المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

لم لا أطيق التطاول على رجل أمن؟

بقلم: د.جمال نزال*

بالإضافة لمشاهد البطولة التي وثقها التاريخ لدور الأمن الفلسطيني في الانتفاضة الثانية وما دفعه لقاء ذلك من ثمن باهظ في الأرواح والمنشآت التي قصفت ب ف 16 والصواريخ تحضرني مشاهد بطولية صامته لن يرقى المزاودون لأدناها. وهنا أستحضر مثالين فقط رأيتمها بأم عيني ويستطيع كل فلسطيني أن يشهد على مثيلهما يوميا تقريبا.
المشهد الأول: خلال المؤتمر العام السابع لحركة فتح شهدت رام الله أسوأ أنواع الطقس الشتوي بعواصف غير اعتيادية جاءت مع منخفض جلب الصقيع والأمطار والرياح الصرصر العاتية لأياد عدة. أصابتني انفلونزا وحمى استمرت عدة أيام. في مساء ما طلبت تاكسي لأتوجه لقاعة أحمد الشقيري لجلسة مسائية من جلسات المؤتمر. كان المطر ينهمر بغزارة كما لو قامت طائرة هيليوكوبتر باسقاط شلالات ماء لإطفاء حريق. توقف التاكسي عند إشارة ضئية حمراء لم يفلح لون النار فيه في بعث الطمأنينة الدافئة وسح فيضان كأنه كلمة من الله لغرض الحساب. نظرت من خلال الزجاج الأمامي وكانت المساحات تعمل بسرعة شفرة طاحونة مولينكس دون أن تفلح في تحقيق الرؤية. نظرت من الشباك على يميني وكان يقف رجل أمن تحت المطر. يرتدي سترة واقية من المطر يطيرها الهواء يمينا وشمالا في ظلام المساء فينعكس عليها ضوء المصباح في الشارع مرة من المين ومرة من الياسر حتى يبدوا كأن الرجل يتماوج كمارد ليلي جاء.
فكرت في نفسي بما أخجلني كثير. لو أعطيت مال الدنيا ما قبلت المكوث تحت المطر هكذا في هذا الظلام. سيكون هذا الرجل آت من محافظة نائية بعيدا عن أهله. ماذا لو اتصلت زوجته لتطمئن عليه لتسأل كيف الحال؟ سيقول الحمد لله كل شيء تمام.
الذين يتطاولون على الكرماء من هذا النوع ليسوا سوى أنذال منحطين ناكرين للجميل قميئين بؤساء ملاعين بلا شرف. ذلك رأيي الرسمي. لأن من يتطاول على مشروع شيهيد ليس فيه من الشرف الوطني ما يملأ أذنه بصاقا أو شعيرا.
وددت لولا الحمى التي كانت تعتريني لو أنزل من السيارة أقبل نعلي هذا الرجل تعبيرا عن شكري واسفي أنني أمر من عنده دون أن أتعب لأجل الوطن كما يتعب الآن.
المشهد الثاني:
توجهت في 2013 من جنين إلى الخليل عبر أريحا. كان الصيف حارقا. من يجتاز أريحا في أوقات الصيف سيعلم أن أغلب أهلها إلى الجنة وإن صادف أن تكون النار مصير أحدهم فمن الأرجح أن يكون عذابه مخففا لأنه نال من حرارة نار الشمس في دنياه نصيبا. في ذلك عزاء لكل من اختار الله مقاما أو رزقا في المدينة الأقدم في العالم. إن صحت المقالة العلمية بأن أريحا أول مدينة في التاريخ سيكون الدفىء هو أول احتياجات الانسانية وقد بحثت عنها ووجدتها الانسانية في أريحا. ولكن هل من المصادفة أن اريحا ليست أكبر المدن الفلسطينية؟ ليست هذه الفكرة بذات أهمية لما سأقول. في 2013 لم يكن لي سيارة شخصية في فلسطين وكنت مع سائق التاكسي. في أريحا قال أمير أريد الفلافل. توقف التاكسي المكيف من الداخل قبالة محل فلافل وترجلت من السيارة المكيفة وكان أمامي شخصان اثنان على الدور طلبا للمأكل. شعرت أن المكان كله محط شواء شمسي لا يحتمل. قد تكون الحرارة أربعين ولا تذكرك بأي شيء فردوسي. قفلت راجها الى االسيارة اتقاء للحر حتى قبل أن اطلب. تمنيت أني فرغ الشخصان الذان أمامي حتى ياتي دوري وانا منتظرا في السيارة. فقد المكيف فاعليته أثناء التوقف. نزلت مرة اخرى أرضك صوب المطعم وهو على بعد ثلاثة أمتار فقط! طلبت بسرعة وانتظرت سبع دقائق تحت الشمس أو سبع سنين.
في الجهة المقابلة كانت دورية للأمن الفلسطيني وقبالتها شرطي يقف تحت الشمس التي خلعت ملابسها الكاملة في يوم لا سحائب فيه أو غيم. شمس عارية من الرحمة أنتجت حرارة في أريحا لا تطاق. لا يبدو على رجل الأمن أنه مولود في أريحا ومعتاد على حرارة شمسها. قد يكون من رام الله مصيف المصايف الفلسطينية مداوما في أريحا مشتى المشاتي الفلسطينية. ثم فكرت: ماذا فعل رجال الأمن في هذه المدينة خلال الانتفاضة أيام الصيف؟ أيام الحرب. في دوام بعيدا عن ذويهم؟
في 2002 وأثناء السور الواقي سيكون مداوما في رام الله رجل أمن فلسطيني في الصيف الحارق وفي مجابهة عسكرية مع الاحتلال.
اليوم يجلس شخص تافة بصالون الحلاقة منتظرا دوره ولا علم في رأسه بأكثر مما في مناخيره من أوضار. يأتي الدور عليه فيطلب من الحلاق أن يحف له حاجبيه., ويميط الشعيرات الصغيرة على وجنتيه, ويحف له سوالفه ويحرق بالقداحة شعر اذنيه, ليضع له الجل على شعره المنكوش. واثناء الانتظار سيفتح صفختي بالفيس بوك ويجد بوست يشيد بالأمن فيكتب تعليقا بذيئا وهو قعيدا الصالون عند المكيف يحف شعر وجنتيه بانتظار البودرة البيضاء لتخفف عن رقبته الحليقة شعطة الشفرة التي كان أولى بها أن تقص منه اللسان.

*عضو المجلس الثوري والمتحدث باسم حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح “

Exit mobile version