المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

فلسطين بين جدلية التاريخ واستراتيجية النضال العربي بعد نكبة فلسطين

بقلم: سعدات بهجت عمر

كانت حرب 1948 الإمتحان الذي رسبت فيه تحالفات سبعة جيوش عربية وكانت التبدلات السياسية التي شهدتها بلدان التماس مع المشكلة الفلسطينية فرصة لبروز قوى وصلت إلى السلطة وكان مميزاً أنه جاء على يد قوي عسكرية اشتركت في حرب 1948 وخَبِرَتْ بتجربتها المحسوسة نقاط الضعف حيال هذه المسألة الهامة. إن مجيء هذه القوى العسكرية إلى السلطة عبر بوابة فلسطين رافقه تقدم في النظرة إلى التناقض الرئيسي كتناقض بين الأمة العربية والامبريالية العالمية وفرعها الصهيوني المحلى ولكن هذا التقدم لم يلبث أن عانى من نقطة ضعف أساسه انتشرت لتشمل التجزئة العربية فسارت على خط أساسه تأجيل حل التناقض مع العدو الصهيوني ريثما يُحل التناقض مع الإمبريالية هكذا سار الزعماء العرب رغم اعتداء 1956 التي برهنت على أن حل التناقض الرئيسي مع القوة الأساسية يجب أن يشمل الفرع المحلي للإمبريالية وإلا أُستخدم كاحتياطي ميداني ضد هذه السلطة العسكرية الجديدة في سياسة حصر الخطر الصهيوني وجعله مقتصراً على فلسطين وعدم استفزازه بأي شكل ريثما تكون المنطقة العربية قد تحررت من الإمبريالية. يعني إخراج الجيوش الأمريكية والجيوش الإنكليزية والفرنسية وميل ميزان القوى في المنطقة العربية لصالح الحركة الثورية العربية وعلى الرغم من أن القوى العسكرية الجديدة الحاكمة كانت ترى بأم عينيها كيف تتحول معركتها مع الإمبريالية إلى معركة مع مرتكزاتها المحلية وخاصة مع الكيان الصهيونى فإنها لم تنجح فى نقل سياستها الهجومية المباشرة حيال الإمبريالية إلى المجال الفلسطيني بل بقي وضعها هنا متسماً بالجمود والسلبية لكنه سيكون من قبيل التضليل الزعم بأن سياستها لم تكن تؤثر على الموضوع الفلسطيني أو تَصُبَّ فيه لكن ضعف هذه القوى كانت تترجم عملياً لصالح الإمبريالية وبالتالي لصالح الكيان الصهيونى. صحيح أن هذه القوى طرحت مهمات مركزية لثورة معادية للإمبريالية ولكنها طرحتها بصورة ناقصة طرحاً غير جذري. فكان موقفها الإجتماعي وسطياً حين سمحت للقوى المضادة بأن تنمو في أحضانها كما أنها نظرت إلى مسألة الوحدة العربية من زاوية تَجَمُّع القوة ولم تناضل في سبيلها كمسألة تحتوي مسائل أخرى مع أنها هي نفسها كانت متضمنة فيها إنها لم تر جدل العلاقة بين مهمات الثورة كما لم تعتبر هذه المهمات رافعة لتغيير إجتماعي ثوري انقلابي بل رأت فيها مهمات قائمة بذاتها فأخذت تفتش لها عن أطر تنظيمية تكسبها بداخلها وعن قوى سياسية واجتماعية تتبناها فلم تجد سوى الطبقات البينية التي انقضت على الجانب الثوري المعادي للإمبريالية وأخذت تُجهز عليه(الأمثلة كثيرة منها سقوط الوحدة بين مصر وسوريا وكذلك عدم تبني بيان 1964/3/30 الناصري في مجلس الأمة بالقاهرة واعتقال علي وخالد محي الدين بعد موت الرئيس جمال عبد الناصر من قِبَلْ السادات ف شهر أيار من عام 1971. إن هذه القوى التي انْقَضَّت على القوي الثورية لم تر إلا جدل العلاقة بين الإمبريالية والصهيونية واعتبرت هذه العلاقة علاقة سيد بتابع.
أظهرت حرب حزيران 1967 أن المصير الذي واجهته فلسطين لم يكن استثناءً بل كان القاعدة التي ستخضع لها كل البلاد العربية. فقد اقتحم الجيش الإسرائيلي حدود ثلاثة دول عربية لينقل إليها المشكلة الفلسطينية ويفرضها عليها كمشكلة داخلية أيضاً. لقد واجهت أقطاراً عربية خلال ستة أيام حقيقة طالما تجاهلتها وفَرَّت منها وهي أن التناقضات العدائية لا ولن تُحسم بالتأجيل وهنا لا بد لي من طرح هذه الأسئلة.
1- ما هي صحة الإطار العام الذي خاضت فيها هذه القيادات معركتها مع الإمبريالية
2- ما حجم الأدوات الدولية التي استخدمتها خلال هذه الحرب.
3- ما هو برنامج العمل الذي ترجمت فيه طموحاتها القومية.
4- من هي القوى التي تصدت لتنفيذ هذا البرنامج وخوض الحرب.
وهنا الفاجعة أجوبة هذه الأسئلة ما كانت في صالح هذه الزعامات وان حرب حزيران قد أكرهتها على مراجعة نشاطها كله وهي في وضع المهزوم وبعد أن ديست قدسية دولهم بصدمة عسكرية قاسية نُقلت إلى داخل كل دولة مهزومة الجرثومة الفلسطينية من العدو الإسرائيلي ومعها هذا السؤال ما جدوى كل ما فعلناه طالما هو مهدد بالانهيار إثر ضربة عسكرية إسرائيلية خارجية؟ وان إسرائيل لم تعد مشكلة خارجية بهذا المنظور. بل أصبحت قوة داخلية عربية قادرة على حجز التطور الثوري والديمقراطي ولقد كان عدوان حزيران بهذا المعنى، البرهان القاطع على ترابط مهمات الثورة وعلى خطأ الفصل بين وجهيها الداخلي والخارجي وعلى صعوبة انتزاع تقدم في أحد مجالاتها إن لم يؤمن بما فيه الكفاية في المجالات الأخرى وأن الطريق الذي سارت عليه والنهج الذي مارسته ما عادا صالحين إن هي شاءت مواصلة النضال وانها مُكرهة على اتخاذ قرار حاسم تتخلص به من سياستها الوسطية.
بعد مرحلة قصيرة من المقاومة انهار الجناح الثوري وحلَّت محله في السلطة تلك الشرائح التي صعدت معه في الحكم ووصلت إلى وضع صار حسم الصراع فيه يُلحق أشد الضرر بمصالحها، ومع سقوط القوى الثورية سقط الخيار الجذري وانسدت سبل المساومة والتكيف كما عبر عن نفسه في حرب حزيران 1967 وما تلاها من تطورات عسكرية وسياسية. بعد صعود التيار الثوري إلى مركز القرار السياسي أصبح هناك تطوراً هاماً في الحياة السياسية العربية كما كان حدثاً نوعياً بالنسبة للقضية الفلسطينية بالذات التي شهدت قواها عمليات قمع وتصفية وصلت حد الإبادة عسكريا وسياسياً وهذا الصعود مَثَّلَ ارتداداً في مسالتين هامتين.
الأولى – الإيمان بأن القضية الفلسطينية لا يمكن أن تجد لها حلاً خارج إطار التحالف مع الإمبريالية.
الثانية – أن القضية الفلسطينية لا تعدو كونها خلافاً بين كيانات سياسية داخل المنطقة العربية وليست موضوع إستراتيجية للنضال ضد الإمبريالية وبهذا المعنى غير صالحة لأن تكون محكاً لجدارة الدولة العربية القُطرية في الوجود لأن مبررات هذا الوجود يجب أن تتجاوزها بعد أن كانت القضية الفلسطينية هي القضية الوحيدة التي خسرت بها الدولة العربية القُطرية وكانت المسألة التي امتُحِنت بها. المهم هذه السياسة التقليدية قد صاحبها تَبَدُّل جذري في موقع القضية الفلسطينية من مهمات النضال التي تُقاس بها عروبة هذا النظام أو ذاك. بل صارت قضية خارجية وهامشية بالنسبة لمعظم العربية لأنها فقدت تلك الدرجة من التمفصل مع المهمات الداخلية والقومية للنضال التقدمي والمعادي للإمبريالية وتحولت من قضية إلى مشكلة ودرجت تسميتها على كل لسان رسمي وكان الستار الذي مُررت من تحته هي العودة عن الطابع النضالي للقضية الفلسطينية هو ذلك الفصل بين مهمات التحرر الوطني التي وُزعت على مرحلتين سُميت الأولى إزالة آثار العدوان والثانية * تحرير الأرض المُغتصبة وقد تناسى الزعماء العرب واعلامهم عن قصد أن إزالة آثار العدوان ليست مهمة منفصلة عن تحرير الأرض المُغتصبة. إن تحرير الأرض المُغتصبة هو الإيحاء بأن مشاكل الأنظمة ومهماتها إزالة آثار العدوان تختلف جذرياً عن القضية الفلسطينية(تحرير الأرض المُغتصبة). أما التحرير هذه المسألة القومية العامة فهو لا يعني شيئاً بالنسبة للبعض “نوافق على ما يوافق عليه الشعب الفلسطيني” وشعبنا الفلسطيني مسلوب الإرادة!!! غداً أكثر من اليوم وبعد غد أكثر من الغد أو أنه يعني قرارات الأمم المتحدة وقرارات الجامعة العربية ولكن دون تحديد كاف لها مع أننا أول أمة تربط قولاً وفعلاً حقوقها القومية بإرادة دولية بدل أن نربطها بارادتنا القومية نفسها ونجعل منها بالتالي رائداً لتبلور كياننا ووجداننا العربي نفسه. هكذا تحولت ارادتنا في القضية القومية قضيتنا الفلسطينية إلى الحق الدولي لا تجد حلاً لها. بعد أن خاض شعبنا وجمهوره العربي معارك لم ترحم طوال أكثر من سبعة عقود من عمر النكبة وطوال 56 سنة من عمر الانطلاقة. فقد سببت هذه الأنظمة غرز الاسفين الصهيوني في عمق صدر أمتنا ولم يعد احداً يحس بالجرح. فالانظمة العربية بمجمل حكامها تقول علنا أن حل القضية الفلسطينية برمتها في يد واشنطن وألقت بها في سلال الإدارات الأمريكية المتعاقبة. ويا هل ترى أن أمة العرب بكادراتها تعي إن ألقت أمريكا بدورها لصالح إسرائيل. هل نقول عندئذ أن دور الأمة لا زال هو الصفر؟ في هذه الحالة ما معنى كلمة التحرير وما معنى المعركة؟.
لم تنجح أية قوة عربية بما فيها الجامعة العربية وقممها في إخراج القضية الفلسطينية من وضعها الداخلي وجيرتها إلى الأوجه الخارجية للموقف الإمبريالي الأمريكي-الصهيوني من التطورات الداخلية للمجتمعات العربية المعاصرة التي زحفت على أربع للتطبيع مع العدو الإسرائيلي. بالرغم من إن القضية الفلسطينية كفرع من المسألة القومية الأعم وكجزء مركزي من التناقض مع الإمبريالية. بهذا المعنى لن تجد القوى الثورية ممثلة بأحزابها القومية التقدمية والوطنية الإسلامية وليس الإسلاموية مهرباً من القضية الفلسطينية فهي إن تصدت للمشكلة القومية وجدت أمامها القضية الفلسطينية وإن تصدت للمشكلة الدينية وجدت أمامها فلسطين أرض الإسراء والمحشر والمنشر بمقدساتها المسجد الأقصى وكنيسة المهد وكنيسة القيامة والصخرة المُشرفة وإن تصدت لمسألة التقدم والتحرير وجدت أمامها قضية فلسطين. إن قضية فلسطين كانت ولا تزال مسألة لا تحتمل التأجيل، وهي كانت ولا تزال مسألة تتسم بالشمول والاتساع وستجد هذه القوى الثورية نفسها كما كان موقعها في موضوع القضية الفلسطينية حيال أمرين هما.
1- إذا كانت الإمبريالية الأمريكية تحول كما من قبلها الإمبريالية الإنكليزية حولت القضية الفلسطينية إلى عامل مساعد في يدها لمواصلة التآمر عليها فماذا نفعل نفعل لكي ننزع هذا السلاح ونحوله إلى عامل لصالحنا وضدها خوفاً من صدور عشرات الوعود والقرارات الترامبية.
2 – إذا كانت قضيتنا الفلسطينية قادرة على كبح وحدتنا. فماذا نفعل لكي نحولها إلى عنصر من عناصر التحفيز للوحدة العربية والوحدة الفلسطينية بنبذ وإنهاء الإنقسام؟. هاتان مسألتان ليستا من طبيعة نظرية. بل هما عمليتان حتى العظم وهما ليستا عمليتين بمعنى أن حلهما ممكن مرة واحدة. بل هما عمليتان بالمعنى الآخر الذي لم تمارسه السياسة العربية حتى الآن ولو في الأحلام. فقد كانت هذه السياسة تعتقد أن تحرير فلسطين سيأتي بعد سلسلة من الاستعدادات تمهد له وتكون وتكون شرطه اللازم والضروري. فمن المعروف أن قضية فلسطين هي جزء من ثورة عربية معادية للإمبريالية وإسرائيل، وأن هذه القضية هي روافع النضال العربي من أجل الوحدة. إن السياسة الراهنة من بعض الأنظمة العربية تقوم على فصل القضية الفلسطينية عن الأوضاع الداخلية للأنظمة والمجتمعات العربية. أما السياسة المستقبلية المطوح فيها آمل أن تقوم على دمج القضية الفلسطينية بالأوضاع الداخلية العربية لوقف هرولة التطبيع مع العدو الإسرائيلي وربطها بالقضية الفلسطينية إلى أبعد حد وأكبر درجة بحيث تنشأ بينهما تلك الوحدة العضوية الوثيقة التي تقوم في العادة بين مهمات الثورة العربية من أجل الوحدة والثورة الفلسطينية من أجل التحرير والعودة كيما تُصبح كل واحدة منهما شرطاً للأخرى تفترضها وتتحقق بها. اللهم إني قد بلغت.

Exit mobile version