المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

الوحدة الوطنية قدرٌ وليس خيارًا

بقلم: محمد سرور

تتقافز شروط الحكومة الصهيونية في مساحة اللاءات المكررة والمعلنة على لسان رئيسها بنيامين نتنياهو ووزرائه وأركان حربه، بالتتالي والتناوب.
لم تبدأ شروط حكومة العدو منذ انتقال العلاقات الفلسطينية- الفلسطينية من وضع الصراع إلى وضع إدارة الأزمة. فنحن أمام شريط مزمن من التصريحات والمواقف والاعلانات التي تفيد بأن لا مستقبل لدولة فلسطينية فوق الأراضي المحتلة عام 1967. ناهيك عن قوافل المستوطنات التي اجتاحت الضفة الغربية والقدس المحتلة، بما لا يضع مجالا للشك حول نوايا العدو الاستعمارية التي تلخص وضع استحالة التعايش بين دولتين متجاورتين تعيشان جنبا إلى جنب بسلام ووئام.
تصريحات وزراء حكومة العدو التي تتحدث عن اللاسلام مع الفلسطينيين الذين تحالفوا مع إيران- خصم إسرائيل الأول، هي نفسها التصريحات التي طالما دأب أولئك الوزراء على توجيهها إلى الرئيس محمود عباس وحكومته وحركة فتح. وللعلم كانت حينها تطلُّ من أفواههم عبارات غزل مبطن لحماس وسلطتها التي كانت تدير قطاع غزة بطريقة نموذجية تراعي تفاهمات غير معلنة مع سلطات الاحتلال.
وهنا لا يمكننا تجاوز محاولات إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية تشتيت مفهوم الدولة الفلسطينية وتوزيع مقومات وجودها بين فيدراليتين مصرية وأردنية. هذه المحاولات كانت تزتكز أساسا على الوضع غير السوي في العلاقة الفلسطينية الداخلية، وتنطلق من محاولات ترويض واحد من طرفي النزاع الداخلي الفلسطيني، وتستثمر في الانقسام المغالاة في التبرير الذي يعمل على تأبيد الانقسام وفرضه أمرا واقعا وفي نفس الوقت رمي الكرة في الملعب الفلسطيني الفاقد لشرعية السلطة الواحدة، والممعن في صراع لا يمكن على أساسه بناء ثقة تنتج تسوية للقضية.
من هنا تكمن استماتة السلطة الوطنية الفلسطينية ومعها حركة فتح والحريصون على تفعيل العمل الوطني من خلال استثمار النضالات والمواقف ومصادر القوة لمصلحة مشروع الدولة والاستقلال. ومن هنا أيضا نرفع القبعة لكل الذين أسهموا في إخراج القضية من لعبة استثمارها الاقليمية والدولية والاستثمار فيها لصالح الشعب الفلسطيني.
وأيا تكن عواطف البعض وأحلامهم التي تبالغ في الأماني والطموحاتِ المحقة، إلا أننا هنا أمام واجب تأدية التحية للسلطات المصرية، التي دأبت على رعاية لمِّ الشمل الفلسطيني ومدّه بأوكسجين الحياة وصولا إلى خاتمته الحالية.
فمصرَ ومن موقعها العروبي المتقدم، كانت وفية لفلسطين وشعبها على الدوام أثبتت أنها الأكثر دأبا وجدّية في متابعة أحوال هذه القضية وضرورة إخراجها من عنق زجاجة العقم والتشظي والصراع الذي تم على حساب الأرض واهلها. كما رأت في إنهاء الانقسام الفلسطيني فائدة متعددة الفوائد، خاصة أنها تضع حدا للعبة “التملص والتبرّؤ” من قبل القوة المهيمنة على القطاع حول علاقة بعض متطرفي القطاع بالمجموعات الارهابية العاملة على التخوم بين غزة وسيناء، وحول الرعاية والملجأ والتسليح والتدريب التي كانت تلقاها من قبل محازبيها هناك.
توحيد المرجعيّة الفلسطينية وفتح المعابر التي تلغي “الحاجة” إلى الأنفاق بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية تخفف الكثير من الأعباء الأمنية التي كانت تتحمّلها قوات الأمن المصرية.
إن ردَّ الفعل الصهيوني على فتح صفحة العلاقات الفلسطينية الداخلية وخروج رئيسها ووزرائه عن أطوارهم، لهو دليل قاطع بأن الوحدة الوطنية حق وواجب وطني، وأن تذليل المشاكل والقضايا العالقة بالحوار والنوايا الطيبة كجزء من النضال الوطني ضد الاحتلال… وأن الفلسطينيين على حق طالما يثيرون ردود الفعل الغاضبة والناقمة على خطواتهم وتوجهاتهم من قبل سلطات الاحتلال.
إن الوحدة الوطنية في الزمن العربي الرديء، تعوّض على قضية فلسطين وشعبها بعض الخسارات، وتعيد تصويب البوصلة إلى حيث بؤرة الصراع الحقيقي. بذات المستوى تزيل الغبش الذي تراكم حول حقيقة ولاء البعض الفلسطيني، وتجيب بشكل واضح على الأسئلة الصعبة والمشروعة حول: فلسطين مشروع وطن، أم محطة لتمرير المشاريع التجارية العابرة والمتجولة في المنطقة. كما أن الوحدة تشير بوضوح إلى تعديل جوهري واستراتيجي في خيارات حماس الفكرية والسياسية. هذه التعديلات تطال أساس علاقتها بتنظيم الاخوان المسلمين الدولي وتجاوز مشكلة انحيازها لحكومة محمد مرسي الذي تعتبره الرئيس الشرعي لمصر، وبانفتاحها القوي على إيران تكون بدأت علاقة توازن مع المحاور القائمة في المنطقة من منطلق الضرورات والحيثيات التفعيلية للموقع الخاص بها.
لكن المشهد الذي نعتبره مخاضا ومسارا دالا على حقيقة ما نقول هو وصول الحركة- حماس- إلى مفترق طرق غامضة أشبه بمتاهةٍ عمياء، لأنها ذهبت في المكابرة إلى أقصى درجاتها، مزاوجة بين التشدد والقمع وكمّ الأفواه والمبالغة في عسكرة القطاع. أضف إلى ذلك النهج التصعيدي الذي خرج عن كل الاطوار في الخطاب السياسي الذي سبق مرحلة التمهيد للوحدة الوطنية.
والأهم الان بعد خوض حماس تجربة السلطة هو تعلم الدرس الذي يوضح الفارق بين حزب يكتب تطلعاته وأمانيه وآخر يرى أنها همٌّ كبير يحتاج إلى سياسات وتجارب وإدارات مخضرمة تجيد معادلة التوازن بين الأولويات وتسخير الامكانات لصالح دورة الحياة الخاصة بالشعب الفلسطيني. فالمأزق الذي يقف أمامه الجميع عاجزين الآن هو العدد الكبير الذي جندته حماس لخدمة مشروعها وسلطة انقلابها. فلو كانت تعي كلفة ومضاعفات هكذا خطوة، هل كانت لتقدم عليها؟
أثق بحركةِ فتح عندما تلتزمُ عهدا، لأنها احترفت التعالي والتسامي من أجل فلسطين، ولأن الخلافات الجانبية في أدبياتها لا يمكن أن تصبح نمطا عشائريا وقبليا لديها. ففي ثقافتها وأولويات خياراتها فلسطين. لذلك تعالت عن الجراح العميقة والمؤلمة كثيرا، لأن فلسطين تستحقُّ أن نتواضع لأجلها وان نقنّن خلافاتنا أو نديرها بطريقة حضارية بالحوار والسجال الذي يبقى في دائرة الضمير الوطني وأخلاقه وآدابه.
علينا في هذه اللحظة المفرحة رغم دقتها أن نتذكر الرئيس الشهيد ياسر عرفات، الذي ارسى معادلة قداسة الدم، من خلال حرمة الاقتتال وحصر الخسائر بتلك التي يدفعها الشعب الفلسطيني في المواجهة مع العدو المغتصب. علينا ان نتذكر مكرَ عدوّنا في الافلات من صراعه الداخلي، حين يعمد إلى افتعال حرب او معركة لكي يجيّش شعبه وقواه السياسية وراء اهداف عدوانه والتخلص من الخصوم والمنافسين. علينا أن نعيد إلى ضمائرنا تلك المساحة الخلاقة من المحبة والتسامح من خلال معرفة انفسنا في معادلة أهداف عدوّنا، إذ كيف لضحية بحجم الشعب الفلسطيني أن تتصارع وتتقاتل وتتقاسم وتتنابذ فيما بينها، فيما العدو أمامنا: في أرضنا وعلى شوارعنا وفي حاراتنا وتلالنا وعلى أسطحنا؟ يجب أن يتعلّم الجميع درس الانقسام، ويكون عبرة للخطباء والمتفشخرين وغير السائلين عن معاني الأخوّة والواقع القاسي والمظلم الذي لم يزل يطبق على الشعب الفلسطيني وامانيه وتطلعاته.
علينا أن نلتزم القيم والشرائع والأعراف الضامنة والكفيلة بمنع تكرار ما حصل عام 2007. مراجعة الضمير الانساني والسياسي ضروريان لتسليط عصا النقد والمراجعة البناءة فيما بيننا وبين أنفسنا، لكي نرمم ما تداعى ونبني ما تهدّم، ونزيّن ونعلي صرحَ بناء الذات على أسس المصلحة العامة التي تخدم الانسان وغد الانسان في وطن المجد والبطولة.
نعم للوحدة الوطنية الفلسطينية… على قاعدة التسليم بأن الوحدة قدر، والانقسام غيمة عبرت سماء النفس الفلسطينية. نعم للوحدة الوطنية كضرورة اجتماعية- إنسانية وطنية، وضرورة للتلاحم في وجه الاحتلال وعدوانه المستهتر.

خاص مجلة “القدس” العدد 342 تشرين اول 2017

Exit mobile version