المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

صراع القوى الفكري السياسي

بقلم: عمر حلمي الغول

الصراع بين القوى والأحزاب والحركات والمدارس الفكرية والعقائدية لا ضوابط له، مفتوح على مدياته في دحض الرأي الآخر، وكشف عوراته ومثالبه ونواقصه؛ لأن كل قوة تسعى أولا للتأكيد على صوابية خلفياتها الفكرية السياسية واستتباعاتها في المجالات الأخرى؛ ثانيا لفضح وتعرية مواقف القوى الأخرى، وإظهار عيوبها وأخطارها على المستويات الوطنية والقومية على النطاق الداخلي، وفي حالات الصراع بين المدارس الفكرية يتخذ الصراع بعدا إنسانيا أوسع وأعمق؛ ثالثا لاستقطاب الجماهير والنخب ذات الصلة بمسألة الصراع بهدف التفافها حول برنامج هذه القوة أو تلك، أو لدعم مرتكزات هذه المدرسة أو تلك الفرقة الفلسفية الفكرية أو العقائدية (الصراع بين المدارس الفقهية الدينية والطائفية والمذهبية).

كما أن الصراع بين القوى له مستويات متعددة، منها الصراع بين الأعداء على المستويين القومي والاجتماعي الطبقي والديني، الذي يتم تغذيته من قبل القوى الخارجية لتمزيق وحدة ونسيج شعب من الشعوب، أو بين الدول ذات المعتقدات الدينية المختلفة؛ والصراع بين القوى والفرق داخل حدود مجتمع بعينه؛ والأخيرة تنقسم الصراعات بين مركباتها الحزبية لمستويات متعددة وفقا وارتباطا بحدود التوافق والتباين أو التناقض. بعضها يكون التناقض تناحريا أسوة بالتناقض مع الأعداء، وبعضها يكون التناقض غير تناحري، ويبقى في حدود التعارض والتباين.

مع ذلك كل التناقضات لا تسير على وتيرة واحدة، فترتفع أو تنخفض حدتها في سياق تطور العمليات الاجتماعية والفكرية السياسية وما ينجم عنها من أزمات بأبعادها الكفاحية أو الاقتصادية أو الفلسفية الفكرية والعقائدية. وأيا كانت درجة التقارب أو التباعد بين القوى والنخب والأحزاب والفرق، فإن الصراع والتناقض والحراك بين القوى المتناقضة او المتعارضة يتسم بالديمومة وفقا للمقولة الفلسفية القائلة “الحركة دائمة والسكون نسبي”، وهو ما يسهم في تطور أو اضعاف أو نفي الاخر ارتباطا بالشروط التاريخية والمكانية وتطور قوى وعلاقات الإنتاج وانعكاسها على الوعي المجتمعي.

وحتى لا أستفيض في هذه العجالة (المقالة) سأتوقف عند طبيعة الصراع داخل الساحة الفلسطينية عموما، وبين حركة حماس الإخوانية وفصائل منظمة التحرير بخلفياتها الفكرية المتعددة وعلى رأسها حركة فتح. رغم وجود التعارض والتباين بين قواها وفصائلها، بيد أن ما يجمعها وطنيا وقوميا وديمقراطيا كبير وكبير جدا، بعكس التناقض مع حركة حماس، التي وبالرغم من إشهارها راية “المقاومة” بعد اشتعال شرارة الانتفاضة بشهر، تحديدا مطلع عام 1988، وبعد أكثر من عشرين عاما على انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، أضف إلى أنها لم تأتِ كرديف وسند لفصائل وقوى الثورة الفلسطينية، إنما كنافٍ للهوية الوطنية ولمنظمة التحرير، وهناك آلاف الأدلة على ذلك، أولها رفضت الانخراط في القيادة الوطنية الموحدة، كما ترفض الآن ذلك؛ وثانيا شقت الصف الوطني من لحظة تبنيها “المقاومة” عندما رفضت الالتزام ببرنامج ونداءات (قاوم)، وأصدرت بياناتها الخاصة… وصولا لانقلابها على الشرعية في أواسط 2007، وما زالت تصر على التخندق في خنادق الإمارة الإسلاموية في قطاع غزة على حساب وحدة الصف؛ ثالثا رفضت كل الاتفاقات وأوراق المصالحة، رغم توقيعها عليها جميعها، وتذرعت بذرائع واهية لإبقاء حالة الانقسام والتشرذم داخل الساحة الوطنية تنفيذا لأجندة الإخوان وقوى إقليمية ودولية ذات صلة بتصفية منظمة التحرير.

ما تقدم ليس إلا الجزء اليسير من ملامح الصراع الوطني والإخواني الإسلاموي، ما يهمني هنا إبراز سمات وملامح خطاب الجماعة، الذي استهدف ويستهدف بالأساس الشخصية والهوية الوطنية تحت ذرائع ممجوجة ومزورة ومرفوضة من الشارع الوطني كله. لأن خطاب فرع جماعة الإخوان المسلمين ارتكز على مقولات “التخوين” و”التكفير” و”الترهيب” لتبرير الانقلاب وعمليات القتل الجبانة تنفيذا لشعار “ادخل به الجنة”، ولتغطية استمراء خيار الإمارة على حساب المصالح الوطنية العليا. ولا أضيف جديدا عندما أذكر بأن خطاب المجمع الإسلامي في قطاع غزة منذ أواسط السبعينيات من القرن الماضي، وقبل المجمع خطاب مكتب الإرشاد للتنظيم الدولي للإخوان كان ضد مبدأ الكفاح المسلح وانطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، كما كانوا يعتبرون شهداء الثورة لا يمتون للشهادة بصلة، ويطلقون عليهم مفهومهم القذر والإجرامي “فطايس”، مع أن مجموعات منهم حاولوا الاقتراب من الثورة في الأردن، وأقاموا بعض القواعد في الجنوب تحت رعاية وحماية قواعد حركة فتح، بيد أنهم سرعان ما انفضوا عن المشروع الكفاحي، وبقي خطابهم “تخوينيا” للثورة وقيادتها، رغم أن من أطلق شرارة الثورة المعاصرة حركة فتح، التي كان جل قيادتها من مدرسة الإخوان المسلمين، ولكنهم تمردوا عليها منذ البدايات الأولى، ورفضوا خيارها وبرنامجها العقائدي السياسي.

وبعد أن تمت تهيئتهم للانخراط في المشهد السياسي الفلسطيني من قبل التنظيم الدولي للإخوان بالتعاون مع قوى عربية وإقليمية ودولية لسحب البساط من تحت أقدام منظمة التحرير، وتمزيق وحدة الصف الوطني، واصلوا نهجهم وخطابهم “التخويني” و”التكفيري” والتحريضي على حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية بكل مكوناتها مع استثناءات تكتيكية مع بعض الفصائل المشوشة فكريا وسياسيا حتى يوم الدنيا هذا.

وحين يقوم أنصار الدفاع عن الهوية والشخصية الوطنية والثوابت السياسية بتشخيص خلفية ومنطلقات خطاب وممارسات وأهداف التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وفروعه المختلفة بما فيهم وفي المقدمة منهم حركة حماس (أداتهم الضاربة لتنفيذ مخطط الجماعة وأسيادهم الغربيين التمزيقي والتخريبي والتشويهي للنضال الوطني والقومي والديمقراطي، حينما سيدوهم على رأس الثورات الشعبية العارمة في دول الوطن العربي: في مصر وسوريا وتونس وليبيا والجزائر والمغرب والعراق والأردن والسودان والصومال والخليج العربي) يخرج بعض أصحاب الرؤى الوسطية، أو المتوجسة من تداعيات كشف حسب ونسب وخلفيات تلك الفروع، والغيورة بطبيعة الحال على المصالح الفلسطينية لإعلان استيائهم وعدم تفهمهم من كشف حقيقة قادة الحركة والجماعة على حد سواء، في الوقت الذي لا ينطقون ببنت شفة على خطاب أولئك التكفيريين، ولا يوجد تبرير علمي لذلك..

وقبل أن أختم، بودي أن أذكر كل من يخشى من فضح وتعرية خطاب حماس ومن لف لفها من القوى المتورطة في أجندات متناقضة مع مصالح الشعب العليا، ان المصلحة الوطنية تحتم إزالة المساحيق والمكياج وأدوات التجميل المختلفة عن وجه الجماعة عموما وحركة حماس خصوصا. وهذا لا يتعارض مع الدعوة للوحدة الوطنية. لأن حماس ليست أولا بوارد المصالحة الوطنية؛ ثانيا في حال توطنت في المشروع الوطني بالضرورة سيتم إعادة النظر في الخطاب الفكري السياسي. لكن دون أن يسقط حق كتاب الرأي الوطنيين والديمقراطيين من كشف المستور في ارتباطاتهم وأجنداتهم المشبوهة واللا وطنية، ومحاكاة تجربتهم وانزلاقاتهم الخطيرة والمهددة للمشروع الوطني.

كما أنني أود أن أشير لبعض النماذج في الصراع السياسي بين القوى والرموز في عدد من الدول، لنأخذ القوى والأحزاب الصهيونية من مختلف المشارب والصراع بينهم، الذين يتقوقعون ويتخندقون في ذات الحركة الصهيونية الاستعمارية الرجعية، عندما تشتد الاختلافات فيما بينهم لا يتركون مفردة ولا مصطلحا تخوينيا او تكفيريا او تشويهيا الا ويستخدمونه في مواجهة بعضهم البعض، ولكن عندما يجد الجد يعودون جميعا للعمل سويا لخدمة مشروعهم الكولونيالي. نموذج آخر، النموذج الأميركي والصراع بين أقطاب الحزبين الجمهوري والديمقراطي عموما ومرشحي الرئاسات خصوصا يستخدمون ضد بعضهم البعض أبشع التوصيفات، ومع ذلك عندما تستدعي الضرورة الدفاع عن المصالح الأميركية تجدهم في خندق واحد. نموذج ثالث النموذج الفرنسي، الذي شاهدناه خلال الحملات الانتخابية الأخيرة بين مرشحي الرئاسة وما حملته من ردح وقدح وذم وشخصنة، بيد أنهم بعد الانتخابات يلتزمون جميعا بالنتائج، وقد يعملون سويا؛ والنموذج الفلسطيني ليس استثناء، ومن يريد الوحدة الوطنية عليه أن يملك الشجاعة لمحاججة كل القوى دون استثناء وفي المقدمة منها حركة حماس. والواجب يملي على كل وطني غيور على المشروع الوطني والممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، منظمة التحرير إماطة اللثام عن وجه حركة حماس الحقيقي دون رتوش وبلا مساحيق، طالما بقيت في خنادق الإمارة، وترفض العبور لبوابات المصالحة، وتهدد المشروع الوطني برمته. وعندما يعودون لجادة الوطنية ويبتعدون عن مدرسة الاخوان التكفيرية، التي لا تعترف بالأوطان والوطنية ولا بالقومية ولا بالمواطنة ولا بالمساواة والتسامح بين أبناء الشعب الواحد، ستكون المحاكاة مختلفة. وبالنتيجة وصفهم بسماتهم، وكما هم في الواقع لا يعطل المصالحة إن جنحوا لها. فهل يدرك أولئك الوطنيون أهمية وضرورة المكاشفة والمصارحة مع القوى والحركات والفصائل؟.

oalghoul@gmail.com

Exit mobile version