المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

كنعانيون وأيضاً صليبيون: الفخ المأساوي لإسرائيل

بقلم: دافيد اوحنا

“الآن انتهيت للتوّ من قراءة كتابك “فوق ارض حجرية”، وهو استمرار ممتع لكتابك “لا كنعانيون ولا صليبيون” (في الواقع يمكن أن نسمي كتابك بالتأكيد “كنعانيون وأيضاً صليبيون”)، هذا ما كتبه عاموس عوز في 26 تشرين الثاني 2017
في أعقاب حرب الأيام الستة تحولت مناطق الضفة الغربية المأهولة بفلسطينيين الى مناطق استيطان يهودي كولونيالي. إسرائيل كدولة شحن أرسلت مستوطنين لإقامة مستعمرات وراء الخط الأخضر، خارج حدودها السيادية. في منتصف السبعينيات كان اعضاء غوش ايمونيم هم الجيش الطليعي للاستيطان الكولونيالي في قلب مناطق فلسطينية، مثلما اقام الصليبيون الأوروبيون في منتصف العصور الوسطى المستوطنات في بلاد الشام.
هذه ليست ظاهرة سياسية عابرة، بل نقطة انعطاف تغير توجهات المفكرين الصهاينة والمستوطنين الاوائل، حيث أن منطق إقامة دولة إسرائيل مشوه تماماً. حيث أن المنطق الصهيوني الذي هو في اساس اقامة دولة إسرائيل كان أن الآخرين (الأغيار) لن يحكموا اليهود، واليهود لن يحكموا الآخرين. سلالة جينية تحدث الآن في الجسم الصهيوني، اكثر من نصف مليون إسرائيلي يعيشون خارج الحدود المعترف بها للدولة، وهذه الحقيقة اصبحت اقرب من أي وقت مضى من النبوءة بأن حدود إسرائيل ستمتد من البحر وحتى نهر الأردن.
بالتحديد باقامة دولة إسرائيل لم يلتصق الخطأ الأساسي (الصليبي). الإسرائيليون الأوائل لم يعتذروا عن وجودهم القومي، بل اعتبروه تجسيداً تاريخياً لحق عالمي معترف به دولياً. المقارنة الصهيونية – الصليبية التي قام بها المفكرون والسياسيون اثبتت في أحيان كثيرة بأن المستوطنين اليهود (الرواد) لم يتم إرسالهم نيابة عن بلادهم الاصلية، دوافعهم كانت بناء إنسان حر يتحكم بمصيره، وعاد الى وطنه التاريخي، ويمقت الاضطهاد اللاسامي ويطمح الى أن يشبه جيرانه القدامى الذين جميعهم اصحاب سيادة في بلادهم.
لقد ابتعدوا عن نمط مشهد دينهم وأصبحوا وطنيين في وعيهم الحديث. هم لم يعتكفوا في الجبل ولم ينغلقوا في حصن، بل تم اعتبارهم مجتمعاً شرق اوسطي مزدهراً وطوروا استيطاناً وعلوماً وتكنولوجيا ورسخوا (في حرب تحرير دموية انتهت بهرب وطرد معظم الفلسطينيين من سكان البلاد الاصليين) أغلبية مطلقة في سكان البلاد وبلوروا هوية مستقلة وثقافة وطنية ولغة عبرية (في الـ 200 سنة استيطان افرنجي لبلاد الشام دخلت فقط 30 كلمة عربية الى اللغة اللاتينية للكولونياليين). وفي صراع عسكري مستمر نجحوا في اقامة نظام ديمقراطي ثابت، الامر الذي منح حقوق مواطنة (في الواقع بالقطارة ويد مقبوضة) للاقلية القومية التي تعيش في وسطهم. هذا باستثناء سنوات الحكم العسكري، سنوات الدولة الأولى التي ولدت للتو، وكانت عديمة الأمن والثقة بالذات مقابل جيرانها الذين لم يعترفوا بشرعية وجودها.
المؤرخ ب. ز كيدار كتب في مقال بعنوان “العامل الصليبي في الخطاب السياسي الاسرائيلي” (مجلة 2000 – 2004) بأن “هناك مكاناً لبحث مقارن لدرجة الحاجة الى مقارنة واخذ عبر تاريخية في بلاد وعهود مختلفة”. مقارنة جيدة ستطرح اسئلة وتثير نقاشاً، والتشابه بين الصليبية والصهيونية هو موشور يمكن من خلاله فحص الفرق بين الحركة الصهيونية والحركة الاستيطانية.
هكذا، خلافاً للصهيونية، فان المستوطنين الايديولوجيين يشبهون في حالات كثيرة الصليبيين. أولاً، الحركتان وضعتا في اساس مشروعهما التفوق الديني. الرؤية الدينية سبقت الرؤية القومية، ودمجها معا خلق رؤية دينية سياسية، اهدافها الدينية والكولونيالية تم تحقيقها بوسائل سياسية. استجاب الصليبيون الاوائل لنداء البابا اوربانوس الثاني، لتحرير القبر المقدس في القدس من أيدي الكفار المسلمين الذين سيطروا عليه، “هذه ارادة الله”، التي تم اسماعها في مجلس كلرمون في 1095. استجاب المستوطنون للحاخام تسفي يهودا كوك، الذي قام بالبكاء في “مركز الراب” في يوم الاستقلال في 1967 على ضياع ارث السابقين (الذي سيطر عليه المسلمون).
سارع المستوطنون بعد ثلاثة اسابيع الى اعادة المجد الى سابق عهده وبدؤوا في توطين حدود البلاد الكبيرة مثل الصليبيين، على الجبل وفي الحصن منغلقون ومنفصلون عن سكان البلاد الاصليين. حنان بورات، الذي كان موجوداً اثناء خطاب الحاخام كوك، كتب مقالاً مقدساً وبدأ يقول: “يمكن أن نعيد إسماع قصيدة المسيرة الكبرى التي فيها يقودنا الله في الطريق التي تصعد الى البيت: كل شعب إسرائيل لكل ارض إسرائيل وفي مركزها قدسنا، هي معبد المدينة الملكية”. ايضاً البابا اوربانوس رفع مكانة القدس الى درجة ما سماه “سرة العالم”. بادعائه أنها المدينة الاهم للكاثوليكيين سرقت ويجب أن نرسل اليها الفرسان.
غاب اساس لاهوتي كهذا عن مؤسسي الصهيونية وعن المستوطنين الاوائل في فلسطين (ارض اسرائيل) وعن الاسرائيليين حتى العام 1967. الحركة الصهيونية والاسرائيلية الاولى كانت علمانية بالأساس، وحتى أن التيارات الدينية الهامشية قبلت الافتراض الأساسي الذي يقول بأنه يجب فصل الدين عن الدولة، والمشروع الصهيوني كان يفتقر الى العنصر المتسامي.
برز في التفوق الديني للصليبيين والمستوطنين الأساس المسيحاني. قال البابا في خطابه التأسيسي في كلرمون إن الحرب من أجل الأرض المقدسة المسلوبة والمدنسة هي حرب جميع المسيحيين: “ليكن الآن جنود المسيح، اولئك الذين كانوا حتى الآن لصوصاً”. في رؤيا يوم القيامة في المسيحية فإن المناوئ للمسيح سيخضع له، الذي عاد ليؤسس مملكة الشياطين على الأرض. انتقد أوربانوس حروب النبلاء ودعاهم للقتال من أجل المسيح لأن الفرنجة هم شعب الله المحبوب والمختار.
صحيح أنه في الصهيونية كان أساس مسيحاني، لكنَّ شبيهاً بأنبياء الحركات القومية الاوروبية، برز لدى رؤسائها من هرتسل وحتى بن غوريون البعد العالمي وأضيفت اليه اسس علمانية وبراغماتية. في حين أن المستوطنين الأيديولوجيين حصلوا على الإلهام من الديالكتيك الذي رسمه الحاخام أبراهام اسحق هكوهين كوك، الذي فيه الله جلب القوميات من اجل الحفاظ على الدين ومنح التوراة للشعب المختار. حسب رؤيته تبرز فرضية المناوئ للمسيح: التفسير المسيحي الديني لدولة إسرائيل يمنح اهمية للكارثة، حيث أنه في نهاية المطاف مثل عمق السقوط الشيطاني سيكون عظم الخلاص المسيحاني.
في “المسيحانية الحتمية” لغوش ايمونيم حدث تطرف، وهذا انعكس في الانتقال من الضرورة التاريخية على صيغة الحاخام كوك الى تفعيل للتاريخ بأسلوب ابن الحاخام كوك. إبعاد النهاية انعكس في احتلال كل ارض إسرائيل والاستيطان فيها. كشف هذا التطرف انتقالاً من البعد العالمي، الميتافيزيقي السحري للمسيحية، الى البعد الخاص، القومي الإسرائيلي، بعد ان مر بتهويد على شكل الطلائعية الاستيطانية.
لم ينغلق الفيلق الرائد في غوش ايمونيم، الذي كان على مستوى من اللاهوت السياسي المسيحي، وراء ابواب معايير المعسكر الديني، بل قاد دولة بأكملها الى عملية دراماتيكية ومصيرية جدا في تاريخها. دولة اسرائيل، التي نجحت في اقامة هذا القدر أو ذاك من الديمقراطية الليبرالية وجالية يهودية حرة ونجحت في التعامل مع اقلية عربية تشكل نحو خمس سكانها، تشق الآن طريقها لتصبح دولة واحدة فيها قوميتان متطرفتان لم تعرفا في أي يوم الهدوء في المئة سنة الاخيرة.
يقول أصحاب النوايا الحسنة لدينا بأن الحل هو إقامة دولة مدنية مشتركة. ولكنهم بسذاجتهم السياسية يتجاهلون اليمين السياسي في إسرائيل والمستوطنين الأيديولوجيين الذين لن يوافقوا في أي يوم على إعطاء مواطنة متساوية لـ 4.6 مليون فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. وإبقاء الفلسطينيين في مكانة مواطنين من الدرجة الثانية سيؤسس بالتأكيد دولة ابرتهايد يهودية. يمكن أن العنوان الذي اقترحه عاموس عوز “كنعانيون، وأيضاً صليبيون” هو افضل ما يميز الفخ المأساوي الذي سقطت فيه دولة إسرائيل.

عن “هآرتس”

Exit mobile version