المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

نظرية “ولاية الفقيه”.. الروافد الغربية والجذور الفلسفية

كتب: الباحث محمد خيري*

منذ قيام نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبعد سقوط نظام الملكية وحكم الشاه محمد رضا بهلوي، أصبحت إيران مثار جدل كبير في الأوساط السياسية العالمية، ولذلك فقد اتجهت أنظار الباحثين والمتابعين للوجود الإيراني في منطقة الشرق الأوسط إلى البحث عن أسس ودعائم ذلك النظام الذي يسعى إلى السيطرة على المنطقة، استنادًا على نظريات دينية أقام عليها فكره الثيوقراطي، بعد ثورة عام 1979، تلك التي أزاحت نظامًا علمانيًا وأحلت محله نظامًا دينيًا قائمًا على مبدأ “ولاية الفقيه”، وهو المبدأ والنظرية التي ستكون موضوع الدراسة، التي ستكشف في النهاية عما إذا كانت تلك النظرية من الشريعة الإسلامية في شيء أم هي دخيلة على الدين؟ فضلًا عن محاولة البحث عن الروافد الغربية والجذور الفلسفية لتلك النظرية.

وبعد أن تم تحديد إشكالية تلك الدراسة وجب التنويه لأهمية هذا الموضوع الذي شكل بعدًا عقائديًا وسياسيًا للنظام الحالي في إيران، والذي شكل عقيدة لبعض مواطني إيران أولئك الذين يعيشون في تلك الدولة على مساحة جغرافية تزيد عن المليون وستمائة كيلو متر مربع جغرافيًا، ومع ذلك فإن تلك العقيدة “ولاية الفقيه” لم تحدها الحدود الجغرافية لإيران فحسب، بل جعلت النظام يسعى للسيطرة على الإقليم تحت دعوات دينية وفقا لتلك النظرية.


وفي الوقت الذي دأب فيه النظام الإيراني على مهاجمة “الغرب”، إلا أنه على الرغم من ذلك يعتمد في منبع نظرية ولاية الفقيه، التي تعد سندًا ومستندًا وأحد دعائم وأركان حكمه، على نظرية شملت روافد غربية فلسفية، وأصبحت نظرية “هجين” من عدة روافد، ليست من إيران ولا من صحيح الإسلام أو شريعته السمحة في شيء، فضمت تلك النظرية روافد فلسفية نابعة من فلاسفة اليونان الأقدمين، ممزوجة ببعض الروافد الغربية الأخرى، ما يدلل على التناقض الواضح في الأحاديث، والفساد الواضح في الدعائم والأركان.

وفي هذا المضمار سنحاول معالجة عدة إشكاليات والإجابة عن عدة تساؤلات شغلت بال كثير من المتتبعين لحركة النظام الإيراني الإقليمية، حول مدى صحة نظرية ولاية الفقيه، وما إذا كانت مستمدة من الشريعة الإسلامية من عدمه؟ بالإضافة إلى الإجابة عن السؤال الأهم: لماذا ابتكر النظام الإيراني تلك النظرية؟ وأخيرا البحث عن الروافد الغربية والفلسفية لنظرية ولاية الفقيه، وإلى أي مدى اعتمد النظام الإيراني على الفلسفة اليونانية القديمة والمسيحية الوسيطة في تأسيس نظريته الدينية؟ وهل يمكن أن يتخلى النظام الإيراني عن تلك النظرية العقائدية؟

كل تلك التساؤلات ستكون موضع بحث تلك الدراسة معتمدين في الإجابة عنها على عدد من المناهج البحثية التي من خلالها سيتم توضيح منابع النظرية، ومدى تناقض النظام الإيراني في تأسيسه لتلك النظرية في ظل هجومه الدائم على الدول الغربية، ولذلك فسيكون المنهج التاريخي أحد تلك المناهج التي سنحاول من خلاله العودة إلى جذور تلك النظرية الوافدة على الدين الإسلامي وعلى السياسة الدولية بشكل عام، فضلًا عن استخدام المنهج الاستقرائي التحليلي في تحليل عناصر تلك الفكرة وعلى أي نوع من الدعائم السياسية قامت، بالإضافة إلى استخدام المنهج النقدي في توجيه بعض أوجه النقد إلى تلك الفكرة التي لا توجد لها أية روافد عربية أو إسلامية من الأساس.

ملخص تنفيذي:

المستوى الأول: الجذور الفلسفية للنظرية

انطلقت فكرة البحث حول الجذور الفلسفية لنظرية ولاية الفقيه من اعتراف أحد أركان النظام الإيراني، وأحد دعائم ثورته الدينية التي انطلقت عام 1979، وهو الرئيس الإيراني الأسبق أبو الحسن بني صدر، أول رئيس لإيران بعد الثورة، والذي سئل عن طبيعة وماهية تلك النظرية فأقر بأنها نظرية هجين من نظريات الفلاسفة اليونانيين أمثال أفلاطون الذي تحدث عن المدينة الفاضلة وعن حكم الفلاسفة والمفكرين، وكذلك مستقاه من نظرية أرسطو عن حكم المشرعين. وأكد بني صدر في حديث تليفزيوني أن الخميني وقتها خان الثورة وخان مبادئها.[1]


على المستوى النظري شملت نظرية ولاية الفقيه بعض مما جاء في نظرية المدينة الفاضلة عند الفيلسوف اليوناني أفلاطون (427 – 347 ق.م) والذي رسخ لبناء مدينة فاضلة يحكمها الفلاسفة والمفكرون، ووضع نظامًا لكل وظيفة في تلك المدينة.

يذكر الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه “الجمهورية” أن “الفلاسفة الحقيقيون هم حكام الدولة المثلى، وهكذا تم التطرق إلى استئناف البحث وتهذيب الحكام وهناك أيضًا عدة امتحانات يجوزونها قبلما يتمتعون بحقوق الحكم، والآن نقول إنه علاوة على تلك الامتحانات يلزم امتحانهم في دروس جمة، فيروقون تدريجيًا من الأدنى إلى الأعلى لاستكشاف صفاتهم العقلية والأدبية”.[2]

يذهب أفلاطون إلى البحث في تراكيب المجتمع الداخلية، فيشبهها بقوى النفس الإنسانية التي قسمها إلى ثلاثة أقسام “العاقلة” و”الغضبية” و”الشهوانية”، وعلى تلك الأسس قسم أفلاطون وظائف الدولة إلى الإدارة والدفاع والإنتاج، بنفس ترتيب قوى النفس، وهذه الوظائف متباينة، فلا يمكن أن تتركب المدينة من أفراد متساوين متشابهين، وإنما يجب أن تتركب من طبقات متفاوتة، لكل منها وظيفة وكفاية خاصة لهذه الوظيفة[3]، وقد يكتشف المتابعون للشأن الإيراني الداخلي حالة الفصل الشديد والسمو الكبير للطوائف الفارسية وما لها من امتيازات كبرى في المجتمع الإيراني على حساب بعض الأعراق الأخرى كالسنة والبلوش والتركمان والعرب والأكراد، وغيرها من الأعراق أو الجماعات الدينية الأخرى، التي لا تتوافق مع طبيعة المكون الشيعي للدولة الإيرانية.

وبالعودة إلى النظرية الأفلاطونية، فقد عرض أفلاطون مذهبه في طريقة تكوين الحاكم الفيلسوف العالم ببواطن الأمور، والذي يحاول جاهدًا إقامة بعض من النظام الإلهي على الأرض، فيقيم نظامًا تدريجيًا لبناء هؤلاء الفلاسفة الحكام، بحيث يبدأون من تحصيل الدرس، مرورًا بالمشاركة في المجهود الحربي والتدريب العسكري، حتى ينتهي المطاف بأحدهم إلى أن يصبح من القلة الفلسفية الحاكمة في المجتمع أو بمعنى أصح في مدينته الفاضلة.

يقول أفلاطون: “يجب على الذين يتولون بناء المجتمع المنشود أن يميزوا من بين الأحداث أصحاب الاستعداد الحربي، فيفصلونهم ويجعلونهم طائفة مستقلة، ويتعهدون بالتربية عليهم وأن يرتبوا لهم رياضة بدنية تنشئهم أصحاء أقوياء”.[4] ويذهب أيضًا ليكمل طريقة بناء الفلاسفة الحكام، قائلًا: “عند الثامنة عشر ينقطع الحراس عن الدرس ويعكفون على دراسة الحساب والفلك والهندسة والموسيقى وهي العلوم التي تستغني عن التجربة وتستخدم البرهان العقلي”.[5]

ويكمل أفلاطون في موضع آخر قائلًا: “وإذا ما بلغ الحراس الثلاثين يميز من بينهم أهل الكفاية الفلسفية رجالًا ونساءً الذين تتوافر فيهم محبة الحق، وشرف النفس وضعف الشهوة، وسهولة الحفظ، فيعيشون فلاسفة متوفرين على تأمل المعقولات الصرفة، والخير المطلق، ويتناوبون الحكم، يزاولونه كل بدوره (وهذه هي الموناركية أي: حكم الفرد العادل) أو جماعة الجماعة، وهذه هي الأرستقراطية أي حكم الطائفة العادلة”.[6]

ووقتها سيدرك الشعب يومًا أن الفلاسفة أصلح الناس لإقامة شيء من النظام الإلهي على هذه الأرض أو لعله يولد للملوك أبناء ذوو استعداد للفلسفة.[7]


في مسألة تطبيق النظام الإلهي على الأرض اتخذ النظام الإيراني تلك الروافد وأدرجها في دستوره حيث يقول دستور إيران في بند الجيش العقائدي: “يتركز الاهتمام، في بناء القوات المسلحة للبلاد وتجهيزها، على جعل الإيمان والعقيدة أساساً وقاعدة ولا تلتزم هذه القوات المسلحة بمسؤولية الحماية وحراسة الحدود فحسب، بل تحمل أيضاً أعباء رسالتها الإلهية، وهي الجهاد في سبيل الله، والنضال لبسط حاكمية القانون الإلهي في العالم”.[8]

ولم يقف الأمر عند أفلاطون، بل تحدث في ما يشبه تلك النظرية أيضًا الفيلسوف اليوناني أرسطو (384 – 322 ق.م )، والملقب بالمعلم الأول والذي كرس هو الآخر لمبدأ التمييز بين المواطنين حين أكد على أن “بعض الناس يولدون سادة بالطبع والبعض الآخر رقيق، والرق في حق هؤلاء نافع بمقدار ما هو عادل، وحينها خص المجتمع الإغريقي بأنهم سادة لا يجوز استرقاقهم، أما كسب الثروة فخصه بطريقتين الأولى: هي الطريقة الطبيعية حين يحصل المرء من الطبيعة على الثروة المطلوبة لأغراض الحياة، والثانية: هي “الحرب”، تلك التي اعتبرها كذلك وسيلة طبيعية للكسب، فضلًا عن طريق المقايضة بالتجارة”.[9]

ولعل بعض ما قاله أرسطو قد ورثه النظام الإيراني في مسائل الحكم، حين اعتبر وسائل كسب الرزق ثلاثة، وهي:

الأولى: عوامل الطبيعة.

الثانية: مصادر الدخل الخاصة بالدولة.

الثالثة: الحرب، وهو المبدأ الذي كرس له الدستور الإيراني ووضع له عنوانًا فضفاضًا يشبه عنوان نظريته الخاصة بولاية الفقيه، وهو بند في الدستور يسمى “حماية المستضعفين” يقول: “وبالنظر إلى محتوى الثورة الإسلامية في إيران، التي كانت حركة تهدف إلى نصرة جميع المستضعفين على المستكبرين، فإن الدستور يعدّ الظروف لاستمراريّة هذه الثورة داخل البلاد وخارجها، خصوصاً بالنسبة لتوسيع العلاقات الدولية مع سائر الحركات الإسلاميّة والشعبيّة حيث يسعى إلى بناء الأمة الواحدة في العالم”.[10]

اتساقًا مع ما جاء في فلسفة أفلاطون بوجود قلة من البشر هم من يستطيعون أن يتولوا شؤون العامة فقد ذكر أرسطو أن حياة الحكمة والتأمل الفكري هي حياة العقلاء الراشدين الذين هذبت سجاياهم وشذبت بالتعليم والثقافة، وأن هؤلاء هم الفضلاء الذين تسعى الدولة للأخذ بأيديهم لتصل إلى دنيا الكمال العقلي الحقيقي، وهؤلاء هم البشر الذين يستحقون فعلا أن يسموا بالبشر، وأما من سواههم فإما رجرجة غوغاء، وإما أبطال مزيفون، وكلا الصنفين لا يصلح للعمل السياسي، لا في صفة الحكام ولا في صفة المواطنين”.[11]

إلى جانب النظريات السياسية التي استقت منها الحكومة الإيرانية الجديدة مبادئ نظريتها في “ولاية الفقيه” كما جاء في فلسفة أفلاطون وأرسطو، إلا أن هناك موردًا آخر، هو المورد الأهم على الإطلاق من وجهة نظرنا، والذي يقوم على نظرية المدينة الفاضلة كما صورها الفيلسوف المسلم الإمام أبو نصر محمد الفارابي والذي دوّن جُل وجهة نظره في تأسيس أركان المدينة الفاضلة في كتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها” والذي وضع فيه خلاصة رأيه في تأسيس المدينة الفاضلة، بوجوب وجود رئيسين لتلك المدينة ولكل منهما خصالًا خاصة.

يقول الفارابي في كتاب “آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها” أن “خصال الرئيس الأول لتلك المدينة الفاضلة تتمثل في أنه الرئيس الذي لا يرأسه إنسان آخر أصلا، وهو الإمام، أو هو الرئيس الأول للمدينة الفاضلة، وهو رئيس الأمة الفاضلة، ورئيس المعمورة من الأرض كلِّها، ولا يمكن أن تصير هذه الحال إلا لمن اجتمعت فيه بالطبع اثنتا عشرة خصلة قد فُطر عليها وهي:

  1. أن يكون تام الأعضاء.
  2. أن يكون بالطبع جيد الفهم والتصور لكل ما يقال له، فيلقاه بفهمه على ما يقصده القائل.
  3. أن يكون جيد الحفظ لما يفهمه ويراه.
  4. أن يكون جيد الفطنة، ذكيًا.
  5. أن يكون حسن العبارة.
  6. أن يكون محبًا للتعليم والاستفادة.
  7. أن يكون غير شره على المأكول والمشروب والمنكوح.
  8. أن يكون محبًا للصدق وأهله.
  9. أن يكون كبير النفس.
  10. أن يكون الدرهم والدينار هينة عنده.
  11. أن يكون محبًا للعدل وأهله.
  12. أن يكون قوي العزيمة.[12]

ويذهب الفارابي إلى أن وجود كل تلك الخصال في شخص واحد أمر عسير، لأنه لا يوجد من فطر على هذه الفطرة، ولذلك فهو يرى أنه لو اتفق على أنه لا يوجد مثله في وقت من الأوقات أخذت الشرائع والسنن التي شرعها هذا الرئيس، وإن لم يوجد فيكون هناك رئيس ثان يخلف الأول ولابد أن يكون الرئيس الثاني له ست مقومات أخرى، وهي:

  1. أن يكون حكيمًا.
  2. أن يكون عالمًا حافظًا للشرائع والسنن.
  3. أن يكون له جودة استنباط فيما لا يحفظ عن السلف فيه شريعة.
  4. أن يكون له جودة رؤية وقوة استنباط لما سبيله أن يعرف في وقت من الأوقات.
  5. أن يكون له جودة إرشاد بالقول في شرائع الأولين.
  6. أن يكون له جودة ثبات ببدنه في مباشرة أعمال الحرب.[13]

وينتهي الفارابي إلى القول بأنه إذا لم يوجد إنسان واحد اجتمعت فيه هذه الشرائط الستة ولكن وجد اثنان، أحدهما حكيم والثاني فيه من الشرائط الباقية، كانا هما رئيسين في هذه المدينة.[14].

ولعل ما ذهب إليه الفارابي يشرح سبب وجود مرشد أعلى (رئيس أول) ورئيس جمهورية (رئيس ثان) في الدولة الإيرانية بعد عام 1979.

المستوى الثاني: روافد الفلسفة المسيحية الوسيطة

لم يقف النظام الإيراني في تدشين رؤيته الخاصة بنظرية “ولاية الفقيه” ــ وهي النظرية التي يتفرد بها حول العالم ــ عند حدود الفلسفة اليونانية، بل وجد ضالته فيما ورد من أفكار حول مسائل الحكم في العصور الوسطى المسيحية، فأخذ ما جاء في فلسفة القديس توما الإكويني والقديس أوغسطين حول نظرية الحكم المطلق للسلطة الدينية، وطوعها بما يتوافق مع رؤيته في السيطرة على عقول ومقاليد الأمور في إيران.

وكما سلف الذكر مبادئ العقيدة العسكرية للحكم في إيران وطبيعة تكوين الجيش/ الحرس الثوري العقائدية التي تقوم على “النضال لبسط حاكمية القانون الإلهي في العالم”، وذلك طبقًا لما جاء في الدستور الإيراني، فإنه يجب التوضيح أنه “من الأفكار التي سبق أن جاءت بها الفلسفة المسيحية في العصور الوسيطة هي الاعتقاد بوجود قانون أعلى من القانون الوضعي أطلق عليه أيضًا اسم القانون الإلهي، كما أن فلاسفة العصور الوسطى اعتقدوا أن العالم كله يخضع لقانون واحد كما يخضع لحكومة واحدة… ويلاحظ هنا أن المسيحية قامت بصبغ الفلسفة السياسية القديمة بنزعة تجعلها ملائمة للعقيدة الجديدة، ومن ضرورة الدولة لإقامة العدل”.[15]


استنادًا على ما سبق نقل عن الفلسفة المسيحية في ذلك الوقت أنها تؤمن بالحق الإلهي في الحكم، وهذه الفكر تنص على أن الله هو الذي فرض الحكام على الشعوب، فأصبح من واجبها أن تطيع الحكام، فمنذ أن دخلت المسيحية أوروبا ظهرت مشكلة طوال العصور الوسطى، وهي: انقسام الولاء، فقد تحتم على المسيحي أن يدين بالولاء لسلطتين، فإنه إلى جانب طاعته لله يجب أن يطيع القيصر، ومعنى ذلك قيام سلطة دينية تمثلها الكنيسة، وسلطة زمنية يمثلها الإمبراطور، وكل منهما تفرض الطاعة العمياء والولاء التام.[16]

يصف الفيلسوف الإيطالي الشهير نيكولا ميكافيللي تلك الدول والحكومات القائمة على أسس ثيوقراطية أو دينية، بأنها حكومات قوية، حيث يؤكد أنه انطلاقًا من تلك الأفكار التي تتطلب الطاعة العمياء فإن الحاكم يستمد قوته من تلك الطاعة العمياء القائمة على مبدأ ديني، فهي حكومات لأنها تخضع لتقاليد وأعراف دينية عريقة وراسخة، هي من القوة بحيث تبقي على سلطان أمرائها، ورغم ذلك فإن ممالكهم رغم عدم وجود وسائل للدفاع عنها فإنها لا تضيع منهم، وكذلك نجد رعاياهم رغم شعورهم بأنهم لا يحكمون فإنهم لا يكرهون ذلك.[17]

وانطلاقًا من وصف كتاب “الأمير” لميكافيللي للحكومات الكنسية بتلك الصفات، فقد اتخذ النظام الإيراني مسألة فرض القانون الإلهي كأحد دعائم نظريته الدينية وركائزها، وتم تطويعها بشكل يتناسب مع ما جاء في عقيدة الإمام المخلص الذي يقوم حكمه على تطبيق نظرية الحكم الإلهي على الأرض، وهو الحاكم الذي سيخلص البشرية من الظلم والجور الذي يملأها، وتم بلورة جزء من نظريتهم في ولاية الفقيه على وجود الإمام المخلص الذي سيأتي في نهاية الزمان لتخليص البشر من الظلم الواقع عليهم، وهي في الأساس عقيدة مسيحية قامت على مبدأ “الخلاص” الذي سيأتي به “المسيح” في نهاية الزمان.

ودلالة ذلك في إيران ما ذكره دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية في بند “ولاية الفقيه العادل” إذ يذكر: “تمشياً مع ولاية الأمـر والإمـامـة، يهيئ الدستور الظروف المناسبة لتحقيق قيادة الفقيه جامع الشرائط الذي يعترف به الناس قائداً لهم وفقاً للحديث الشريف “مجاري الأمور بيد العلماء بالله، الأمـناء على حلاله وحرامه”، وبذلك يضمن الدستور صيانة الأجهزة المختلفة من الانحراف عن وظائفها الإسلامية الأصيلة.[18]

وقد كانت لأفكار القديس أوغسطين (354 – 430م)، فيلسوف العصور الوسطى المسيحية، رد فعل واسع على تلك النظرية موضع البحث، فقد رأى القديس أوغسطين ضرورة ربط السياسة بالدين، حتى لا تنحل الأمم كما انحلت الإمبراطورية اليونانية من قبل، بسبب انحلال عروة الدين اليوناني في نفوس المواطنين، فبدأ وقتها أوغسطين في النظر إلى التاريخ بنظرة أخرى وكتب مؤلفه “مدينة الله” وفيه يتناول جميع مظاهر الحياة الروحية والعامة، من سياسية ودينية وعلمية وفنية، محاولًا أن يستخرج نظرة في التاريخ تجعل من الانحلال في الحضارات مصدره ابتعاد الناس عن المعين الأول للحضارات وهو الدين… فالدولة القائمة على الدين تلتمس سلطتها المباشرة من الله، ومعنى ذلك أنها لن تكون علمانية خالصة، بل ستكون دينية كذلك، وستجمع بين الطابع الديني والعلماني، لكن مهمتها الأساسية القيام على ما يتصل بالحياة الدينية، فالعلاقة بين الدولة والكنيسة تقوم على أن الثانية تشرف على الأولى من حيث توجيهها إلى الحياة الآخرة والدولة تساعد الكنيسة على تحقيق أغراضها لكن النصيب الأكبر هو للكنيسة.[19]


بهذه الأفكار فقد رسخ القديس أوغسطين إلى فكرة بقاء الحاكم على كرسي الحكم حيث آمن بأن الحياة الاجتماعية مقدسة ولذلك فإن الدولة مهمة في حياة الناس للحفاظ على المجتمع، وأن على “الملك” أن يكون في خدمة الإله، وأدان طغيان الملوك واستضعاف الأمم الفقيرة، وقد رأى بأن الطغيان من الحكام “لا يبرر” الثورة عليهم.[20]

كل تلك الأمور السالف ذكرها وردت مبادئ شبيهة لها أو مقتبسة منها بتصرف في الدستور الإيراني ما بعد 1979، والذي بين في المادة الثانية “ضرورة الإيمان بالله الواحد الأحد وتفرده بالحاكمية والتشريع، ولزوم التسليم لأمره”، كما نص البند الثاني من المادة نفسها “على الإيمان بالوحي الإلهي ودوره في بناء القوانين”، كما نص البند الخامس من المادة نفسها “على الإيمان بالإمامة والقيادة المستمرة ودورها الأساسي في استمرار ثورة الإسلام”[21].

المستوى الثالث: أسس ولاية الفقيه في إيران

لاشك أن السياسة هي فن المصلحة كما هي فن الممكن، ولذلك فقد تحاول بعض الأنظمة السياسية أن تقيم فصلًا بين السياسة والأخلاق للوصول إلى مأربها، ففي بداية عصر الفلسفة الإغريقية حاول أرسطو أن يقيم جسرًا بين السياسة وبين الأخلاق.

وفي بداية العصر الحديث حاول ميكافيللي أن يزيل هذا الجسر بين السياسة والأخلاق وعلى طول التاريخ الإنساني قبل أرسطو وبعده وقبل ميكافيللي وبعده كانت السياسة باستمرار تسعى إلى ما تريد، وكانت في سعيها تحاول قدر المستطاع أن تجد قيمًا أخلاقية أو دينية عقائدية ترفع أعلامها أو تتخذها وسائل أو ذرائع لما تطلبه وتصارع من أجله، وأحيانًا بعض الدول كانت تنجح في بلوغ ما تريد بالصدق أو الادعاء وفي أحيان أخرى كانت تفشل.[22]

في الحالة الإيرانية، فإن إيران ليست مجرد دولة فارسية قومية، بل هي دولة تمتلك نفسًا مذهبيًا توظفه حسب الحاجة والمصلحة، وفكرة ولاية الفقيه أو “المجال الحيوي المذهبي” تعد مهمة لأنها تضمن تحقيق الأهداف وفق فتاوى مذهبية فصلتها مراجع التقليد وفق مقياس مذهبي.[23]

وفيما يتعلق بنظرية ولاية الفقيه فقد قامت على أساس تصور يقول إنه “في زمن غيبة الإمام المهدي تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران بيد الفقيه العادل، ومن هنا فإنه من واجب حكومة ولاية الفقيه تمهيد الأرضية المناسبة وأسباب القوة والمنعة لعودته، والذي سيقوم بدوره بإقامة الحكومة العادلة التي ستوحد العالم[24]، وهو ما تم ذكره في الدستور الإيراني على وجه التحديد.

وكما كانت سلطة الكنيسة أو السلطة الدينية هي الأعلى في العصور الوسطى، فإن إيران سعت للسيناريو نفسه، حيث أن النظام القائم الآن هو أن المؤسسة الدينية في إيران تتألف من الفقيه وهو يكون على رأس المؤسسة، وهناك آيات الله العظمى والمجتهدون الذين يأتون بعد الفقيه بالمرتبة الدينية، بعدهم يأتي ما يسمى بـ”حجة الإسلام”، أي العلماء الذين هم برتبة حجة، وهنالك الملالي الصغار، وطلاب المعاهد الدينية، إضافة إلى شبكة الجوامع وأئمتها وإمام الجمعة، وبما أن مسألة ولاية الفقيه أعلى سلطة في المؤسسة لذلك أقرت بالدستور الإيراني. ومن هنا فإن المؤسسة الدينية تعتبر هي السلطة المؤسسة التي تهيمن على جميع المؤسسات الأخرى وتتحكم في تشكيلها واختصاصاتها الداخلية والخارجية.[25]

ولقد كانت كتابات الإمام الخميني المرشد الأعلى الأول للجمهورية الإسلامية الإيرانية، تتحدث عن ولاية الفقيه حتى تفردت أهميتها بأن كتب الخميني كتابًا بعنوان “ولاية الفقيه” يتحدث الخميني فيه عن أن الحكومة الإسلامية يجب أن تباشر المسؤولية فيها نواب الإمام المعصوم الغائب، وغيرهم معتدون ظلمة.[26]

يقول الخميني في حق الإمام أو الفقيه إن أول واجبات الفقيه العارف بأحكام الشريعة الإسلامية هو النهضة والقيادة من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض والجهاد المستمر لتطهير أرض الله من أعداء الله عز وجل، ومن واجبات الفقيه حمل السلاح وقيادة الجيوش ومكافحة أعداء الإسلام في ميادين الجهاد المشرفة.[27]

سلسلة للأئمة عند الشيعة الإمامية الإثنى عشرية على النحو التالي:

وانطلاقًا من فكرة المخلص التي جاءت في العصور الوسطى المسيحية، فإن ظهور المهدي بصفة المسيح أي الذي سيغير النظام الاجتماعي أشد النقاط أهمية في موضوع ولاية الفقيه وأكثرها انتشارًا.[29]

ونهوضا على المبادئ الفلسفية السالف ذكرها في المستويين الأول والثاني، فإن أفكار فرقة فلاسفة المعتزلة كان لها تأثير كبير في نظرية ولاية الفقيه وفي الإلهيات، حيث توسعت الطائفة الشيعة الزيدية في قبول مبادئ المعتزلة وأصولهم توسعًا كبيرًا ربما أكثر من الشيعة الإمامية، بالرغم من أن الطرفين انطلقا من الفكر المعتزلي، ومع ذلك فالإمامية يقبلون بنظريات فلاسفة المعتزلة فيما يتعلق بالأصول ويؤمنون، حيث يسمى الشيعة أنفسهم أهل العدل والتوحيد مثل المعتزلة أي بمفهومهم نفسه.[30]


دلالة ذلك أن الشيعة الإمامية يبنون قولهم بوجود الإمام في كل عصر وعصمته على أساس استدلالات فلاسفة فرقة المعتزلة: أي كما تقول المعتزلة “العدل الإلهي يستلزم أن يهب الله عباده في كل عصر مرشدًا وإمامًا روحيًا معصومًا من السهو والخطأ بعيدًا عنها، لكي يهدي الناس إلى الصراط المستقيم، صراط النجاح والفلاح”.

ولا شك أن مذهب المعتزلة أثر بشكل مباشر في التعاليم الإيرانية الحديثة، فقد ورث الإيرانيون أفكار فرقة المعتزلة التي لجأت إلى إيران منذ هروب بعض رجالها من البصرة في القرن الرابع الهجري، بل انتشرت تعاليمها صوب المشرق أي إيران وأسيا الوسطى أيضًا.

ونقل القاضي عبد الجبار أشهر علماء مكتب البصرة في القرن الرابع الهجري مقامه إلى الري عام 361هـ، وأسس مكتبًا للمعتزلة في تلك المدينة كما أسس مكاتب للمعتزلة في قرميسين (كرمانشاه) وأصفهان ونيسابور وبعض المدن الأخرى في منطقة خراسان وجرجان ونسف (نخشب) وخوارزم. وبرغم أن تعاليم المعتزلة تلاشت إلا أن أفكارهم ظلت حية وتبنى علماء الشيعة الأفكار الأساسية للمعتزلة ووجدت تلك الأفكار طريقها إلى إيران بمساعدة من الشيعة.[31]

وفيما يتعلق بفكرة الخلاص، فقد استغلت إيران ــ حتى تضمن نجاح مشروعها الإمبراطوري الشيعي ــ فكرة الخلاص الشيعي العالمي من خلال القيام بعملية ترويج واسعة للتركيز على محورية إيران لإنقاذ هذا العالم.[32]

ولعلم الفرس جيدًا بمدى التشابه بين نظريتهم (ولاية الفقيه) التي تحدثت عن الخلاص، فقد قارنت المصادر الفارسية بين غيبة المهدي والرسول عيسى، عليه السلام، فتقول: “وإن تشابهت غيبة الإمام المهدي مع المسيح فقد بدأت غيبة المسيح عندما رفعه الله إليه عند محاولة صلبه لقتله، وهي ممتدة حتى اليوم إلى أن يأذن الله له بالظهور ففي كل وجه شبه أيضًا”، ويذكر الشيعة أن المهدي ليس أول من يغيب وأنه ليس في الغيبة عجب.[33]

ولكن بعيدًا قليلًا عن فلسفة “ولاية الفقيه”، من اللازم ذكر إرهاصات الاعتماد على الفلسفة في إبراز دعائم النظام الإيراني الجديد، فيذكر الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني في مذكراته أنه كان يعمل على مواجهة الماركسيين وأنصار النظرة المادية للتاريخ، داعيًا الجميع إلى العودة للمنهل الديني المتمثل في القرآن الكريم.

يقول رفسنجاني: “تعهدت أنا وبعض الأصدقاء مثل السيد باهنر والدكتور حبيب الله بيمان بمسؤولية مواجهة الماركسيين في مجال فلسفة التاريخ الذي كان من المحاور الأصلية للخلاف وأن نعرض للرؤية القرآنية، فقد كان الماركسيون يفسرون القرآن بالرؤية المادية بينما يطرح القرآن بوضوح تأثير العوامل غير المادية في التاريخ”.[34]


ولقد كانت تلك العوامل الروحية نابعة من القرآن الكريم، وإن تم تطويعها لصالح الثورة الإيرانية، إلا أنها قد ساهمت في تشكيل الوعي السياسي بضرورة إبراز الأفكار الدينية والعقائدية كنقطة انطلاق لبناء ركائز ودعائم النظام الإيراني الذي اعتمد على نظرية “ولاية الفقيه” للتأثير المباشر بالدين والعقيدة على مواطني إيران فيما بعد ثورة 1979.

وقد كانت نظرية ولاية الفقيه التي صدح بها الخميني أثناء دعوته إحدى عوامل قوته، حيث الفقهاء حكام على الملوك، فقد نصب الخميني بتلك النظرية الفقهاء كالمأمور بحفظ الإسلام، وفي ذلك يقول الخميني “من المسلم به أن الفقهاء حكام على الملوك وإذا كان السلاطين على جانب من التدين فما عليهم إلا أن يصدروا في أعمالهم وأحكامهم عن الفقهاء وفي هذه الحالة فالحكام الحقيقيون هم الفقهاء، ويكون السلاطين مجرد عمال لهم.[35]

ولقد تسببت آراء مسيحية في العصور الوسطى على غرار آراء الخميني في انقسام الولاءات، فكما تحتم على المسيحي في العصر الوسيط أن يدين بالولاء لسلطتين، فإلى جانب طاعته لله يجب أن يطيع القيصر، ومعنى ذلك قيام سلطة دينية تمثلها الكنيسة، وسلطة زمنية يمثلها الإمبراطور، وكل منهما تفرض الطاعة العمياء والولاء التام، ففي إيران أيضًا لابد أن يكون هناك امتثالًا لسلطتين أولهما سلطة الفقيه أو الإمام، والثانية سلطة الحكام أو “الملوك” و”السلاطين” كما وصفهم “الخميني”.

المستوى الرابع: علاقة الغيبة بولاية الفقيه في إيران

جاءت نظرية ولاية الفقيه استنادًا على مبدأ “الغيبة” أو غيبة الإمام محمد المهدي الإمام الثاني عشر عند الشيعة، علمًا بأن نظام ولاية الفقيه يظل قائمًا إلى أن يأتي زمان “الإمام المختفي” وعندئذ سيتولى تسيير الأرض بنفسه ويوزعها بين جميع المؤمنين[36]، ذلك طبقًا لما تقوله كتب الشيعة.

ولقد اختفى الإمام إذن، والكتب القديمة التي ظهرت في زمن الغيبة الصغرى وكتاب الطوسي بعد ذلك لا تحدد زمان الاختفاء ولا مكانه لكن ظهر فيما بعد في كتب أهل السنة أن الشيعة كانوا يعتقدون أن الإمام الإثنى عشر قد اختفى في سرداب سنة 266 أو 265هـ، وتورد الكتب الشيعية المتأخرة الشيء نفسه وتتحدث عن الصلوات والعادات، التي يؤديها الشيعة في السرداب في ذكرى اختفاء الإمام.[37]

في رأي الشيعة الإثنى عشرية فالله هو الذي حدد العدد الثاني عشر للأئمة، ولما كان الأئمة قد تعرضوا في حوالي سنة 260هـ، لضغوط سياسية شديدة، فقد كان عليهم أن يفكروا في الإبقاء على حياتهم، وكان على الإمام الحادي عشر أن يفكر في حماية ابنه، لتتم مشيئة الله، ولذلك تلقى الإمام الحادي عشر ــ حسب عقيدة الشيعة ــ إشارة من الله تقتضي أن يغيب ابنه عن العالم وأن يظل مختفيًا، وإذا ما ظهر الإمام الثاني عشر أمام الناس، فإنه لا يجوز أن يظهر قوته وإلا فإن الحكومة ستقضي عليه أو تلحق ضررا بصحته، وهذه الروايات تقدم للشيعة الإثنى عشرية أساسًا لفكرة الغيبة.[38]

والشيعة الإمامية يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى لا يخلي الأرض من حجة على العباد من نبي أو وصي ظاهر مشهور أو غائب مستور، وحيث أن النبوة انقطعت بموت النبي صلي الله عليه و سلم، فإن الإمامة باقية في شخص الإمام الغائب المستور محمد بن الحسن العسكري الإمام الثاني عشر وهو المعروف باسم الإمام محمد المهدي.[39]

وما دام الإمام الحالي يعمل نائبًا عن الإمام الغائب، فإن الشيعة الإمامية يعتقدون في عصمة الأئمة، فهم يرون أن أئمتهم يشاركون الرسول صلى الله عليه وسلم في العصمة، فيقولون “ونعتقد أن الإمام كالنبي يجب أن يكون معصومًا من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن من سن الطفولة إلى الموت عمدًا وسهوًا، كما يجب أن يكون معصومًا من السهو والخطأ والنسيان.[40]

وقد حاول الدكتور محمد جواد مغنية، وهو من كبار علماء الشيعة المعاصرين أن يدافع عن هذا المعتقد، فقال “إن فكرة العصمة لا تختص بالشيعة وحدهم فإن أهل السنة قالوا بها ولكنهم جعلوها للأمة بالكامل وليس لأشخاص، مستندين إلى حديث نبوي صحيح لا يقر به الشيعة وهو: “إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة”، وبذلك يكون الشيعة الإمامية قد استندوا أيضًا على ما جاء في مبادئ الفلاسفة الأقدمين والمسيحية، فقد قال المسيحيون بعصمة البابا، والشيوعيون قالوا بعصمة ماركس ولينين. وكما قال أيضًا مئات الملايين في الصين بعصمة ماوتسي تونج.[41]

وعلى الرغم من أن التصوف منهج حياة، فيقال أن الصوفي من اشتهر بلبس الصوف من الزهاد والعباد، إلا أن هناك نظرة مغايرة للمتصوفة، تقربهم من الشيعة، حيث ترى بعض المراجع أن الصوفية هم الرجال المحسوبون على السادة أهل البيت، والمحبون لهم بتميز، وهم أكثر طوائف أهل السنة تذكرًا للسادة أهل البيت وزيارة لهم ونشرًا لتراثهم وإحياءً لذكراهم، واحتفالًا بموالدهم. لكن كثيرًا ما نسمع أن هناك تشابها بين الصوفية والشيعة، أو أن الصوفية هم الممثلون للشيعة بين أهل السنة أو أن التصوف قنطرة للتشيع. فالحقيقة أن هناك جامعا مشتركا بين الطرفين وهو حب أهل البيت.[42]


فالصوفية والشيعة يجتمعان على حب أهل البيت ويفترقان في مسألة بغض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن هناك مغالين من جهلة الصوفية لهم سلوك يشبه سلوك الشيعة من ناحية الغلو في حب أهل البيت لكنهم لا يبغضون الصحابة رضوان الله عليهم.

لكن أزمة الشيعة في أنهم يحتكرون حب أهل البيت لهم وحدهم دون سائر المؤمنين، وكأنهم وحدهم قد انفردوا بالولاء لآل البيت وأن من سواهم من المسلمين نواب، يعادون أهل البيت، وهذا منطق مغلوط لديهم ومردود عليه.[43]

ولاشك أن التشيع في إيران نظرياته مرتبطة ببعضها البعض، فكما أن التشيع مرتبط بولاية الفقيه، التي بدورها مرتبطة بفكرة الغيبة، فإن التشيع برمته مرتبط أيضًا بالتصوف من نواحٍ كثيرة، كان أبرزها أن الفلسفات القديمة كالأفلاطونية والمسيحية أثرت في فكرة التصوف التي أخذ عنها الشيعة، حتى أن التصوف بدأ كمنهج وبدأ يتصحر حتى وصل إلى إيران في وقت من الأوقات.

وقد أصبح إقليم خراسان في القرنين الرابع والخامس الهجريين واحدًا من أكبر مراكز التصوف، ففي هذا الإقليم كان تلاميذ أبي يزيد البسطامي الذين سلكوا مسلك الزهد والعرفان آخذين أنفسهم بالرياضة والمجاهدة والمراقبة، حتى أطلق عليهم اسم “الدراويش السائلون”، وكلمة درويش هي لفظ فارسي في الأصل تعني الفقير، ويطلقونه على السائل الذي لا يملك شيئًا خاصًا ويقبع بجوار المنزل أو يعيش في “الخانقاه” أو زوايا الدراويش وهي أماكن يعيشون فيها بصفة دائمة أو مؤقتة ولهذه الأماكن أسماء مختلفة منها “خانقاه” وهي كلمة فارسية تعني زاوية أو تكية أو ملاذ أو رباط.[44]

وعلى هذا فقد راجت فكرة التكايا وزاد عددها زيادة سريعة، فوجد في القرنين الرابع والخامس الهجريين في إقليم خراسان في إيران، أكثر من مائتي تكية وزاوية، ورأى الجلابي في خراسان وحدها ما يقرب من ثلاثمائة من الصوفية البارزين وهم رجال الله جند خراسان، وقد راجت في تكايا الدراويش كما كان الحال في صوامع المسيحيين والبوذيين فكرة النفور والابتعاد عن الجسد وكل ما هو جسماني والرياضة الاختبارية[45]، وكانت العقيدة المشتركة لجميع الدراويش هي التصوف.

ومن بين غلاة الصوفية القائلين بوحدة الوجود جلال الدين المعروف بـ”الرومي”، وهو الشاعر الإيراني الذي عاش بين 604 – 672هـ، والذي قال بمبدأ وحدة الوجود، و”وحدة الوجود هو مذهب فلسفي يرى أن الله والطبيعة حقيقة واحدة وأن الله هو صورة ومثال هذا العالم المخلوق”، وقد كان جلال الدين الرومي من أهل بلخ أمضى معظم حياته في مدينة قونية في أسيا الصغرى، وهو مؤسس الطريقة المعروفة بالمولوية.[46]

وقد أثر مبدأ وحدة الوجود المنبثق من الفكر الصوفي ذلك في الفكر الشيعي بدرجة كبيرة، ما دعاهم إلى القول بحلول “اللاهوت في الناسوت[47]“، وفي هذا المبدأ قال الخميني “قال المتحقق بالبرزخية الكبرى والفقير الكل على المولى والمرتقى بقاب قوسين أو أدنى المصطفى المرتجى المجتبى بلسان أحد الأئمة: لنا مع الله حالات، هو هو، ونحن نحن، وهو نحن، ونحن هو[48]“.

وقد بدأت فكرة التقية عند غلاة الشيعة انطلاقًا من بعض الأفكار الصوفية، فأحيانًا يستخدم الشكل الظاهري لأفكار الصوفية ومصطلحاتهم لإخفاء حرية العقيدة والمادية بل والإلحاد كذلك، “لأن وحدة الوجود يمكن أن تكون ستارًا لإخفاء الإلحاد”، ومن الممكن اعتبار هذا التستر والاخفاء هروبًا من مطاردة رجال الدين وإيذائهم وأحيانًا كان الشعراء المنتسبون للفرق المرتدة والملحدة والمنادية بأفكار اجتماعية وإنسانية معادية للسلطة الحاكمة يتوسلون بأسلوب التخفي هذا لتحقيق أغراضهم ومآربهم[49]، وقد كانت تلك التعاليم بداية لفكرة التقية في الفكر الشيعي الحالي.

خاتمة

شغلت نظرية “ولاية الفقيه” منذ انتصار رجال الدين في ثورتهم على شاه إيران محمد رضا بهلوي، أروقة البحث العلمي، وما تسببت فيه من تثبيت لعقائد دينية ممزوجة ببعض الهجين الفلسفي النابع إما من الفلسفة الصوفية، أو من مبادئ فلاسفة المعتزلة، أو حتى من الجذور الغربية للفلسفة اليونانية القديمة، مع العلم أن إيران تتشدق بعدائها مع “الغرب الكافر” أو حتى مع بعض الروافد التي جاء بها فلاسفة الكنيسة في العصور الوسطى المسيحية، والتي تسببت في تعدد الولاءات بين الحكام ورجال الدين، كما تسببت في تكرار النسخة نفسها في إيران بين الفقهاء والحكام.

وقد دفعت تلك العقائد أن لجأ النظام الإيراني، كما ذكر أبو الحسن بين صدر، في حربه مع العراق إلى الدفع بالأطفال في الأعمار الصغيرة على جبهات القتال، حيث استعانوا بتلاميذ المدارس دون عمر 16 عاما في ذلك الوقت، وأعطوهم مع سلاحهم “مفتاح حديدي”، وأوهموهم أن نسخة كل شخص منهم من تلك المفاتيح هي نسخة حجرته في الجنة، ما يشي بأن تأثير العقيدة في تشكيل الوعي الإنساني خاصة للصغار كان عاملًا أساسيًا في الاستماتة من أجل تثبيت دعائم ذلك النظام الحالي، على اعتبار أن المدافع عنه هو مدافع عن الدين والعقيدة الإسلامية والتي إذا مات في سبيلها فقد نعم بالجنة وبين يديه مفتاحها.

ومما سبق نستخلص أن ما جاء في مبادئ نظرية ولاية الفقيه مأخوذ من:

ــــــــــــــــــــــــــ

[1] أبو الحسن بني صدر، لقاء على فضائية “بي بي سي عربي”، بتاريخ 11-3-2020، الرابط: https://bit.ly/3cZhIgv
[2] أفلاطون، الجمهورية، ترجمة مينا خباز، مؤسسة هنداوي للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى 2017، ص198.
[3] د. يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي للنشر، القاهرة، الطبعة الثانية، 2014 ص121.
[4] المرجع السابق، ص122.
[5] المرجع السابق، ص124.
[6] السابق، ص126.
[7][7] نفسه، ص127.
[8] دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية الصادر عام 1979 شاملًا تعديلاته لغاية عام 1989، ترجمة المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات؛ تحديث مشروع الدساتير المقارنة، الرابط: https://bit.ly/3dYR7lf
[9] أميرة حلمي مطر، الفلسفة اليونانية.. تاريخها ومشكلاتها، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الثانية، 1998، ص: 329 و330.
[10] الدستور الإيراني، مصدر سابق، بند “أسلوب الحكم في الإسلام” ص4.
[11] د. محمد وقيع الله أحمد، مدخل إلى الفلسفة السياسية، دار الفكر، دمشق، 2010 الطبعة الأولى، ص: 75 و76.
[12] أبو نصر محمد الفارابي، أراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2013، الطبعة الثالثة، ص75.
[13] المصدر السابق، ص76 و77.
[14] السابق، ص77.
[15] د. فارس النداف، “الفكر السياسي المسيحي ومفهوم الدولة عند الإكويني”، مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية، سلسلة الأداب والعلوم الإنسانية، المجلد 39، العدد 3، عام 2017، ص196. الرابط: https://bit.ly/2UKqd98
[16] المرجع السابق، ص196.
[17] ميكافيللي، الأمير، إعداد محمد ثابت، دار الحياة للنشر والتوزيع، القاهرة، 2013، ص81.
[18] الدستور الإيراني، مصدر سابق، بند “ولاية الفقيه العادل” ص5.
[19] د. إلياس بن عبد الله دكار، جدلية الفكر الديني والسياسي عند القديس أوغسطين وتأثيره في التعايش المسيحو – إسلامي، أطروحة لنيل درجة الدكتوراه في مقارنة الأديان، جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، الجزائر، ص5. الرابط: https://bit.ly/3fg7MAO
[20] محمد آل إسماعيل، الثيوقراطية الدولية في العصور الوسطى، مركز آفاق للدراسات والبحوث، 29 يناير 2012، الرابط: https://aafaqcenter.co/index.php/post/1014
[21] الدستور الإيراني، مصدر سابق، ص6 و7.
[22] محمد حسنين هيكل، المقالات اليابانية، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1997، ص 115
[23] د. نبيل العتوم، إيران والإمبراطورية الشيعية الموعودة، مركز العصر للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية، لندن، الطبعة الأولى، 2013، ص9.
[24] دستور إيران، مصدر سابق، المادة 5، ص8.
[25] د. نبيل العتوم، إيران والإمبراطورية الشيعية الموعودة، مرجع سابق، ص54.
[26] د. عبد الله محمد الغريب، وجاء دور المجوس.. الأبعاد التاريخية والعقائدية للثورة الإيرانية، مكتبة الرضوان، بغداد، الطبعة الرابعة، 1985، ص139.
[27] من خطاب الخميني في 26 أكتوبر 1964 في “قم” وعلى إثر ذلك الخطاب تم نفي الخميني إلى تركيا في 4 نوفمبر 1964، نقلا عن سامي ذبيان، إيران والخميني.. منطلقات الثورة وحدود التغيير”، دار المسيرة، بيروت، الطبعة الأولى، 1979 ص146.
[28] بطروشوفسكي، الإسلام في إيران، قدم له وترجمه وعلق عليه د. السباعي محمد السباعي، دار الثقافة للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1982، ص213.
[29] المرجع السابق، ص227.
[30] السابق، ص229.
[31] المرجع السابق، ص145.
[32] د. نبيل العتوم، إيران والإمبراطورية الشيعية الموعودة، مرجع سابق، ص210.
[33] المرجع السابق، ص216.
[34] هاشمي رفسنجاني، مذكرات هاشمي رفسنجاني.. عهد الكفاح، تحت إشراف مهندس محسن هاشمي، ترجمة د. محمد السعيد عبد المؤمن، دفتر نشر معارف انقلاب، الطبعة الأولى، 1999، ص201.
[35] فهمي هويدي، إيران من الداخل، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1987، ص93.
[36] د. محمد شاهين، الشيعة، الدولية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006، الطبعة الأولى، ص13.
[37] المرجع السابق، ص78.
[38] المرجع السابق، ص 93
[39] الدكتور زيد العيص، الخميني والوجه الأخر في ضوء الكتاب والسنة، دار اليقين للنشر، المنصورة، الطبعة الأولى، 1993، ص25
[40] المرجع السابق، ص 19
[41] المرجع السابق ص 20
[42] سيد سليم، حب السادة أهل البيت بين التصوف والتشيع والتطرف، دار طابا للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 2008، ص181.
[43] المرجع السابق، ص89.
[44] بطروشوفسكي، الإسلام في إيران، مرجع سابق، ص307.
[45] المرجع السابق، ص310 و311.
[46] المرجع السابق ص329.
[47] حلول اللاهوت في الناسوت، هو أحد الأقوال التي تصدر عن غلاة الصوفية، ويذكر الصوفية أن المتصوف يرتقى إلى مرحلة يشعر فيها بأنه مع الله في حال واحد، وهو ما عبر عنه مذهب الحلول والاتحاد، حيث يتحد الإنسان بالله بعد أن يكون قد حقق الرؤية من فرط التصوف ونسيان الدنيا، فيحل في معية الله، وفي هذا صدر أحد غلاة الصوفية وهو الحلاج قائلًا: “أنا الله والله أنا روحان حللنا في جسد واحد”، وقال أيضًا “ليس تحت الجبة “الرداء” سوى الله”.
[48] د. حافظ موسى عامر، الشيعة التوحيد.. قصة الهدم الشيعي للتوحيد، مكتبة الإمام البخاري، القاهرة، الطبعة الأولى، 2007، ص24.
[49] المرجع السابق ص333.
ــــــــــــــــــــــ

مصادر الدراسة ومراجعها

أولا: المصادر

1 ــ أبو الحسن بني صدر، مقابلة على فضائية “بي بي سي عربي”، بتاريخ 11-3-2020.

2 ــ أبو نصر محمد الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2013، الطبعة الثالثة.

3 ــ أفلاطون، الجمهورية، ترجمة مينا خباز، مؤسسة هنداوي للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى 2017

4 ــ الخميني، خطاب 26 أكتوبر 1964 في “قم”.

5 ــ الدستور الإيراني.

6 ــ نيقولا ميكافيللي، الأمير، إعداد محمد ثابت، دار الحياة للنشر والتوزيع، القاهرة، 2013.

7 ــ هاشمي رفسنجاني، مذكرات هاشمي رفسنجاني.. عهد الكفاح، تحت إشراف مهندس محسن هاشمي، ترجمة د. محمد السعيد عبد المؤمن، دفتر نشر معارف انقلاب، الطبعة الأولى، 1999.

ثانيا: المراجع

1 ــ أميرة حلمي مطر، الفلسفة اليونانية.. تاريخها ومشكلاتها، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الثانية، 1998.

2 ــ بطروشوفسكي، الإسلام في إيران، قدم له وترجمه وعلق عليه د. السباعي محمد السباعي، دار الثقافة للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1982.

3 ـ د. إلياس بن عبد الله دكار، جدلية الفكر الديني والسياسي عند القديس أوغسطين وتأثيره في التعايش المسيحو-إسلامي، أطروحة لنيل درجة الدكتوراه في مقارنة الأديان، جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، الجزائر.

4 ــ د. عبد الله محمد الغريب، وجاء دور المجوس.. الأبعاد التاريخية والعقائدية للثورة الإيرانية، مكتبة الرضوان، بغداد، الطبعة الرابعة، 1985.

5 ــ د. فارس النداف، بحث بعنوان “الفكر السياسي المسيحي ومفهوم الدولة عند الإكويني”، مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية، سلسلة الأداب والعلوم الإنسانية، المجلد39، العدد 3، عام 2017.

6 ــ د. محمد وقيع الله أحمد، مدخل إلى الفلسفة السياسية، دار الفكر، دمشق، 2010 الطبعة الأولى.

7 ــ د. نبيل العتوم، إيران والإمبراطورية الشيعية الموعودة، مركز العصر للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية، لندن الطبعة الأولى، 2013.

8 ــ د. يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي للنشر، القاهرة، الطبعة الثانية، 2014.

9 ــ سامي ذبيان، إيران والخميني.. منطلقات الثورة وحدود التغيير”، دار المسيرة، بيروت، الطبعة الأولى.

10 ــ فهمي هويدي، إيران من الداخل، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1987.

11 ـ محمد آل إسماعيل، الثيوقراطية الدولية في العصور الوسطى، مركز آفاق للدراسات والبحوث.

12 ــ محمد حسنين هيكل، المقالات اليابانية، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1997.

*باحث مقيم بـ“المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية ـ أفايب”

المصدر: المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية ـ أفايب

Exit mobile version