المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

بين إعلان الاستقلال وتجسيده الفعلي

بقلم: نهاد أبو غوش

في الذكرى الرابعة والثلاثين لإعلان الاستقلال الفلسطيني، حفلت مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المنتديات الواقعية والافتراضية، بموجة واسعة من التندر والتهكم والتنمر على هذه الذكرى ودلالاتها، إلى درجة وصفِها بالفاظ بذيئة، ومسيئة بالحد الأدنى من قبيل: كذبة الاستقلال، ووهم الاستقلال، والاستقلال الزائف وما إلى ذلك من شتائم على المناسبة والمحتفلين بها. وحتى على من أطلق الإعلان وهي القيادة التاريخية للشعب الفلسطيني وعلى رأسها الشهيد ياسر عرفات، على الرغم من أن القسم الأكبر ممن شاركوا في إطلاق الإعلان أصبحوا في ذمة الله ومن بينهم شاعرنا الكبير محمود درويش الذي تولّى الصياغة الأدبية للإعلان.

كان يمكن تفهّم بعض هذه الاعتراضات لو أنها كانت موجهة للجوانب الشكلية لإحياء الذكرى التي تأتي غالبا على حساب مضمونها النضالي، من قبيل تعطيل المدارس والدوائر الرسمية بدل ان يخصص هذا اليوم للقيام بفعاليات وطنية واسعة تؤكد معنى الاستقلال، مثل تخصيص حصص دراسية عن المناسبة، والقيام بفعاليات وطنية وجماهيرية، وتكريم المناضلين والشهداء والأسرى، والمسيرات والفعاليات الكفاحية والعمل التطوعي، أو لو جاء الانتقاد لحالة الإغراق في الشكليات والمراسيم كالتفنن في إطلاق ألقاب الفخامة والتعظيم وصفات المعالي والعطوفة والسعادة التي لا معنى لها في نظام يقدر مبدأ المواطنة ويحترم قيم المساواة بين أفراده، وينظر للوظيفة العمومية باعتبارها خدمة للجمهور، وكذلك مظاهر الأُبَّهة و” الهيلمان” التي تحيط بكبار المسؤولين من مواكب مرافقين ومساعدين وسيارات فارهة بينما نسبة عالية من شعبنا تكابد ضنك العيش والعوز وتعاني من ارتفاع نسب الفقر والبطالة.

ولكن للأسف انصبت الانتقادات ومظاهر السخرية على الإعلان نفسه، وعلى دلالاته وتوقيته، مع أن معظم هؤلاء الساخرين لم يجتهدوا كثيرا في اقتراح البدائل، هل نقبل بالاحتلال مثلا كمصير نهائي وقدر كتب على شعبنا؟ أم نشحذ الهمم ونشد الحيل ونغذّ الخطى لإيجاد بدائل نضالية تقودنا إلى الاستقلال الفعلي في اسرع وقت ممكن؟

ليس سرا أن إعلان الاستقلال الفلسطيني جاء في ذروة حالة نضالية فلسطينية ناهضة ومميزة، هي الانتفاضة الكبرى التي بدأت في نهاية العام 1987، وقدمت نموذجا فريدا على المستوى العالمي للنضال الجماهيري الواسع، حتى أن لفظ “الانتفاضة” دخل قواميس كثير من اللغات العالمية للدلالة على هذه الحالة النضالية الاستثنائية، كما وفّرت الانتفاضة إجماعا شعبيا قلّ نظيره على أهداف العمل الفلسطيني وشرعية قيادته التاريخية. كما تزامنت مع نموذج مميز للوحدة الوطنية التي لم تقتصر على قيادات القوى والهيئات السياسية بل تجسدت أولا في ميادين الكفاح، فجاء إعلان الاستقلال ليتوّج هذه الحالة، ويرسم هدفا واقعيا وملموسا وقابلا للتحقيق للنضال الوطني الفلسطيني بدلا من الأهداف العامة والمطلقة. وهذه الأهداف التي رسمها إعلان الاستقلال ساهمت في استقطاب أوسع تأييد عالمي للنضال الفلسطيني وهو ما تمثل في سيل الاعترافات العالمية بدولة فلسطين، اعترافات ما زالت تمثل مكسبا سياسيا للشعب الفلسطيني ويمكن توظيفها لقطع الطريق على مخططات أو مؤامرات للاحتلال وداعميه للقضاء على خيار الاستقلال الناجز.

يمثل إعلان الاستقلال وثيقة دستورية في غاية الأهمية لطبيعة النظام السياسي الذي يناضل الفلسطينيون لتحقيقه، وهو نظام قائم على التعددية ويصون الحريات العامة، ويطمح لبناء نظام عصري قائم على استقلال القضاء والعدل الاجتماعي والمساواة وعدم التمييز في الحقوق على أساس الدين واللون والعرق او بين الرجل والمرأة، وهي مبادئ متقدمة جدا حتى بمعايير الوقت الحالي وبعد إقرار عديد المعاهدات والاتفاقيات الدولية، وسوف تحتفظ هذه الوثيقة بأهميتها التاريخية كصيغة مرجعية ودستورية لأية قوانين وأنظمة مستقبلية قد تمس الحقوق والحريات العامة. كما ترصد وثيقة إعلان الاستقلال علاقة الشعب الفلسطيني بأرضه وتضحياته من أجلها وصموده في وجه كل التحديات فتشكل بذلك مادة تعبوية وسلاحا معنويا للأجيال المتلاحقة من الفلسطينيين والفلسطينيات.

من المعروف ان سلسلة من الأحداث والتطورات الدولية والإقليمية التي لم تكن في صالحنا طرأت بعد الإعلان بسوات قليلة فساهمت في مزيد من الإخلال بموازين القوى لغير صالح شعبنا ونضاله من أجل الاستقلال، أبرز هذه الأحداث كان انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية وخسارة جبهة دولية كانت على الدوام إلى جانب شعبنا وسائر الشعوب المقهورة وحركات التحرر، وكذلك حرب الخليج واحتلال العراق، ثم بدء مسيرة التسوية على أساس مؤتمر مدريد واتفاقات أوسلو في ظل الاختلال الفادح في موازين القوى، واستفراد الولايات المتحدة في رعاية ما أسمي بعملية السلام، وقد ثبت للقاصي والداني أنها رعاية بعيدة عن النزاهة والحياد، ومنحازة بشكل مطلق لإسرائيل ومعادية لشعبنا وقيم العدالة والشرعية الدولية.

وكأننا لم نكتف بالظروف الدولية والإقليمية التي أعاقت استقلالنا، فكان لا بد من ان نساهم بأيدينا في زيادة معاناتنا من خلال الانقسام البغيض وسوء الأداء وانتشار مظاهر الفساد والمحسوبية والقمع والاستبداد وغياب الحريات والرقابة وتعطيل دور المؤسسات وتقديم نموذج رثّ للأداء الفلسطيني وكاننا غير قادرين على إدارة شؤوننا بأنفسنا.

يجدر بنا وبكل من يملك حسا نقديا أن ينتقد العوامل التي أضعفتنا وأعاقت قدرتنا على تحقيق الاستقلال، أو ساهمت في إطالة أمد معاناتنا وجعلت هدف الاستقلال يبدو كالسراب كلما قدمنا مزيدا من التضحيات وحسبنا أننا اقتربنا منه يبتعد عنا ويبدو أصعب من ذي قبل!

للتذكير والتأمل: المشروع الصهيوني قبل إعلان دولته أنشا الجامعة العبرية، ومعهد التخنيون، ومعهد وايزمان، والمكتبة الوطنية الإسرائيلية، وأنوية الجيش والهستدروت، والأحزاب والصناعات الحديثة وغيرها من منشآت البنى التحتية وبعد ذلك ركّب الدولة، أما نحن فيبدو أننا بدأنا ب”الشقلوب” أي بالمراسم والمظاهر وألقاب التفخيم والسجاد الأحمر!

Exit mobile version