المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

القيصر بوتين في ولايته الرابعة

بقلم: عبير بشير

الاستفتاء الشعبي الذي جرى على قيصرية فلاديميير بوتين منذ يومين،والذي توجه رئيسا لروسيا الاتحادية لولاية رابعة،بعد أن حقق فوزا كاسحا بأكثر من ستة وسبعين بالمائة على منافسيه،ليس شأنا روسيا داخليا،بقدر ما هو شأنا دوليا وإقليميا في غاية الأهمية والمحورية،نظرا لتأثيراته القوية والعميقة على مسرح الشرق الأوسط،وفي ظل صعود الدور الروسي القياسي،وعودة أجواء الحرب الباردة بين الغرب وروسيا.ولم يكن وليد الصدفة اختيار الثامن عشر من مارس الحالي موعداً للانتخابات،ليتزامن مع الذكرى الرابعة لضم شبه جزيرة القرم بعد أن اقتطعتها موسكو من أوكرانيا بالقوة.

لقد حقق بوتين أفضل النتائج الانتخابية خلال مسيرته الرئاسية منذ ثمانية عشر عاما،حيث أكد نيقولاي بولاييف،نائب رئيس اللجنة الانتخابية المركزية،أن أكثر من خمسة وخمسين مليون من المواطنين الروس صوتوا لصالح بوتين في الانتخابات الحالية.وكانت الانتخابات الرئاسية بالنسبة لبوتين أشبه بنزهة،بسبب عدم وجود أي منافسة حقيقية أو شبه حقيقة له في الانتخابات،بعد منع أليكسي نافالني الرجل المناهض للفساد من الترشح،والذي كان يمكن أن يشكل تحديا حقيقيا لبوتين في صناديق الاقتراع،ومن الطرائف ما

كان يقوله أبناء موسكو إن الطريقة الأسرع لحمل السلطات على إزالة الثلوج من شوارع العاصمة هذا العام كانت بتزيين أكوام الثلوج المتراكمة باسم نافالني .

وبسبب ضمان فوزه في الانتخابات،لم يكترث الرئيس الروسي لخوض حملة انتخابية فاعلة،فلم يشارك سوى لدقيقتين في حفلين موسيقيين دعما له،كما رفض الظهور في مناظرات تلفزيونية.

فلاديمير بوتين الرجل الحديث الآتي من عالم قديم ثلجي،مؤمنا بعظمة الإتحاد الروسي،ومتحسرا على انهياره،وهو الذي وصف تفكك الإتحاد السوفيتي بأنه أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين. كان شخصا اجتمعت كل عناصر الهوية الروسية،وكبريائها القومي والوطني الجريح فيه،وفي شخصه تأججت نزعات أطماعها الإمبراطورية وآلام هزائمها .

وعلى الرغم من أن إحياء الفكر الستاليني والصورة السوفياتية على أسس جديدة ،كانت سمة من سمات حكم بوتين منذ البداية، إلا أن هذا التوجه قد تعاظم في السنوات الأخيرة،فبعد شهرين من ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، وقع بوتين على قانون يجرم أي انتقاد للأعمال السوفيتية المنفذة في الحرب العالمية الثانية، والتي تشمل ضمنيا حملة التطهير الأعظم التي نفذها جوزيف ستالين.

وعلى نحو مماثل، وخلال خطابه السنوي للجمعية الفيدرالية الروسية الذي ألقاه قبيل الانتخابات الرئاسية تفاخر بوتين بالصواريخ الانسيابية النووية العابرة للقارات،وكشف النقاب عن غواصة روسية خارقة السرعة والتخفي والتسليح. الصاروخ والغواصة لا يحملان لقب بعد، وطالب بوتين شعبه باقتراح اسمين لهما، في إشراك متعمَّد للشعور الروسي الجمعي في أجواء الحرب المقدسة.

عايش ضابط الاستخبارات فلادميير بوتين،مرحلة سقوط الإتحاد السوفيتى بنظامه وهياكله وشخوصه وأيديولوجيته،وحفرت تلك التجربة المريرة جراحا عميقة في عقله ووجدانه ،وهو يرى عالم اليوتوبيا الشيوعية تتبخر داخل الاتحاد السوفيتى وخارج أسواره أمام الزحف الغربي.ومع الانفجار العظيم للإتحاد السوفياتي، أطل النظام البديل،كان نظاماً هجيناً ومشوها،جمع ورثة النظام السابق من –الأباراتشيك- إلى المافيات،إلى رأس المال الغربي الزاحف عبر الخصخصة لإحتلال روسيا .

فى هذا الانقلاب التاريخي والسياسي والإقتصادي والسيكيولوجي كان صعود الشاب بوتين للسلطة من سان بطرسبورج -لينينغراد- العاصمة القيصرية،التي بناها الفرنسيون والإيطاليون احتفاءً ببطرس الأكبر أعظم قياصرة روسيا وجعلها آية معمارية ونافذة على أوروبا، والمدينة التي تفجرت منها شرارة الثورة البلشفية،لينتقل بعدها إلى موسكو حيث دهاليز السلطة والحكم،بعد أن تم استدعاءه للعمل في الكرملين ليتقرب بعدها إلى بطانة يلتتسين.وفي عام الف وتسعمائة وثمانية وتسعين تم تعيينه على رأس جهاز الامن الفدرالي ،ثم بعد سنة عينه الرئيس يلتسين الذي كان يبحث عن خليفه له،يضمن عدم ملاحقته قضائيا بعد تنحيه،رئيسا للوزراء.

وكان القمع الوحشي لثورة الشيشان وحرق غروزني، هما معمودية الدم للزعامة الجديدة القادمة من أقبية الاستخبارات،والتي بنت صورته بأنه زعيم روسيا الحديدي. وفي عام ألفين قفز بوتين إلى رئاسة روسيا الاتحادية،بعد استقالة يلتسين على خلفية وضعه الصحي.

بدأت روسيا مع بوتين عهدا جديداً بعد أن شهدت سنوات يلتسين العجاف أعتى مظاهر التدهور الأمني والإنهيار الإقتصادي والفوضى السياسية والتخلخل الإجتماعي ، والتآكل الجيوسياسي أمام المد الغربي والأمريكي لجمهوريات الإتحاد السوفياتي السابقة ولدول أوروبا الشرقية.

وخلال أول ولايتين لبوتين ، وفر الأمن والاستقرار بعد فترة خطيرة غير مسبوقة في انهيار الأمن في البلاد،كما أحكم قبضته على البرلمان،وأخضع الحكام الإقليميين لسيادة موسكو وأرغم الإعلام على أن يكون وفياً له بشكل تام، كما أبعد عن السياسة كل الذين جمعوا ثروة في عهد يلتسين، الواحد تلو الآخر، في موازاة ذلك تحسنت الأوضاع الاقتصادية بفضل الرقابة النقدية الصارمة خصوصاً على إيرادات النفط..

بعد فترة ليست بطويلة من رئاسته،أخذ الشك يساور بوتين والدائرة المقربة منه من إمكانية وصول الثورة المخملية التي جرى تجريبها بنجاح في أوكرانيا وجورجيا، إلى عقر دارهم في موسكو.وبدا بوتين يمثل القلب النابض – للسلافوفيليا- والتي تكتنف بين طياتها الشك العميق من القوى الغربية ، واستطاع الروس تحت زعامته تغليب -مبدأ جوسودارستيفنكي- الذي يتأسس على رؤية شعبوية لإقامة دولة وطنية قوية،وذلك على الضد من مبدأ –زابنديكي -الذي يدعو للتقارب مع الغرب على حساب السيادة الوطنية. وحاول بوتين إعادة بلورة -السلافوفيليا القديمة– على معطيات جديدة،لا مكان للأيديولوجية الجامدة فيها، سماها خيار – المبادرة الأوروآسيوية- ويهدف هذا الخيار إلى خلق تكتل جديد من قوى آسيوية وأوروبية قادرة على أن تشكل ثقلاً اقتصادياً وثقافياً وعسكرياً موازياً لما يعتبره بوتين هيمنة غربية وأميركية.وكانت تنطلق من نفس الأرضية الأفق الجديد للسياسة الخارجية الروسية فى الشرق الأوسط والتي تجلت دهائها وبراعتها فى الجمع بين تركيا وإيران رغم تنافر مصالحهما فى سوريا فى مسار واحد تحت قيادة موسكو لتحريك الأفق السياسى للمسألة السورية.
نعم فاز بوتين ،إلا أن الولاية الجديدة تطل برأسها في ظل أزمة غير مسبوقة بين روسيا والدول الغربية،لا سيما على خلفية أزمة تسميم جاسوس روسي سابق كان عميلاً مزدوجاً لمصلحة الاستخبارات البريطانية في جنوب لندن، ومع الحرب الدبلوماسية التي أشهرتها لندن، بطرد كل الدبلوماسيين الروس من بريطانيا ومقاطعة الحكومة والعائلة الملكية لمونديال روسيا، وتجميد الأصول الروسية في بريطانيا، وقبل ذلك على خلفية دعم الكرملين للنظام السوري والأزمة الأوكرانية ، والاتهامات الموجهة إلى روسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية .

Exit mobile version