المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

عن الشيخ متولي الشعراوي

كتب: عبد الغني سلامة

بدءاً من سبعينيات القرن الماضي سيتكاثر المشايخ والخطباء، وستمتلئ الأرصفة بكتب «سيد قطب» و»أبو الأعلى المودودي»، وكاسيتات «الشيخ كشك» و»عمر عبد الرحمن»، وستتحول الجوامع والجامعات إلى مراكز استقطاب للتنظيمات الإسلامية، وستصبح مناطق نفوذ لها، وسيظهر الرديف الأكاديمي لهذا التوجه الشعبوي (محمد عمارة، عبد الوهاب المسيري، الغزالي)، ثم سيأتي الرديف العلمي (زغلول النجار)، أما الأكثر أهمية وحضوراً فسيكون للحضور التلفزيوني (مصطفى محمود، الشيخ الشعراوي).
وسيظهر دعاة وخطباء في دول عربية أخرى، لكن من بين هؤلاء سيكون الحضور الأبرز للشيخ الشعراوي ومصطفى محمود، وستكون لهما الحظوة في قلوب الملايين.. بالرغم من وجود علماء دين أوسع ثقافةً وأعمق فكراً منهما، فمثلاً يعترف الشعراوي بأنه لم يقرأ كتاباً واحداً طيلة حياته، باستثناء القرآن الكريم.
في تلك الفترة كان التلفزيون الوسيلة الإعلامية الأهم والأكثر شعبية، وبلا منافس.. وقد اختير موعد بث الحلقة الأسبوعية لهما بعناية، بعد صلاة الجمعة، وفي موعد اجتماع العائلة الأسبوعي على مائدة الغداء، وفي فترة المساء في منتصف الأسبوع.. يسبق البرنامجين موسيقى حزينة تثير الشجن (وهي الموسيقى المصاحبة دوماً لكل ما له علاقة بالدين!)، ما يثير العاطفة، ويهيئ النفس لاستقبال المحتوى بالقبول، ومن هنا اقترن البرنامجان بالوجدان الشعبي، وصارا من علامات الزمن الجميل، والتي تثير الذكريات العائلية، حتى ارتقيا إلى مرتبة من القداسة الدينية بحيث يصعب توجيه أي نقد لهما.
جمهور البرنامجين من عامة الناس، وأكثرهم يتلقون المحتوى بالتسليم، دون التدقيق في التفاصيل، فكان الشعراوي يتناول القرآن بالتفسير، معتمداً على براعته اللغوية، ومهارته في استخدام لغة الجسد، ومحاكاته للعواطف.. بينما كان مصطفى محمود يعتمد أسلوب الإلقاء الهادئ، متكئاً على مصطلحات علمية، وبلغة سهلة لتبسيط العلوم، جاعلاً من كل ظاهرة علمية جزءاً من الإعجاز العلمي للقرآن، مع الأخذ بعين الاعتبار أن البرامج الوثائقية كانت آنذاك مقتصرة على الدول الغربية، وباللغات الأجنبية، ولم تصل للجمهور العربي بعد، فكان يترجم بعضاً منها، ويعلق على الصورة بشرح مختصر، وأحياناً مكتفياً بقول: سبحان الله.
ولا أناقش هنا محتوى ومضمون البرنامجين، فربما لا أكون مؤهلاً لذلك، لكن ما أناقشه علاقة الرجلين بالسلطة، وأثرهما على حركات الإسلام السياسي، وكيف وظفتهما لمصالحها الحزبية وتوسيع انتشارها الأيديولوجي، بنزعة وهابية.
بالنسبة للرئيس السادات، فقد بلغ مبتغاه، حين بارك الشعراوي الصلح مع إسرائيل، وحين دافع عنه في استجواب لمجلس الشعب، قائلاً: «لو كان لي من الأمر لحكمت لهذا الرجل بألا يُسأل عما يفعل». وكان الموضوع حينها عن فساد سكرتير المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية توفيق عويضة، إلا أن الاستجواب تعرض للسادات، واتهمه بالتستر على الفساد. حتى أن موقف الشعراوي أثار حفيظة الشيخ عبد الحميد كشك، الذي وبخه قائلا: «ماذا ستقول لربك غداً يا شيخ شعراوي؟ من الذي لا يُسأل عما يفعل يا شعراوي؟
وكان السادات قد منح الشعراوي في 1976 وسام الاستحقاق المصري من الدرجة الاولى، وفي نفس العام، عيّنه وزيراً للأوقاف ووزير دولة لشؤون الأزهر في الحكومة التي رأسها ممدوح سالم، وظل في منصبه (بحقيبتين وزاريتين) إلى ما بعد توقيع كامب ديفيد، أي أنه كان ركناً من النظام آنذاك.
إضافة إلى موقف الرجلين المؤيد للسلطة، الأكثر أهميةً مما كانا يقدمانه في برنامجيهما: تلك الرسائل الضمنية والخفية، وما يقولانه بين السطور، والأهم ما لم يقولانه، وسكتا عنه.. ومعيارنا في الحكم هنا نتائج ذلك كله على الجيل، والذي لا يحتاج للكثير من الشرح.
أما عن التوظيف السياسي للبرامج الدينية عموما من قِبل الإخوان وغيرهم من الحركات السياسية، فيمكن القول إن تلك البرامج كانت توفر العجينة الأولية، التي سيستخدمها كل حزب حسب توجهاته. وللتوضيح: يمكن لكل خباز أن يصنع من نفس العجينة ما يشاء من منتجات متنوعة (خبز، بيتزا، منقوشة زعتر، معجنات جبنة، صفيحة لحمة..) كلها تأتي من العجينة ذاتها، وقبل تشكل العجينة هناك من يزرع القمح، ومن يحصده، ومن يطحنه، ومن يبيعه.
ما تقوم به البرامج الدينية هو خلق البيئة التي تهيئ الشبان لاستغلالهم من قبل الحركات السياسية، وتهيئ الحكومات الاستبدادية للهيمنة عليهم، فالحركات الأصولية تعتمد في نجاحها وانتشارها على توفر بيئة شعبية متدينة، لتقوم هي بصياغة فهم مغاير للدين، واستغلال العاطفة الدينية لدى الجمهور (وخاصة الشبان المسحوقين، والباحثين عن خلاص)، وتجنيدهم في مشروعها السياسي.
أما النظم الاستبدادية فستكون مهمتها أسهل للسيطرة على الدولة ومقدراتها وعلى الشعب وتوجهاته حين يكون المجتمع خاضعاً لسلطة دينية (هي في حقيقة الأمر جزء من هذا النظام)، فتقوم تلك السلطة الدينية بإخضاع الشعب، عبر تقنيات عديدة، وأهمها إشغاله في معارك ثانوية.
وما حصل فعلياً في مصر (وأغلب البلدان العربية) دخول هؤلاء المشايخ والدعاة ونجوم البرامج الدينية في سباق محموم للاستحواذ على عقول وأفئدة الشبان.. أما تيارات الإسلام السياسي فصار همها التغلغل في الجامعات والنقابات، والسيطرة على المناطق الشعبية.
ولإشغال الشارع في القضايا الهامشية تم إدخال مصطلحات ومفاهيم جديدة إلى قاموسه: الولاء والبراء، المجتمع الجاهلي، قتل المرتد، دفع الجزية، تحريم السياحة، لباس النساء، الحجاب والنقاب، الفنانات المعتزلات، تطبيق الشريعة، الحاكمية لله، دار الإسلام ودار الكفر. لتصبح تلك المفاهيم عماد الأيديولوجيا الجهادية الجديدة، ومحور خطابها الإعلامي وبرنامجها العملي، وعناوين للمعارك الوهمية التي سينشغل بها الناس عن قضاياهم الأساسية، كالفقر، والبطالة، والتخلف، والفساد، والهزائم العسكرية، وغياب العدالة الاجتماعية، وانعدام الحريات، والاعتقالات السياسية، والقمع السلطوي، والتبعية للغرب، والتطبيع..
ما هي نتاجات تلك العجينة؟
جماعة الإخوان تفرع عنها عشرات التنظيمات، من الأكثر اعتدالاً إلى الأشد تطرفاً.
بعد أن كان الدعاة والخطباء يعدون على أصابع يد واحدة، ظهر جيل جديد يصعب عده، وأغلبهم حازوا على شعبية كاسحة، لكنهم حققوا ثروات طائلة.. وصارت البرامج والمحطات الدينية بالمئات (تجارة رائجة).
النظم الاستبدادية ظلت قائمة، وتحكم سيطرتها على الشعوب، وماضية في مشروعها السياسي الانهزامي التطبيعي.
المجتمعات العربية ما زالت قابعة في أسفل سلم التطور بين شعوب العالم، تعاني الفقر والبطالة والتخلف، وأضيف إليها انفلات الطائفية واشتعال الحروب الأهلية، وانتشار الفساد لدى الحكومات والشعوب على حد سواء.
بالتأكيد، لا يتحمل هؤلاء الدعاة وحدهم، ولا الحركات الإسلامية المسؤولية الكاملة عن كارثية الوضع الحالي، فالأسباب كثيرة ومتداخلة، لكنهم كانوا من بين أسباب الضياع.

Exit mobile version