المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

عند حافة جرف الوعول

جميل ضبابات

تخفي حواف البحر الميت الشاهقة بين صخورها ظاهريا صمتا عميقا، لكن نظرة حظ إلى تشققات الجروف السحيقة المطلة على البحر الميت والتي تكونت عبر تقلبات الزمن السحيق قد تظهر حيوانا بقرون مقوسة يصل طولها إلى (122 سم) ووزنها إلى(5 كغم).

إنها الوعول النوبية التي تتوارى وراء صخور بعضها مخروطية التكوين.

كان الأول من كانون ثاني من العام الجاري يوما غير عاديا لهذه السيدة، ويمكن لابتسام سليمان المعلمة الفلسطينية أن تتذكره على امتداد حياتها بكل فخر.

في الليلة السابقة لذلك اليوم، خطرت فكرة طارئة لسليمان التي تسكن في مدينة رام الله مركز الحياة الإدارية والسياسية والاقتصادية في الضفة الغربية، فقد قررت أن تقوم برحلة إلى أطراف الصحراء.

وهناك يمكنها ويمكن لفريقها مشاهدة الغزلان التي تنشط في تلك المنطقة الفارغة تماما من السكان الفلسطينيين، وعبر طرق وعرة لا يمكن تخيل وعورتها في أي مكان آخر من الضفة الغربية، وصلت إلى حواف صخور البحر الميت العالية شرق الضفة الغربية وهي منطقة خارج السيطرة الفلسطينية الإدارية والأمنية.

بدأ اليوم الأول من العام الجديد يأخذ أهمية كبيرة بالنسبة لابتسام التي احترفت في السنوات الماضية تصوير مكونات الطبيعة الفلسطينية في وقت مبكر من ذلك الصباح، وكانت تأمل في تصوير الغزال.

في اللحظة التي كان الفريق يسير “بخطى بطيئة وحذر شديد” كما تصف سليمان، ظهر حيوان الوعل والذي يسمى أيضا البدن أو ماعز الجبل.

والبدن اكبر الحيوانات البرية التي تعيش في فلسطين ويقترب عددها من نحو 90 صنفا.

” هبط قلبي من الفرح. كانت مفاجأة كبيرة لي (…) كنت أمام عدد كبير منها وجها لوجه”، قالت ابتسام.

على امتداد المنطقة التي تتخللها الجروف العالية والتلال المنحدرة بشدة أتيح لعدد قليل من الفلسطينيين (4.88 مليون يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة) مشاهدة الحيوان الأسطورة الذي خلدته قصص الأساطير القديمة.

إلا أن عدد أقل استطاع الاقتراب منه لمسافة عشرات المترات.

كانت سليمان أحد أولئك.

وعدد لا يتعدى أصابع اليد الواحدة استطاع أن يعيش إلى جواره.

منذ أكثر من عقد انتقل فرحان الرشايدة، وهو واحد من أبناء العشيرة البدوية التي سكنت عين جدي والمنطقة لقضاء معظم أيامه بين الجروف الصخرية لإرشاد السياح ومساعدتهم على التنقل في الأرض الوعرة.

وأصبح بذلك واحد من مقيمين قليلين في المنطقة.

وبذلك يقول انه أصبح “جارا للوعول”.

ويظهر أن قبيلة الوعول في المنطقة تمسكت في الحياة هناك مثل جزء من القبائل البدوية التي عاشت حتى عقود قليلة مضت في منطقة قاسية التضاريس، واحدة من تلك العشائر عائلة فرحان الممتدة في المنطقة.

” شاهدتها أول أمس. كانت في هذا الجرف في الصباح”، يقول فرحان رشايدة.

من أعلى يظهر الجرف عميقا جدا، ولا يمكن ملاحظة تفاصيله بدون عدسات مكبرة. وأمكن لفرحان أن يجلس على صخرة وترك ساقيه معلقتان على حافة جرف الوعول.

يتذبذب انحدار الصخور على نحو لا يمكن التنبؤ بخطورته أبدا. واحتمالات النجاة لمن يسقط من هذا العلو تقترب من صفر.

” لكنها تحب الحياة هنا”. قال الرشايدة. يردد المعنى ذاته شاب آخر يدعى محمد يساعد فرحان في نقل السياح إلى هنا عبر سيارات دفع رباعي ذات محركات ضخمة.

ظلت حيوانات البدن على مدى السنوات الماضية تصنع الفرق في هذه المنطقة الفارغة التي تقع فوق عين جدي، النبع الشهير.

والفرق يعني، أنها توجد في المكان الذي لم يستطع حيوان آخر الوصول إليه.

يعتبر الرشايدة نفسه محظوظا فقد واجه الوعل دون تخطيط. “كانت أكثر من أنثى تقود صغارها”. تردد المعنى ذاته سليمان التي أحصت قطيعين قريبين من الوعول.

” كانت 47 وعلا. شاهدت في البداية 17 منها وكان هناك قطيع كبير. أحصينا 30 وعلا اقتربت مني كثيرا”. تقول سليمان.

“الحظ السعيد والصدمة” لازما سليمان على امتداد الشهور العشرة الماضية من هذا العام، التي تقول إنها كانت أكثر إنسان يقترب من هذا الحيوان.

ويمكن لحديث حول البدن وسط رام الله المدينة التي تبتعد عن الصحراء بتكوينها الحديث. ” كان حديثا امتد لأيام مع الأصدقاء والطلاب في المدرسة والأهل”.

” كنت فعلا محظوظة”، قالت.

لكن الحظ العاثر يصاحب الكثيرين الذين يصلون بعد مشقة لمراقبة الحيوان، ولا يحظون حتى بسماع صوته.

تقول جمعية الحياة البرية الفلسطينية التي تتخذ من مدينة بيت ساحور مقرا لها أن هناك 400 وعلا تعيش في حوض البحر الميت.

” في الماضي كان العدد أكبر لكن الصيد والجفاف هددا وجوده” يقول عماد الأطرش الذي يقود فريقا من البيئيين الفلسطينيين لتسجيل مكونات البيئة الفلسطينية.

تمتد الصحراء من جرف الوعول الشهير فوق عين جدي وتظهر تلالها البيضاء الجيرية مثل أمواج البحر. وترتفع الأرض وتنخفض على طول النظر.

لكن أي دليل وجود الحياة أيضا يظهر نادرا للغاية.

فالنبات القليل ذبل وتيبس في الصيف.. لكنه لا يموت. ويعيد الخريف الحياة إلى بعض النباتات الصحراوية التي ظهرت براعمها حديثا.

بالرجوع إلى قاعدة بيانات بيئية فلسطينية معتمدة، فان هناك نحو 1200 صنف من النباتات تنبت هنا.

في المنطقة التي يمكن لسطحها أن يحفل بحجارة ذات ألوان متباينة جدا تشح الأمطار وتشح النباتات رغم عدد أصنافها الكبير.

ويمكن السير لمسافة كيلومترات تتجاوز عدة كيلومترات دون التعثر بشجرة، سوى أشجار الرتم الصحراوية التي نبتت بعدد محدود.

وتبحث الوعول التي اختفت تماما في صبيحة الجمعة الثانية من شهر تشرين أول عن تلك النباتات المتيبسة التي تختزن الأملاح، لكنها تتوارى عن الأنظار خوفا من الصيد.

مساء اليوم السابق ليوم الجمعة، سمع أزيز الرصاص في منطقة من المفترض أن الوعول تتحرك فيها.

وقيل حينها أن الصيادين يلاحقونها.

ورغم دوي الرصاصة العالي، لم يظهر لا الصيادين ولا الوعول في المنحدرات القاسية.

كانت صفحة البحر المالح، وهو واحد من عجائب الدنيا ويشكل فاصلا طبيعيا مع نهر الأردن بين الضفتين الشرقية والغربية تتلألأ تحت أشعة شمس الصباح.

قال الاطرش “في هذا الوقت تخرج الوعول”.

وقال الرشايدة “وفي المساء أيضا”.

ظاهريا لا يزاحم الوعول في هذه المنطقة أي حيوان آخر في منطقة السكن. ولم يشر أحد إلى إمكانية صعود حيوانات أخرى هذه الهاوية العالية والسكن في تشققاتها غير البدن.

لكن هناك من يزاحمه على الأعشاب.

” الغزلان والوبر الصخري تستهلك الأعشاب التي يحتاجها الوعل، وإذا خرج الوعل إلى المنطقة المنبسطة تلاحقه الحيوانات المفترسة” قال الأطرش.

في المناطق الأكثر انبساطا يمكن لحيوانات مفترسه والإنسان مزاحمة الوعل. يقول فرحان ان المرات التي شاهد فيها الوعل يهرب وينام على مقربة منه عندما كانت الذئاب تلاحقه.

وتعيش في المنطقة المنبسطة فوق الجروف حيوانات بعضها مفترس مثل الذئاب والنمور العربية.

ويقول الأطرش، إن هذه الحيوانات تلاحق الوعول حيثما أمكن لها.

لكن الوعول المعروفة بحوافرها العريضة ورشاقتها عادة ما تنزوي في الشقوق بعيدا عن مسببات موتها.

ويمكنها ان تتحرك على حواف صخرية عالية لا يتجاوز عرضها بضعة سنتيمترات.

ويمكن تقسيم هذه المنطقة حسب انحدارها وانبساطها. فالأرض المنحدرة للوعول، والمنبسطة لبقية المخلوقات.

لكن الأطرش يقول حتى لو اختفت الوعول في الشقوق فإن الخطر ليس على الأرض فقط.

فالنسور الذهبية تلاحق صغار الوعول وتلتقطها بمخالبها.

فوق الجرف الكبير أمكن مشاهدة زوج من هذه الطيور الجارحة تحوم فوق الجرف.

وفي الأرض المنبسطة فوق الجرف، الكثير من الغربان والقليل من العصافير الصغيرة تكسر المشهد الجاف.

تعيش الوعول في حوض البحر الميت في قطعان يقودها الذكر، الذي قد يصل وزنه إلى 50 كغم كما تشير جمعيه الحياة البرية الفلسطينية. لكن الأطرش يقول إن الذكور “لا تطيق بعضها البعض، لذلك تخوض صراعا مستمرا في فصل التزاوج”.

في السنوات القليلة الماضية حفلت قطاع الإنتاج العالمي بفيلم وثائقي مثير جدا انتشر عبر شبكات التلفزة العالمية حول وعول البحر الميت اسمه (جدار الموت).

ظهرت قرون الوعول الكبيرة أداة فتاكة للقتال بين الذكور على حواف الجرف. وتوصف الوعول في مأثورات شديدة القرب من العلم بأنها “حيوانات رياضية”.

ظلت الوعول طيلة الزمن الذي أمكن فيه تسجيل حياتها هناك تعيش في هذه المنطقة، وحتى بعد انقرضت من سوريا ولبنان ظلت فلسطين تحفل بذكرها وحياتها بعد أن خلدها الكتاب المقدس.

” هذا الحيوان يحب منطقته. يحب هذه المنحدرات العالية المخيفة جدا. يحب أعشابها ذات الملوحة” قال الأطرش في إشارة إلى الجرف الذي تصل نهايته عند بداية البحر المالح.

هناك قسم من علماء الطبيعة في المسرح الدولي يفترضون أن الوعول انتقلت إلى هنا من أعالي جبال الألب.

يطلق علماء الحياة البرية إقليميا ودوليا سؤالا ساخنا في محيط هذه الفرضية ممتنعين عن الاجابة بشكل مطلق.

لكن هناك سؤالا وسيطا بين فرضية انتقال هذه الحيوانات من ارتفاع 3000 متر فوق سطح البحر إلى نحو 400 م تحت سطح البحر.

كيف حصل ذلك؟

” هذا سؤال كبير” يقول الأطرش الذي وقف على حافة الجرف الذي كان من المفترض أن تظهر الوعول ذكورا وإناثا منه، وبدا ارتفاع الشمس فوق البحر علامة على انهيار الأمل في رؤية أي وعل.

Exit mobile version