ وأنيس صايغ ثلاثة أشقاء من بلدة خَرَبا التابعة لمحافظة السويداء في سورية، غادر والدهم القس عبد الله صايغ دياره إلى طبرية في فلسطين سنة 1925، وفي سنة 1948 لجأ مع أبنائه (ومنهم الشاعر توفيق صايغ) إلى لبنان. وبهذا المعنى فهم سوريون وفلسطينيون ولبنانيون في وقت واحد. وكان للفلسطينيين وكالتان للأنباء: وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) و”القدس برس”، علاوة على “الإذاعة الفلسطينية”، كما كانت لهم الأيادي الطوال في تأسيس مجلات ودور نشر رديفة مثل “دار الكلمة” (حسين الحلاق)، و”دار ابن خلدون” (محمد كشلي)، ومجلة “الفهرست” (ميشال نوفل)، دار ابن رشد (سليمان صبح). وهذه المؤسسات كلها جعلت الفلسطينيين جزءاً من الازدهار الثقافي اللبناني، وشوطاً مؤسساً في مسيرة العمران والنهضة في لبنان، مع أن صورة الفدائيين طغت على إنجازاتهم في التربية والتعليم والبحث العلمي والصحافة والموسيقى والأعمال جراء هزيمة حزيران/ يونيو 1967، ثم وقوعهم عند خطوط الاشتباك بين الطوائف اللبنانية المتقاتلة.

الخروج من بيروت

في سنة 1982 أطفأ الاحتلال الإسرائيلي النور في بيروت، فغادر الفلسطينيون والعرب مدينتهم الأثيرة التي تحولت إلى مجال لا توثّبَ فيه ولا إبداع أو مغامرة، وغرق في حروب الميليشيات المذهبية المحلية، فغار فيه كل أمر جميل. وحين أمكن إعادة ذلك النور في تسعينيات القرن المنصرم عاد حقاً، لكنه ظل شحيحاً. واستمر هذا النور ينوص حتى ماتت الصحف (السفير مثلاً) واندثر المسرح وتبدد المسرح الغنائي، وصارت المدينة مجرد تجمع سكاني يتزاحم الناس فيه على لقمة العيش والسكن وصراعات الأحياء التي تختفي فيها البيوت الجميلة ومظاهر التنعم، وتعج بالمطاعم وحاويات النفايات ولوازم الحياة اليومية، وبقليل من الفن والثقافة والصحافة، وهي من متممات الحال، وكثير من الصخب والادعاء.

Exit mobile version