المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

هل تفتح قمة هلسنكي صفحة جديدة في العلاقات الدولية؟

بقلم: عريب الرنتاوي

التوقعات بشأن قمة هلسنكي بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، تذهب في مختلف الاتجاهات … البعض يعتقدها قمة مؤسِسة لنظام عالمي جديد، والبعض الآخر يعتقد أنها مجرد لحظة انفراج في العلاقات المتوترة بين القطبين … وبين المقاربتين المتطرفتين، ثمة مروحة واسعة من التقديرات والتوقعات.

على أن معظم المعالجات والتحليلات التي تناولت القمة المنتظرة، تكاد تلتقي عند نقطة واحدة، مفادها أن سوريا، قبل غيرها، وأكثر من غيرها من دول الأزمات وساحاتها المفتوحة، ستكون نقطة الاختبار الأولى، وربما الأهم، للتقارب بين الدولتين… بل أنه يجوز النظر إليها بوصفها “الباروميتر” الأساس، الذي يمكن الاستناد إليه، عند قياس درجة حرارة العلاقات الثنائية بين القطبين.

واشنطن من جهتها لا تريد من سوريا وفيها، زيادة على ما تريده إسرائيل، وما تريده إسرائيل هنا على وجه التحديد، هو اقتلاع أنياب إيران ومخالبها، وما التشديد الإسرائيلي المتكرر على ضرورة إخراج إيران وحلفائها من سوريا، سوى التعبير عن أهم المصالح الأمريكية – الإسرائيلية في هذه البقعة من العالم … وكلا الدولتين تسعيان في عرض معادلة جديدة على “سيد الكرملين”، مؤدّاها: أن الحليفتين الاستراتيجيين، مستعدتان للإقرار بنفوذ روسيا في سوريا والاعتراف بمصالحها ودورها القيادي هناك، بما في ذلك، التوقف عن تهديد نظام الأسد والامتناع عن دعم مناوئيه ومعارضيه، شريطة أن تتعهد روسيا بالعمل جنباً إلى جنب معهما، لتقليم أظافر إيران وحزب الله ومن حالفهما من فصائل ومليشيات شيعية.

في زيارته الأخيرة (الثامنة) لموسكو، نقل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو هذا العرض إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين… وهو قال علناً، وأمام الصحفيين، بأن إسرائيل لا تمانع في بقاء الأسد على رأس السلطة في سوريا، بل وتعهد بعدم تهديد نظامه، تاركاً الباب مفتوحاً لاحتمالات التعاون معه مستقبلاً إن اقتضت الضرورة، وإن التزمت موسكو نظير ذلك، العمل لإخراج إيران وحلفائها من هناك… لكن بوتين، الذي قطع أشواطاً على طريق الإمساك بزمام السيطرة والقرار في سوريا وعليها، وجد من دون شك، صعوبة في قبول العرض الإسرائيلي والاستجابة لمراميه، وفي ظني أن مرد ذلك يعود لسببين اثنين:

الأول؛ أن بوتين الذي يطربه الاستماع لعرض كهذا، يريد أن يحصل عليه من قبل شخص آخر، غير نتنياهو، يريد أن يتلقاه من دونالد ترامب تحديداً، فرئيس الحكومة الإسرائيلية، لا يمتلك “الكلمة الفصل” في مسألة مصير الأسد، بعد كل ما تدفق في أنهار سوريا من مياه طوال سنوات ثمانً … والثاني؛ أن ترامب، وليس نتنياهو، هو وحده الذي بمقدوره أن يعرض على بوتين، “المقابل” المطلوب لاستحداث الاستدارة في الموقف الروسي حيال إيران، فالزعيم الروسي لا شك يبحث عمّا هو أكبر وأهم من “رأس الأسد”، لاستكمال صفقة من هذا النوع، إنه يريد رفعاً شاملاً، أو ذي مغزى، للعقوبات المفروضة على بلاده، وهو يريد إقراراً أمريكياً بالأمر الواقع في جزيرة القرم، وهو يريد شراكة مع واشنطن والغرب، في العديد من الملفات الإقليمية والدولية.

نتنياهو لا يمتلك البضاعة التي يبحث عنها بوتين، وحده ترامب يتوفر عليها، وفي جيب الرئيس الأمريكي مفاتيح العقوبات المثقلة لكاهل الاتحاد الروسي، وبين يديه القرار بشأن راهن ومستقبل العلاقات بين موسكو وعواصم الغرب عموماً.

ليس لدى الإدارة الأمريكية مصالح عميقة في سوريا، كتلك التي يعمل “القيصر” على صيانتها وتعظيمها … ولهذا السبب بالذات، لم تمانع إدارة باراك أوباماً من قبل، باعتماد سياسة “القيادة من الخلف”، ولن تمانع إدارة دونالد ترامب من بعد، في إقرار الانسحاب منها وإن بعد حين … لكن واشنطن تريد أن تجعل من “ترك سوريا لروسيا”، ورقة مساومة كبرى، تقايض عليها من أجل استهداف إيران، وضمان وقوف روسيا إلى جانبها في معركة تحجيم النفوذ الإقليمي لطهران، ومن باب أضعف الإيمان، تريد واشنطن “تحييد” موسكو في حربها المشتعلة ضد “نظام الملالي” … لكن السؤال: هل يمتلك بوتين، ترف التنقل في تحالفاته بخفة وحرية، فيكون اليوم، صديقاً لطهران، بل وحليفاً لها، ويتحول عشية اليوم التالي، إلى مشروع “خصم سياسي” لإيران، مقامراً بتحمل أعباء هذه “الخصومة” في شتى المجالات الأمنية والدفاعية والاقتصادية والسياسية.

هل يمكن لموسكو وحدها، أن تحفظ استقرار الوضع في سوريا في ظل التقارير المتواترة عن ضعف الجيش السوري وتآكل قدراته البشرية والمادية، أم أنها ستظل بحاجة لوجود ميداني إيراني على الجبهات والساحات الواسعة التي نجح النظام في بسط سيطرته عليها خلال الأعوام الثلاثة التي أعقبت التدخل العسكري الروسي في سوريا؟ … وما الذي سيمنع عودة الوضع إلى الانهيار من جديد، بعد كل الإنجازات التي حققها بوتين في سوريا، وبدور نشط من “الحليف الإيراني”.

ثم، ماذا عن شبكة العلاقات المتشابكة التي تربط موسكو بطهران في الشرق الأوسط وآسيا الوسطي وأفغانستان، فضلاً عن التبادلات التجارية والاقتصادية، وصفقات التسلح والتي من المتوقع أن تزداد حجماً وتأثيراً، في ظل نظام العقوبات التي تفرضه واشنطن بالتدريج على إيران.

يصعب على المراقب لتطور العلاقات الروسية – الإيرانية، أن يتنبأ بإمكانية إقدام بوتين على “مجاراة” ترامب في مساعيه لخنق إيران اقتصادياً وتجارياً وسياسياً، والهبوط بصادراتها النفطية إلى مستوى “الصفر”، لكن المراقب لن يستبعد أن تبدي موسكو استعداداً للاشتراك مع الولايات المتحدة، في البحث عن صفقات وتسويات لبعض النزاعات الإقليمية، وبصورة لا تبقي إيران لاعباً رئيساً فيها، وإن كانت ستحفظ لها دوراً كلاعبٍ من ضمن لاعبين آخرين.

وثمة “قراءة” روسية لا يجري الحديث عنها في الإعلام، مفادها أن ترامب وإدارته، ليسا جادين تماماً في إغلاق بوابات الحلول التفاوضية مع إيران، على الرغم من “اللهجة” شديدة العدائية التي تميز الخطاب الأمريكي حيال الجمهورية الإسلامية … وتراهن موسكو على قدرة ديبلوماسيتها على “تدوير الزوايا الحادة” في مواقف كل من واشنطن وطهران، الأولى بالاعتماد على مواقف أوروبية ودولية لا تدعم مواقف ترامب وإدارته من إيران، خصوصاً بعد انسحاب واشنطن من “الاتفاق النووي” … والثانية، بالمراهنة على حاجة إيران للاندماج في الأسواق والنظام المالي والتجاري العالمي لمعاجلة مشكلاتها الاقتصادية المتفاقمة، والتي أفضت إلى اندلاع سلسلة من الانتفاضات المتنقلة بين المدن والحواضر الإيرانية.

قمة هلسنكي المنتظرة، وتداعياتها، لن توفر حلولاً سحرية للأزمات المفتوحة، ولن تغلق كافة ملفات الخلافات بين الدولتين الكبريين، بيد أنها محمّلة بالفرص، لطي صفحة التراشق السياسي والإعلامي و”حرب العقوبات والاتهامات”، وقد تؤسس لعلاقة عمل بين الزعمين، تنعكس انفراجاً على العديد من هذه الأزمات، بدءا بسوريا كما يُبدو مرجحاً.

Exit mobile version