المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

تجارب شبابية في مواجهة “اليأسين”

بقلم: معن بشور

حين أطلق المؤتمر القومي العربي الأول المنعقد في تونس في ربيع عام 1990، فكرة تنظيم مخيم سنوي للشباب القومي العربي كإطار مواز للمؤتمر نفسه، تأكيداً على فكرة التواصل والتفاعل والتكامل بين الأجيال والأقطار، كان يحرّكه هاجس مواجهة موجتين من اليأس كانتا تسودان الوطن العربي آنذاك، أولهما اليأس من العروبة واعتبارها من مخلفات الماضي والعمل على إحياء كل العصبيات الطائفية والمذهبية والعرقية كبديل عنها، بما يسمى “الهويات الفرعية” في مواجهة الهوية الجامعة.

وثانيهما اليأس من شباب الأمّة وتصويرهم كشباب غارق في مشكلاته وملذاته الشخصية، وأنه بعيد عن أي شعور بالمسؤولية تجاه وطنه وأمّته رغم أن شباب فلسطين كانوا يومها يخوضون انتفاضة الحجارة، كما أن شباب لبنان كانوا يقاومون الاحتلال الصهيوني في مواجهات لم تتوقف حتى التحرير عام 2000.

وفي وجه “اليأسين” كانت فكرة مخيم يجمع شباب الأمّة من المحيط إلى الخليج تحت راية العروبة، وهي فكرة وجدت من يحملها ويرعاها ويحرص عليها ويوفر لها إمكانيات الاستمرار على مدى ثلاثين سنة ونيّف ليخرج من صفوف الشباب قادة في سائر مجالات الحياة، سواء في قيادة الحراك الشعبي في بلادهم قبل أن يتم “السطو” عليه وتحويله باتجاهات مغايرة، أو مسؤولين في أحزابهم وبرلماناتهم، أو حتى بعض المبدعين والحكماء، وممييزين في علومهم وثقافتهم.

أما الهاجس الأكبر الذي كان يحرّك الأباء المؤسسين للمخيم وفي مقدمتهم الراحل الدكتور خير الدين حسيب رئيس مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية، فهو كيفية ترجمة المشروع النهضوي العربي وعناصره الست إلى حقيقة في حياة الأمّة، بحيث لا يبقى مجرد نص جميل تتداوله بعض المنابر والأقلام.

في هذا الإطار جاءت تجربة مخيم يجمع شباباً وشابات من أقطار الأمّة كافة في إطار من التحاور والتواصل والتفاعل ترجمة عملية للمشروع النهضوي العربي.

فالوحدة العربية يجري تجسيدها في هذا الاجتماع السنوي لشباب وشابات من مختلف أقطار الأمّة، يخرجون بعد أيام أمضوها معاً في رحاب المخيم وكأنهم عائلة واحدة، ويصبح لكل شاب أو شابة صديق أو أكثر في كل قطر عربي فتقام جسور التواصل في وجه الحواجز والحدود والعصبيات التي يحرص أعداء الأمّة على إقامتها.

وفكرة الاستقلال الوطني والقومي يتم تجسيدها على مستويين الأول عبر تبني الشباب لكل قضايا التحرر في الأمّة، لاسيّما قضية فلسطين الجامعة التي لم تغب يوماً عن دورات المخيم على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، وكذلك الأفكار المرتبطة بالمقاومة في سبيلها.

أما المستوى الثاني فهو استقلالية هذا العمل عن أي جهة رسمية أو حزبية رغم ما تسببه هذه الاستقلالية من صعوبات ومشكلات واجهها القيّمون على هذه التجربة منذ سنواتها الأولى حتى اليوم، فالإمكانيات المتوفرة شحيحة، والوسائل المتاحة محدودة، ومشكلات الدخول إلى أي قطر معقدة في ظل تأشيرات ملعونة بين أقطار وطن عربي واحد.

ومع كل ذلك فالمخيم الذي انطلق من مركز عمر المختار في البقاع اللبناني في 23/7/1990، في ذكرى ثورة يوليو، وأقيم بعدها في اليمن والأردن وتونس والمغرب ومصر وسورية والعراق والسودان وليبيا، أكّد أنه بقوة فكرته، وحكمة المشرفين عليه، وابتعاده عن الاصطفافات المعروفة في السياسة العربية، تمكّن من أن يفتح لنفسه أبواب العديد من الدول العربية على أمل الإنعقاد في كل أقطار الأمّة التي تجمعها راية العروبة الحضارية العميقة الجذور في تراث الأمّة وإيمانها ورسالاتها السماوية.

أما فكرة الديمقراطية وهي العنصر الثالث في المشروع النهضوي العربي، فقد جرى تطبيقها بشكل واسع في العلاقات داخل المخيم الذي توزع المشاركون والمشاركات فيه على مجموعات تختار كل مجموعة رئيساً لها بالانتخاب وإسماً لها من أسماء رموز أو مدن أو معارك، أو مبدعين من عناوين الأمّة، وحيث يتشكّل من رؤساء المجموعات نوعاً من “مجلس ادارة” للمخيم يناقش كل ما يتعلق بسيره.

فكرة التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية لم تكن حاضرة في المحاضرات والنقاشات الدائرة في المخيم فحسب، بل باتت قيماً وأهدافاً يتم زرعها في عقول المشاركين ونفوسهم بحيث يسعى الجميع إلى تنمية طاقاته كجزء من التنمية المستقلة، وإلى الانتصار للعدالة أينما واجه ظلماً اجتماعياً أو سياسياً.

أما عنصر التجدد الحضاري الذي هو من ركائز المشروع الحضاري العربي فقد جسّد شباب المخيم في فهمهم العميق للعلاقة بين الأصالة التي تشدّهم إلى جذورهم الروحية العميقة وبين المعاصرة التي ترتقي بهم إلى مواكبة روح العصر ومتطلباته.

ولعل من تجليات فكرة التجدد الحضاري التي حملها مشروع المخيم، كأحد أهم مرتكزاته، هو أنه كان مفتوحاً منذ دوراته الأولى للشباب والشابات معاً في إطار من الضوابط الأخلاقية والتقاليد المعروفة في مجتمعنا مما كان يعتبر تحدياً لعقليات سائدة تسعى إلى الفصل غير المبرر بين الرجال والنساء الذين تجمعهم أمة عربية واحدة ويحملون هموماً واحدة ويواجهون تحديات واحدة.

لم تكن تجربة الشباب القومي العربي هي التجربة الوحيدة التي خرجت من رحم هذه البيئة القومية العربية التي تضم المؤمنين بالمشروع النهضوي العربي إلى أي تيار عقائدي أو فكري انتسبوا، بل نشأت في رحمها مبادرات شبابية عدّة، كندوة التواصل الفكري الشبابي العربي التي انطلقت بمبادرة من المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن والمنتدى القومي العربي عام 2010، وتنعقد سنوياً في بيروت ويمارس فيها المشاركون إدارتهم الكاملة للندوة وتقديم أوراقها ومناقشاتها.

ومن رحم هذه التجربة أيضاً ولدت قبل عام فكرة الملتقى الشبابي التضامني السياحي العربي الذي ينظم زيارات شبابية عربية لأقطار متعدّدة ولعدّة أيام يتم خلالها التعرف على أقطار الأمّة ومعالمها التراثية والسياسية والسياحية والعمرانية.

ولعل من الأمور المهمة التي تميّزت بها هذه المبادرات الشبابية، كما غيرها من المبادرات القومية، هو أن المشاركات والمشاركين فيها يتحملون نفقات سفرهم كاملة، مما يسهّل على هذه المبادرات نجاحها وتأمين درجة عالية من الاعتماد على النفس والاستقلالية في العمل.

لقد حرص مطلقو تجربة العمل الشبابي القومي العربي بكل أطره على التأكيد أنه ليس من المهم أن يدخل الشباب إلى المخيم أو غيره من الأطر المماثلة وهو قومي عربي، بل المهم أن يخرج منها قومياً عربياً مؤمناً بالمشروع النهضوي العربي.

ـــــــــــــ

• كلمة القيت في ختام ندوة رقمية عقدها “مركز الحوار العربي في واشنطن” وشارك فيها الأخوة عبد الله عبد الحميد، ومحمد إسماعيل، هزرشي بن جلول، وخالد المسالمة وعدد من المشاركات والمشاركين في دورات المخيم المتعاقبة ومن أقطار عربية عدة.

لمشاهدة الفيديو

Exit mobile version