المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

منارتان أدبيتان ترجلتا

بقلم: عمر حلمي الغول

فقدت فلسطين الأسبوع الماضي قامتين متميزتين في حقل الأدب والتاريخ والمعرفة. قامتان نذرتا نفسيهما للعطاء الوطني، ولغرس التربة الفلسطينية بالتنوير كل في حقلها، والتأصيل للوعي الوطني في التربية والشعر والتاريخ والترجمة والنضال اليومي. منارتان من جيل واحد، من الرواد الأوائل حملت راية الوطنية على كاهلها منذ اقتران وعيها بالسياسة، وتلمسها بشاعة وخسة وهمجية الاستعمار البريطاني ووحشية المشروع الاستعماري الصهيوني، الذي جيء بأدواته وشخوصه من دول الغرب والشرق الأوروبي لينفي شعبها من أرض وطنه، ويقيم دولته الكولونيالية الإحلالية الإجلائية على أنقاض نكبته، ويقيم مستنقعا للوحوش الآدمية، التي ذُبحتْ وأُحرقتْ على يد من جاؤوا بهم من أوروبا، ومن بين ظهراني شعوبهم المختلفة، وقبلت أن تكون مطية وأداة استعمالية وظيفية رخيصة على حساب شعب لم يبادلها سوى التضامن والتآزر واحتضان من وَفد للوطن الفلسطيني. لكنهم غدروا، وعاثوا فسادا في الأرض وضد الشعب، الذي آواهم من خوف الغرب والشرق الأوروبي المتوحش النازي والفاشي وراعي البقر الأميركي، وأسكنهم، وأطعمهم من خيرات بلاده، لأن “العرق دساس” كما يقول المثل الفلسطيني.

رغم كل المرارة والظلم والإجحاف والقهر من الغرب وأداته الاستعمارية من يهود الخزر المضللين، إلا أن شعبنا الفلسطيني وروافعه الوطنية من مناضلين ونخب سياسية وثقافية فنية واعلام تربوية واقتصادية وقانونية ودينية تجندت دفاعا عن الوطن، وعن الحق في الحياة، والحرية والاستقلال، والعيش الكريم وجابهت بما ملكت من إمكانيات وقدرات مدعومة من القوى الشعبية العربية، بيد أن تيار الهجمة الاستعمارية كان عاليا ودمويا وهمجيا نجم عنه نشوء دولة مارقة وخارجة على القانون، الدولة الإسرائيلية، على أنقاض نكبة وتشريد وطرد ما يقارب المليون فلسطيني إلى الشتات والمنافي.

ومن بين تلك النخب كان الفارسان المبدعان حنا أبو حنا وجميل عرفات، اللذان تجذرا مع عائلتيهما في الوطن الأم، وحملا مناجل الدفاع عن الهوية الوطنية من خلال سلاح القلم، والإنتاج الأدبي والتاريخي المعرفي، فأسهما إسهاما كبيرا في الارتقاء بالوعي الجمعي لأبناء الشعب في الجليل والمثلث والنقب والمدن المختلطة وفي كل التجمعات داخل وخارج الوطن الفلسطيني الذبيح.

ترجل المؤرخ جميل عرفات عن عمر يناهز التسعين عاما يوم الخميس الموافق الثامن والعشرين من يناير الماضي عن المسرح، بعد أن أصدر عشرين كتابا، جال فيها على تاريخ فلسطين، لا سيما القرى المهجرة، ومن بين كتبه “مسارات في الجليل والجولان، الناصرة مدينتي، من قرانا المهجرة في الجليل، قرى وعشائر قضاء بيسان، مدن وقرى الكرمل، القرى المهجرة في الحدود الشمالية، معالم الطريق من بيت المقدس إلى البيت العتيق”، وكتب البرامج الاذاعية، وعمل أيضا في حقل التدريس. ولديه الكثير من الكتب التعليمية قسم منها يُدَرَّس في المدارس العربية منها: الخريطة والمنطقة الطبيعية، الزيت والزيتون، الولايات المتحدة، الاتحاد السوفييتي، اليابان وأيضا كتب ترجمت للعبرية منها “أوروبا الغربية، الهند، جيران، أرض إسرائيل”.

كان الراحل جميل حاملا هم المدن والقرى المهجرة وسكانها، وحرص أن ينقل للأجيال الجديدة رواية الوطن ونكبته عبر محاكاة مآسي تلك البلدات، وما أصاب أبناءها من موت وذبح وتشريد، وأراد التصدي لوحشية الاستعمار الإسرائيلي الاجلائي الاحلالي بكشف الحقائق، ومطاردة الرواية الصهيونية المزورة والكاذبة، والتي لا تمت للحقيقة وللواقع بصلة باضاءة شموع الرواية الفلسطينية على مدار العقود التسعة، التي عاشها وهو يقاتل بما ملكت يُمانه من ابداع وتأريخ للقضية الوطنية بالتأريخ لنكبات المدن والقرى الفلسطينية. ووري جثمانه في قرية المشهد القريبة من الناصرة.

وأما الشاعر والأديب والمناضل حنا أبو حنا فصعدت روحه للعلا بعد أربعة وتسعين عاما يوم الأربعاء الماضي الموافق الثاني من فبراير الحالي وشيع جثمانه في مدينة حيفا، بعد رحلة طويلة قضاها بحثا عن العلم والمعرفة بدءا من الكُتاب في قرية اسدود مرورا بالمدرسة الابتدائية (الاميرية – مدرسة المعارف للبنين) في حيفا، ثم التحق بمدرسة اللاتين في الرينة، حيث ولد، ثم انتقل للناصرة لينهي دراسته الثانوية، ونال درجة البكالوريوس والماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة حيفا. وخلال هذه التجربة كان القامة الوطنية أبو حنا على تماس مع قضية شعبه دفاعا عن الهوية الوطنية، وشارك في ثورة الـ 1936، واعتقل عام 1958، وعمل مدرسا في العديد من المدارس، وأستاذا أكاديميا ومديرا لبعضها.

غير أن جهده الأساس تركز على نظم الشعر، وكان من الشعراء الأوائل في فلسطين، وشارك في اصدار العديد من دواوين الشعر والدوريات منها مجلة “الجديد” عام 1951، و”الغد” عام 1953، و”المواكب” عام 1948، و”المواقف” عام 1993. كما ساهم بتأسيس جوقة الطليعة، وكان عضوا في الهئية الادارية لـ “المسرح الناهض”، و”مسرح الميدان” في حيفا. وشارك في تحرير وإعداد برامج الطلبة في إذاعتي القدس والشرق الأدنى. وتنقل أبو حنا بين القدس ورام الله وجفنا، وأسدود، وقرية نجد، وحيفا، والناصرة والرينة ممتشقا دوما وأبدا راية الوطن والشعب.

كلاهما انتج في حقله، وساهم مساهمة مباشرة في الدفاع عن الثقافة والمعرفة والتنوير، وشاركا في النضال دون تردد وبأشكاله المختلفة دفاعا عن الهوية والشخصية الوطنية الفلسطينية. وكل منهما كان مبدعا في مجاله، رغم أنهما غادرا مسرح الحياة، بيد أن نتاجهما المعرفي باق، وخالد خلود روحيهما، لا سيما وأنهما سطرا حضورهما الشامخ في السجل الوطني بأحرف من نار ونور. ولم ولن يموتا، وإن رحلت روحاهما إلى دار الخلود السرمدية، لأن موروثهما الثقافي والأدبي والتاريخي ما زال حاضرا وحيا ينبض بالحياة، معرفا عليهما وعلى مكانتهما الرفيعة في المجتمع.

وتكريما لهما أقترح منحهما أوسمة وطنية تليق بنتاجاتهما، وبتجربتهما الوطنية لأنهما يستحقان التكريم، كما تملي الضرورة إطلاق اسميهما على بعض الميادين والشوارع أو المدارس والمعاهد تعميقا لتخليد ذكراهما.

oalghoul@gmail.com

Exit mobile version