المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

عشر سنوات مهدورة

بقلم: صقر أبو فخر

في سبعينات القرن العشرين نحتَ المفكر السوري ياسين الحافظ، وهو أحد المتطوعين في حرب 1948، مصطلح “الفوات التاريخي”. ولعل هذا المصطلح الذي يشير إلى الزمن المهدور، ينطبق أكثر ما ينطبق على السياسات الفلسطينية لحركة حماس؛ ففي 17/9/2017 اتخذت حماس قرار حل اللجنة الإدارية لقطاع غزة. أما كان من الأجدى الإقدام على هذه الخطوة منذ سنة 2011 على أقل تقدير؟ والوثيقة السياسية التي أعلنتها في 1/5/2017 أعادتنا، بمفرداتها وعباراتها، إلى الميثاق الوطني الفلسطيني لعام 1969، أي 48 عاماً إلى الوراء. ومنذ سنة 2007، أي غداة الانقلاب المسلح في غزة، جرى توقيع أربعة اتفاقات أساسية للمصالحة بين حركة فتح وحماس (اتفاق مكة في 28/2/2007، واتفاق القاهرة الأول في نيسان 2011، واتفاق الدوحة في شباط 2012، واتفاق القاهرة الثاني في 23/4/2014)، وكانت جميع الاتفاقات تسقط دائماً لأن أحد طرفي المصالحة لم يكن يرغب فيها البتة.
طالبت حركة فتح منذ بداية الحوار مع حماس بإعادة الوضع في قطاع غزة إلى ما كانت الحال عليه قبل تمرد 14/6/2007، على أن تُسلم المقار الأمنية والمعابر إلى طرف عربي ثالث (وهذا تسهيل ما بعده تسهيل)، وأن يعقب ذلك إعادة تكوين الأجهزة الأمنية على أسس مهنية، فرفضت حماس لأنها أصرت آنذاك على الاحتفاظ بالمقار الأمنية والمعابر. وعادت حركة فتح في سنة 2009 لتقديم اقتراح ينص على تأليف حكومة توافق وطني، أو حتى حكومة تكنوقراط، تكون مهمتها الوحيدة إعادة إعمار قطاع غزة بعد الحرب التي شنتها اسرائيل على القطاع في أواخر العام 2008، وإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية معاً، على أن يُنقل الملف السياسي من أيدي السلطة الفلسطينية إلى منظمة التحرير، فرفضت حماس. وبناء على هذا الاستعصاء اقترحت مصر تأليف هيئة عليا من فتح وحماس وباقي المنظمات، على أن تكون تلك الهيئة في منزلة “الحكومة الموقتة” التي عليها إجراء الانتخابات في موعد أقصاه نهاية حزيران 2010، فرفضت حماس. ولم يطل الأمر كثيراً حتى راحت حماس تتشدد أكثر فأكثر في قصة المصالحة الوطنية ومستقبل قطاع غزة سياسياً وأمنياً، بل إنها ظهرت بعد وصول محمد مرسي إلى رئاسة الجمهورية في مصر في انتخابات 24/6/2012 كأنها جزء من حركة الأخوان المسلمين وليست حركة وطنية فلسطينية ذات أيديولوجيا إخوانية. وفي هذا السياق لم يتورع اسماعيل هنية عن الاعلان في 20/7/2012 أن “صفحات الخلافة الراشدة قد فُتحت”. وللغرابة، فإن نظام محمد مرسي كان الوحيد الذي تجرأ على عقد اتفاق مكشوف مع اسرائيل يضمن أمن “حدودها” مع قطاع غزة، ويلتزم مكافحة تهريب السلاح إليه. ورسالة مرسي إلى شمعون بيريز لم يجرؤ حتى أنور السادات أو حسني مبارك على استخدام عبارات التفخيم والمودة الواردة فيها.

المراجعة بعد الفشل
كان سقوط حكم محمد مرسي في 3/7/2013 بعد أن عزله الفريق عبد الفتاح السيسي بداية التفكير في المراجعة السياسية لحركة حماس. وهذا الحدث الحاسم جعل حماس تعيد النظر، بالتدريج، في أوضاعها العامة. وفي هذا الميدان صدرت الوثيقة السياسية لحماس بلغة جديدة تخالف اللغة الأيديولوجية التقليدية، وجرت الانتخابات الداخلية فصارت قيادة الحركة، مقيمة في غزة (اسماعيل هنية ويحيى السنوار) بدلاً من وجودها في قطر، ووصلنا أخيراً إلى حل اللجنة الإدارية لقطاع غزة. إن هذه التحولات تبرهن أن حماس فشلت في إدارة شؤون قطاع غزة، وعجزت عن تطوير مشروع المقاومة الذي تقلص إلى خطب وبيانات في المناسبات، ولم تتمكن من تقديم طراز محبب من الحكم والإدارة. ومنذ سنة 2005، أي بعد الانسحاب الاسرائيلي من القطاع، باتت حماس وجميع الفصائل المسلحة قوة ردع، وما عادت قوى مقاومة، لأن المقاومة مشروع يومي، عسكري وأمني وتعبوي، فيما الحال هذه تغيرت بعد الانسحاب الاسرائيلي. ولا ريب أن جميع المنظمات تتحول فوراً من الردع إلى المقاومة عندما يتعرض القطاع لأي عدوان. ولكن، بين العدوان والآخر، فإن المقاومة كجهد يومي ضد الجيش الإسرائيلي، ما عادت قائمة، خصوصاً أن “التهدئة العسكرية” كانت العنوان الدائم لحركة حماس، ولأن التماس المباشر مع الجيش الاسرائيلي ما عاد موجوداً إلا عند التخوم.
مشكلة العقل السياسي المشيخي أن المنظمات ذات الأيديولوجيات الاسلامية العتيقة، لا تصوغ سياساتها على قاعدة الاحتمالات والخطط البديلة، بل على قاعدة الولاء والطاعة لقادتها وشيوخها. أما حماس، فبعد سقوط حكم الاخوان المسلمين في مصر، وبعد تحول المملكة السعودية ودولة الامارات بقوة ضد الاخوان المسلمين، وبعد انحسار الشأن القطري في دعم هذه الجماعة، وبعد تهتك حال حركة النهضة في تونس (وهي حركة منقحة من الأخوان)، وبعد تفكك المعارضة الاسلامية السورية وصمود النظام السوري، بل بعد تحوله إلى لاعب أساس ومقتدر، وبعد انكماش الدور التركي في بلاد الشام، ها هي حماس تراجع سياساتها بطريقة انعطافية، وهو أمر حسن بالتأكيد.

البراغماتية الحذرة
إن قرار حل اللجنة الإدارية الحمساوية لقطاع غزة جاء، كما هو واضح تماماً، في سياق التفاهم الحمساوي مع مصر، وليس في نطاق المباحثات المتمادية مع حركة فتح. ولا شك في أن هذا القرار، على إيجابيته، يعكس مقداراً عالياً من التنسيق مع مصر أَكان ذلك على المستوى الأمني أو السياسي. وليس من المستغرب البتة هذا الغرام المستجد بين حماس والنظام المصري الذي أسقط مرجعية حماس (أي جماعة الاخوان المسلمين) من السلطة في مصر. فحماس راحت تتحول إلى السياسة البراغماتية منذ زمن غير بعيد، ولعل بعض صور ذلك التحول ظهرت في الوثيقة السياسية، إذ أرادت حماس أن تقول للحكم المصري المعادي للأخوان المسلمين إن حماس قطعت علاقاتها التنظيمية بتلك الجماعة، وإن ما يجمعهما هو الجانب العقائدي فحسب، وبهذا الغرام تكون حماس قدمت أوراقاً مهمة لمصر، وجعلتها، مرة جديدة، لاعباً رئيساً في الشأن الفلسطيني بعدما كادت تركيا وقطر تستوليان على هذا الشأن. وقد كشفت الاجراءات المالية التي اتخذتها الحكومة الفلسطينية برئاسة رامي الحمدالله أن حماس كانت تدير القطاع بأموال الحكومة، ولم تكن قادرة على تأمين التمويل اللازم لسلطتها في القطاع. وما إن بدأت آثار تلك الاجراءات بالتفاعل حتى سارعت حماس إلى الاستنجاد بمصر للخروج من المأزق. غير أن الاستنجاد بمصر له ثمن سياسي وأمني بالبديهة. وبهذه الانعطافات المتتالية تبدو حماس كأنها تقامر بعلاقاتها الوثيقة مع قطر وتركيا وحتى مع إيران، فضلاً عن جماعة الاخوان المسلمين الذين ينظرون إلى نظام عبد الفتاح السيسي على أنه الشيطان الرجيم.
من عقابيل العلاقة المستجدة بين حماس ومصر أن محمد دحلان عاد ليجلس إلى طاولة اللعب بطلب مصري – إماراتي. لنتذكر التفاهم الثلاثي المصري- الاماراتي- الحمساوي الذي وافقت عليه اسرائيل أيضاً، والذي كُشف النقاب عنه في حزيران 2017 ونص على ما يلي: فتح معبر رفح، رفع الحصار عن قطاع غزة (بدأت مصر تزويد القطاع بمادة السولار)، الوعد ببناء محطة لتوليد الكهرباء في مدينة رفح المصرية تمد غزة بالكهرباء وبلغت تكلفتها 150 مليون دولار (تعهدت دولة الامارات بتمويلها)، الوعد ببناء ميناء بحري في غزة، تأليف حكومة لقطاع غزة برئاسة محمد دحلان، يبقى الأمن تحت سيطرة حركة حماس (راجع: تسفي بارئيل، هآرتس، 27/6/2017، وكذلك جريدة “العربي الجديد”، 19/6/2017).
الآن جاءت خطوة حل اللجنة الإدارية لقطاع غزة، وهي خطوة في الاتجاه الصحيح، لتجمّد التفاهم المصري – الاماراتي – الحمساوي. غير أن ذلك التفاهم ربما يصبح الخطة ب في حال فشلت إجراءات إنهاء الانقسام، وهذا الأمر مسؤولية فلسطينية أولاً وأخيراً، مع أن ثمة ألغاماً عدة في الطريق إلى ذلك. وفي جميع الحالات فإن مسؤولية الجميع، ولا سيما حركة فتح وحركة حماس، وفوق ذلك المصلحة الوطنية العليا، تقتضيان تعطيل جميع الألغام بلا تلكؤ. ومن بين تلك الألغام قضايا الأمن والسلاح. فقد ذكرت أوساط في حماس أن الحركة ستسلم جميع المؤسسات للسلطة الفلسطينية عدا الأمن، وستبقى حماس تدير الأمن في قطاع غزة إلى حين تسوية الملف الأمني نهائياً. وذكر أحمد يوسف المستشار السابق لاسماعيل هنية أن معبر رفح ستديره السلطة الفلسطينية بالاشتراك مع حماس وبالتوافق مع مصر (الحياة، 19/9/2017).
هذا هو اللغم الذي يمكن أن ينفجر في المستقبل ويطيح المصالحة، وهو أمر خطير جداً بالتأكيد. وكي لا يتحقق هذا الكابوس لا بد من الإجابة، بشفافية ومسؤولية، عن السؤال التالي: أي سلاح سيحفظ الأمن في غزة، إذا كان سلاح السلطة فما مصير سلاح حماس؟ ما مصير الأجهزة الأمنية التابعة لحماس؟ هل ستؤيد حماس حكومة الوحدة الوطنية (أو حكومة التوافق الوطني) في ما لو ارتأت هذه الحكومة العودة إلى المفاوضات المباشرة مع اسرائيل؟ ومهما تكن الاجابات، فإن سلطة برأسين في قطاع غزة غير ممكنة أبداً، وسلطة برأس واحد خير ألف مرة من العودة الى الانقسام، وأفضل بمئة مرة من تطبيق التفاهم المصري – الاماراتي – الحمساوي الذي يحمل لمصر التزاماً حمساوياً بمكافحة المنظمات الارهابية في سيناء والتي لها مناصرون في قطاع غزة، ويحمل لاسرائيل احتمال انفصال غزة عن الضفة لأمد طويل، ويحمل للإمارات والسعودية، وربما الأردن، إمكان تقليص دور قطر وتركيا، ولا يحمل أي شيء لقضية فلسطين.

خاص مجلة “القدس” العدد 341 ايلول 2017

Exit mobile version