المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

العروبة غير القابلة للاختزال..

بقلم: د. مصطفى الفقي

يبدو أن أقرب تعريف للعربي هو أنه كل من كانت لغته الأولى هي العربية، وبمنطق هذا التعريف لا يبدو البحث في الأصول والسلالات والأعراق أمراً مطلوباً، فنحن نعتبر المعيار الثقافي المتصل بعامل اللغة هو الفيصل عند تحديد الهوية والتعرف الى مقومات الجماعة القومية عموماً، فلا الأديان ولا الأعراق ولا الألوان تدخل في إطار ذلك التعريف الجامع المانع ولكنها فقط رؤية تتصل باللغة العربية التي تمثل الإطار الشامل لمفهوم العروبة الثقافية التي تحوي الجميع من دون تفرقة أو استثناء، ولقد لاحظنا في العقود الأخيرة تجمعات إقليمية عربية بين دول أكثر تجانساً بحيث تشكل وحدة إقليمية في إطار العروبة الشاملة، بدءاً من مشروع «الهلال الخصيب» في أربعينات وخمسينات القرن الماضي مروراً بالتجربة الناصرية التي انطلقت من مصر كبديل عروبي لـ «وحدة وادي النيل» التي كانت شعاراً للمصريين والسودانيين، ومروراً بالاتحاد المغاربي ثم وصولاً إلى مجلس التعاون الخليجي الذي يبدو أكثر تماسكاً وتجانساً من غيره بسبب التقارب الجغرافي والتماثل التاريخي والمكون البشري الواحد، ولكن الملاحظ في السنوات الأخيرة أن العروبة الإقليمية ـ إذا جاز التعبير ـ بدأت تمثل تجمعات فرعية يسبق الولاء لها كل ما عداها، ولعلي أطرح هنا عدداً من المحاور المتصلة بهذا الموضوع وأوجزها في ما يلي:

أولاً: إن الصراع بين القطرية والقومية ظاهرة عربية، فالكل يتحدث بشعارات قومية ولكنه يتصرف بأجندة قطرية. وبالمناسبة، فإنه ليس لدينا اعتراض على تركيز كل دولة على مصالحها العليا ولكن بما لا يؤدي إلى ازدواج الهوية، وما أكثر الزعماء العرب الذين قالوا: لن يرتفع علم فوق أعلام بلادنا إلا علم الوحدة العربية، وعلى رغم ذلك ظل الصدام قائماً بين مفهوم القطرية وشعارات القومية واستغرقت النخب العربية في جدل دائمٍ وحوار مستمر حول الأولوية التي يطرحها ذلك الصراع، ولا تقف المسألة عند مجرد وجود أجندات قطرية فحسب ولكنها تتجاوز ذلك إلى فتح الأبواب للتدخلات الأجنبية والضغوط الخارجية، وعندئذ ندخل في مرحلة ضبابية تختلط فيها الأمور وتطغى التوجهات القطرية على الروح القومية.

ثانياً: دعنا نعترف بشفافية بأن تفاوت الثروة بين الدول العربية أدى إلى خلق حساسيات متبادلة ومخاوف مشروعة. وبدلاً من أن نعترف بأن الثروة هي ثروة عربية في النهاية ينعم بها الجميع ولو في شكل غير مباشر، فإننا نندفع إلى إبراز الخلافات وإظهار الصراعات على نحو غير مسبوق في التاريخ العربي كله، بل زدنا على ذلك نوعاً من الغيرة المكتومة التي لا مبرر لها، خصوصاً أن غالبية دول الثروة فتحت أبوابها لاستقدام العمالة العربية التي شاركت في البناء ونشر العمران ودعم التعليم من منطلق عربي أسهمت فيه الثقافة الواحدة واللغة المشتركة إسهاماً أساسياً.

ثالثاً: لقد برزت مشكلة لا نجد غضاضة في مواجهتها وأعني بها وجود دول مركزية تستأثر بالقيادة والريادة، بينما تشعر دول الأطراف بقدر من التهميش الناجم عن التفاوت في عدد السكان أحياناً وفي نسب التفوق الاجتماعي أحياناً أخرى، فالمجتمع المدني في كل دولة هو الذي يعطي مساحة الحركة أمام معطيات العصر بدءاً من حقوق المرأة إلى حماية الأقليات وصولاً إلى رعاية الديموقراطية في إطار شامل من الاحترام المفترض لحقوق الإنسان عموماً، ومثلما نشكو من اختزال العروبة في بعض التجمعات الإقليمية فإننا نشكو وبالقدر نفسه من استحواذ البعض الآخر على مشهد الصدارة لأسباب تاريخية أو جغرافية ولكنها ليست أبداً نتاجاً لروح قومية مشتركة، ولعلّي أضيف هنا أن قيمة الدولة لا تقاس فقط بحجم سكانها أو إمكاناتها العسكرية ولكن الواقع الاقتصادي يلعب دوراً مهماً في ذلك، إذ إن قوة الدولة تقاس غالباً بالدخل القومي السنوي بالإضافة إلى عدالة توزيعه على سكانها.

رابعاً: لا أريد أن أشارك في الحملة الظالمة التي تستهدف جامعة الدول العربية ـ مؤسسة ودوراً وأميناً ـ فنحن نستسهل الهجوم لوضع خطايانا على مشجب حتى تستريح أعصابنا وتهدأ مخاوفنا، على رغم أننا ندرك أن ذلك ليس تحميلاً عادلاً ولا تفكيراً سليماً، إذ إن جامعة الدول العربية هي محصلة مجموعة إرادات دول المنطقة، كما أننا ندرك جيداً أن هناك محنة شاملة تعاني منها كل المنظمات الإقليمية والدولية، ويكفي أن نتذكر ما تمر به المنظمة العالمية الأولى وهي الأمم المتحدة لكي ندرك عن يقين أن جامعة الدول العربية ليست استثناءً، وأي انتقاد يتم توجيهه لها هو انتقاد لمجمل الأوضاع العربية بغير استثناء، إذ إن دعم الجامعة وتقوية دورها يقتضيان تحركاً عربياً مشتركاً وفقاً لإرادة قوية تدفع الجامعة إلى الأمام، ويجب أن نكون صرحاء لكي نقول إن مجلس التعاون الخليجي بإنجازاته ونجاحاته في العقود الثلاثة الأخيرة أصبح خصماً تلقائياً من تألق الجامعة وإمكان تحقيق سيطرة شاملة، بل إن مجلس التعاون الخليجي سحب السجادة من تحت جامعة الدول العربية وأضحى اختزالاً لمفهوم العروبة كما لو كانت هي في الخليج وحده. ونعود مرة ثانية، فنؤكد أن دول الخليج تسهم في عمل جامعة الدول العربية إسهاماً مستمراً وتسعى سعياً حثيثاً للتعامل معها بفاعلية ولا تتوقف عن دعمها ولا تجد تعارضاً بين عضويتها في الجامعة وعضويتها في مجلس التعاون الخليجي.

خامساً: لقد ابتليت الأمة العربية في السنوات الأخيرة بداءٍ جلبه الوجود الأميركي معه عند غزو العراق فكرس العقل الغربي التفرقة بين الشيعة والسنّة بينما التفرقة الحقيقية هي بين العرب والفرس، ولذلك فإن مفهوم العروبة لا بد أن يسود في مواجهة الطائفية رفضاً لها واعتراضاً عليها وشعوراً بأنها داء وافد ينخر في جسد الأمة. لقد أصبحنا نتحدث عن عرب وأكراد وعن مسلمين ومسيحيين وعن سنّة وشيعة، فضلاً عن طوائف دينية أخرى دفعت ضريبة باهظة في السنوات الأخيرة خصوصاً في العراق وسورية وغيرها من الدول التي زارها الربيع العربي الذي لم يكن ربيعاً ينشر الزهور ويقدم الورود ولكنه كان بداية سلسلة طويلة من الاضطرابات والقلاقل التي لم تتوقف حتى اليوم وهي التي فتحت الباب على مصراعيه أمام موجات عاتية من الإرهاب الذي يطل على المنطقة من كل اتجاه.

إن الطائفية البغيضة هي نقيض للوحدة القومية وإخلال مباشر بمبدأ المواطنة وتكريس فعلي لكل أسباب الفرقة والانقسام في الفضاء العربي الكبير.

سادساً: إن التدخلات الأجنبية والأجندات الخارجية أدت إلى غزو كاسح للعقل العربي ومضت في طريق لا يعمل في مصلحة الأمة ولا يدرك أبعاد المصالح القومية ولكنه يحقق مصالحه على حساب الأمن القومي العربي ويمتص موارد المنطقة وخيراتها، والغريب في الأمر أن التدخلات الأجنبية تأخذ مظاهر وأشكالاً تختلف من بلد عربي إلى بلد عربي آخر وتسعى للإطاحة بالتيار الوطني وتقوم بمعاداة كل من يقف في طريق أطماعها المعلنة والمستترة، ودعنا نعترف هنا بأن المشاعر القطرية هي التي تسهم في ذلك وتساعد عليه، فالأجندات المحلية هي التي تفتح الباب للتدخلات الأجنبية والضغوط الخارجية، كما أن هذه القوى الأجنبية تسعى إلى اختزال مفهوم العروبة بتقوية النعرات ودعم مظاهر الفرقة وأسباب الخلاف.

سابعاً: دعنا لا ننكر أن الصراع العربي – الإسرائيلي والوجود الإيراني أيضاً قد مارسا دوراً مؤثراً في سياسات المنطقة ودرجة استقرارها، وعلى رغم أننا نفرق بين الأمرين، فإننا نرى أن الوجود غير العربي في المنطقة أمر يحتاج إلى رصد وملاحظة بل وإلى ترقب دائم ومتابعة لا تهدأ، ويكفي أن أقول هنا أن خصوم العروبة لا يقلقهم المشروع الإسلامي ولكن يؤرقهم المشروع القومي، لذلك هم حريصون على اختزال العروبة في مناطق يحاصرونها ويحاولون الاستفراد بها بينما المدلول القومي بمعناه الواسع يؤدي بالضرورة إلى اليقظة والحرص على مواجهة الصراعات العربية في مواجهة قوى غير عربية وهي متغيرة بطبيعتها ومتزايدة بفعل الزمن.

إني أقصد من هذا الذي استطردت فيه تأكيد حقيقة مؤداها أن العروبة غير قابلة للاختزال، وأنها كانت ولا تزال وسوف تظل لا تستثني أحداً ولا تستبعد إقليماً عن سواه، لأنها تدرك أن خسائر الأمة وهزائمها ارتبطت تاريخياً بأسباب الفرقة وعوامل الانقسام. إن العروبة ليست رداءً نلبسه حين نريد ونخلعه حين نشاء … إنها قدر ومصير!

عن «الحياة»

Exit mobile version