المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

لا نصر بدون مصر

بقلم: الحاج رفعت شناعة

عضو المجلس الثوري لحركة “فتح”

عندما غادر الرمز ياسر عرفات مدينة طرابلس الفيحاء شمال لبنان، في 19-12-1983، بعد الأحداث المؤسفة آنذاك، والتي أدَّت إلى تصدُّع “م.ت.ف”، من دون أن تفقد توازنها التنظيمي والسياسي، سُئِلَ أبو عمار من قِبَل الإعلاميين: إلى أين أنت ذاهب؟ فأجاب: أنا ذاهب إلى فلسطين… إلى القدس. واستغرب الجميع، واعتقدوا أنَّه يقول شعراً، وغاب عنهم أنَّه رجل الواقعية، وأنَّه الرجل الأسطورة، وأنَّه الرقم الصعب، وصاحب القرار الوطني، والأهم أنَّه صاحب مدرسةٍ لا تؤمن بالهزيمة، ولا تعرف اليأسَ والإحباط، وإنَّما تؤمنُ بأنَّ الشعوب لا تُقهر، فإنْ خسرت معركةً، فهي لم تخسر حرباً، وفي كلِّ معاركها التاريخية ضد الاحتلال الإسرائيلي كانت تخرج أقوى وأصلب، وأشدَّ تماسكاً، لأنَّها تؤمن بدورها التاريخي في مقاتلة إرهاب الاحتلال الصهيوني.

وعندما مرَّت البواخر التي غادرت طرابلس بحماية فرنسية، وبالقرب من مدينة الإسكندرية، انتقل القائد الوطني ياسر عرفات من الباخرة إلى قاربٍ أقلَّهُ إلى مدخل المدينة البحري، ليلتقي هناك الرئيس حسني مبارك، ويجتمع معه ليناقش العلاقات الفلسطينية المصرية، وليؤكد له اعتزازنا بالشعب المصري، وجيشه، وأنه لا بد أن تستعيد مصر دورها العربي، ومكانتها القومية، وأنه لا نصر بدون مصر.

كان هذا الكلام بعد سنوات من المقاطعة العربية لمصر إثْر توقيع السادات على معاهدة “كامب ديفيد”.

هذه الزيارة الخاطفة والمفاجِئة للمصريين، والتي أربكت القيادة الفلسطينية، والكوادر الذين كانوا في البواخر. وقد حصلت ردود فعل سلبية وأخرى إيجابية، فالجسم الحركي لم يكن مهيّأً فكرياً وسياسياً لاستقبال مثل هذه المفاجأة التاريخية.

إنَّ عملية التفاعل التي حصلت حول حقيقة ما جرى رجَّحت كفة ياسر عرفات والمقرَّبين منه، وأيقن الجميع بأن أبا عمار لا يخطو خطوة في الفراغ، وأن ما حصل هو جزء من إستراتيجية جديدة، سرعان ما وجدت لها أنصاراً كُثُراً عرباً وفلسطينيين وهكذا فتح ياسر عرفات الباب واسعاً أمام القيادة المصرية، كي تستعيد وضعها ومكانتها الطبيعية، لأخذ دورها القيادي والمحوري على المستوى القومي العربي، وعلى المستوى الإقليمي، والدولي، وخاصة على مستوى الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. فالقيادة الاسرائيلية اعتبرت أن توقيع مصر على معاهدة “كامب ديفيد” انتصارًا لتل أبيب في تطبيق سياساتها الاحتلالية، وعزل الجانب الفلسطيني، ومقدمة لإحداث تصدعات، وانشقاقات، ومحاور عربية متصارعة، وبالتالي حرمان الأمة العربية والقضية الفلسطينية من العمق المصري الشعبي، ومن الثقل المصري الإقليمي والدولي، وأدرك أبو عمار رحمه الله ببعد نظره، وخبرته السياسية أهمية إعادة مصر إلى أمتها، لتكون المدافع الأصيل بوجه التحديات المصيرية، ولعل ما لفت انتباه الزعيم الوطني ياسر عرفات هي الضربات المتوالية على رأس “م.ت.ف” ابتداء من الاجتياح الإسرائيلي وتداعياته، مروراً بالانشقاق وتشققاته، وصولاً إلى المجازر والمذابح التي طالت مخيماتنا، ولم نجد مَنْ يقف إلى جانبنا. أيقن ياسر عرفات أنه لا نصر بدون مصر، وبعد هذه الزيارة التاريخية المفصلية، عادت مصر إلى سابق عهدها، وعادت الجامعة العربية من تونس إلى القاهرة. وأصبحت القاهرة هي مُلتقى القيادات العربية على اختلافها بمن فيهم قادة الصمود والتصدي. وأصبحت مصر رقماً لا يمكن تجاوزه.

إنَّ الرؤية الإستراتيجية التي عبَّر عنها والتزم بها الشهيد الرمز ياسر عرفات تجاه مصر، هي ذاتها الرؤية الإستراتيجية لدى الرئيس محمود عباس تجاه مصر ودورها، وهذا أمرٌ طبيعي لأنَّ كليهما مؤسسا مدرسة حركة فتح الوطنية صاحبة القرار المستقل. إنَّ العلاقات الفلسطينية المصرية ظلَّت قوية رغم كل التطورات والأحداث، وظلت الثقة متبادلة، والجانب الفلسطيني في عهد الرئيس أبو مازن كان أشدَّ التصاقاً بمصر قيادةً وشعباً، إيماناً منه بدورها المركزي، وارتياحاً إلى مواقفها السياسية مع مختلف الأطراف. ولعل تجربة الانقسام، وخلفياته التدميريّة في الساحة الفلسطينية، وهي التي تغري مختلف الأطراف للتدخل في ساحتنا على حساب قضيتنا من خلال زيادة الشرخ بيننا، وتعميق الانقسام، وإشعال نار الحقد في مجتمعاتنا. هناك أطرافٌ كثيرة لعبت دوراً تآمرياً، وتخريبياً، وتأزيميًّا خاصة الولايات المتحدة والعدو الإسرائيلي، ودول إقليمية أخرى أرادت أن تبني أمجاداً لها على حساب شعبنا، وشهدائنا، ومستقبلنا. أما مصر العروبة فقد ظلت وفيةً لشهامتها، والتزاماتها القومية تجاه معاناة شعبنا.

فهي كانت دائماً حريصة على العلاقات الأخوية، وعلى معالجة أية قضايا خلافية من خلال الحوارات الهادئة والمسؤولة، التي كان يقودها الرئيس السيسي، والرئيس أبو مازن من موقع المسؤولية عن مصير قضية الشعب الفلسطيني الأبرز في هذا العصر.

فعندما حصل الانقسام إثر الانقلاب في 14/6/2007، التزم المصريون أيام حسني مبارك، ثم في عهد عبدالفتاح السيسي، بالتنسيق مع السلطة الوطنية، وأكدوا أن المعابر لن تُفتح رسمياً إلاَّ بوجود حرس الرئاسة، أي الالتزام بقرارات الرئيس محمود عباس، رئيس دولة فلسطين، ورئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ورئيس السلطة الوطنية، علماً أن مصر كانت بأمسِّ الحاجة للتنسيق والتفاهم مع حركة حماس لحماية الحدود المصرية الغزية من الإرهابيين الذين كانوا يتسرَّبون من قطاع غزة إلى العريش، ومناطق أخرى من سيناء لضرب الأمن المصري.

أيضاً فإنه في الوقت الذي كانت فيه بعض العواصم العربية تسعى للاستفادة من الانقسام وسلبياته، لتبني أمجاداً لها على حساب تقرير مصير الشعب الفلسطيني، كانت مصر تفتح أبوابها، وتضع كلَّ إمكانياتها في خدمة القيادة الفلسطينية لإنهاء الانقسام، وانجاز المصالحة، وتوحيد شقي الوطن، وانشغلت قياداتها السياسية، والعسكرية، والأمنية في وضع الترتيبات المطلوبة للتوصل إلى اتفاق شامل يُلزم الجميع بالتقيد به من أجل الوحدة الوطنية الفلسطينية. واستمرَّ هذا التعهد، وهذا الانشغال القيادي المصري من عهد مبارك إلى عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي في عملية قيادة الاجتماعات بين القيادات الفلسطينية حتى تم التوقيع على اتفاق 4/5/2011 الجوهري في القاهرة.

وحالياً كلَّلت مصر جهودها المثمرة، والنابعة من الإخلاص والوفاء لفلسطين برعاية إتمام المصالحة بين حركتي فتح وحماس، بعد أن تعهدت حركة حماس بالموافقة على إنهاء الانقسام، والاستجابة للشروط التي وضعها الرئيس أبو مازن، وهي حل اللجنة الإدارية التي شكلتها حركة حماس مؤخراً، وتمكين حكومة الوفاق الوطني من أخذ دورها في غزة، وتسيلم المعابر، والإعداد للانتخابات الشاملة، وحل مشكلة الموظفين من قبل السلطة، وتراجعها عن الإجراءات التي قررها الرئيس أبو مازن سابقاً.

هذه الخطوة من قبل مصر جاءت في الوقت الذي يُصعِّد فيه الاحتلال الصهيوني من إجراءاته الاستعمارية، وتوسيع الاستيطان، وهدم البيوت، والاعتداء على المقدسات، جاءت خطوة مصر لإنجاز المصالحة تحدياً واضحاً للتخريب الإسرائيلي. اليوم وبعد التئام الشمل، واستعادة الوحدة الوطنية تمهيداً لعقد المجلس الوطني بعد الانتخابات على اختلافها، والتخلُّص من رواسب الماضي، وتعزيز الصفوف. نستطيع حقاً أن ننطلق في كل الميادين في الضفة، والقدس، وغزة، وفي كل فلسطين التاريخية، وفي كل الشتات والقارات، ننطلق يداً بيد، وعلى قلب رجل واحد، ونحمل أمانة الشهداء،وتطلعات شعبنا لنخوض كفاحنا الوطني في إطار إستراتيجية وطنية واحدة تحدد مسارنا. ولتكنْ معركة فضح وثيقة بلفور خلال هذه الأيام القادمة باكورة حراكنا الفلسطيني الشمولي. ولنرفع الصوت عالياً، لنهزَّ أبواب لندن، وعرش الملكة، ومنبر رئيسة الوزراء، وكلً المسؤولين البريطانيين الصهاينة والحاقدين على شعبنا، والذين يريدون الاحتفال بمئوية وعد بلفور على أشلاء مأساة فلسطين، والتنكيل بشعبها، وتشريد الملايين في الداخل والشتات.

إنَّ تنفيذ الوعد المشؤوم الذي قدمه وزير خارجية بريطانيا اللورد بلفور بتأسيس “وطن قومي للشعب اليهودي” في فلسطين، شكَّل الحلقة الأولى من حلقات التآمر على وجود الشعب الفلسطيني، في إطار خطةٍ استعمارية صهيونية، قادتها بريطانيا لخدمة أهدافها الاستعمارية في المنطقة، وهي الدولة العظمي التي كانت تحتل آنذاك 30% من الكرة الارضية وكانت تسعى دائماً لجذب الدول صاحبة التأثير إلى جبهتها في الحرب العالمية الأولى، امتدادًا إلى العالمية الثانية.

من هنا جاء التركيز على الحركة الصهيونية ذات التأثير الاقتصادي، والسياسي، والمالي، والتي تربطها بالولايات المتحدة علاقات حميمة، ولذلك كسبُ الحركةٌ الصهيونية عبر وعد بلفور، هو الطريق إلى استقطاب الولايات المتحدة إلى جبهة الحلفاء ضد تركيا، وألمانيا. وهذا الواقع كان له الأثر الكبير في هزيمة تركيا وألمانيا وفي العام 1918 كانت الحرب قد انتهت ، وتقاسمت بريطانيا وفرنسا النفوذ على الدول العربية التي خُدعت بالوعود البريطانية،ومفادها أن بريطانيا ستمنح الاستقلال للعرب، وترفع عنهم ظلم العثمانيين. إلاَّ أن العرب فوجئوا بأن وثيقة الانتداب البريطاني على فلسطين، ومصر ،والعراق، قد تضمنت رسمياً في 20/6/1922 ما يلي: “تتولى الدولة المنتدِبة مسؤولية إنشاء أحوال سياسية، وإدارية، واقتصادية في البلاد،وتضمن إقامة الوطن القومي للشعب اليهودي…”. وهذا النص يشكل تحدياً فاضحاً. وخروجاً عن الشرعية الدولية،لأن الانتداب يعني الوصاية على دولة معينة لحين امتلاكها القدرة على حكم نفسها بنفسها، وليس تدميرها، وتشريد أهلها، وتقديمها لقمة سائغة للعصابات الصهيونية.

وصمة عار في جبين المجتمع الدولي الصامت على إصرار رئيسة وزراء بريطانيا على الاحتفال بالذكرى المئوية لهذا الوعد الذي هو جريمة سياسية، وقانونية، وأخلاقية، ووجودية، أدت إلى اقتلاع شعبنا من أرضه. والأخطر من ذلك هو أن الولايات المتحدة اليوم هي الحليف الاستراتيجي لهذا الكيان العنصري، وهي الحريصة على أمن ومستقبل إسرائيل، وهي واقعياً تتحمل مسؤولية الحفاظ على إرث وعد بلفور الإجرامي.

فالى متى ستبقى شعوب الارض الفقيرة ونحن منها ،ضحايا المآرب الاستعمارية الصهيونية،التي تقوم على حرمان الشعوب من أرضها، وحريتها، واستقلالها، ثم استبعادها، وارتكاب المجازر بحق البشرية؟ بينما هذه الدول العنصرية تتغنى بالشرعية الدولية، وقيم الحرية والديمقراطية زوراً وبهتاناً؟؟!!

افتتاحية مجلّة “القدس” العدد 342 لشهر تشرين الأول 2017

Exit mobile version