المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

مملكة الفاخوري

بين البيوت القديمة في بلدة جبع جنوب جنين، تنبعث رائحةٌ محببة للذاكرة، خليط من روائح الطوابين العتيقة، وأطعمة الفطور الريفية، تأخذك الرائحة نحو قبو صغير، حيث يجلس في عمقه جمال الفاخوري (56 عاما)، وحوله مجموعة من الفتيات القادمات من مركز “الروزنا”، وهي جمعية فلسطينية تعنى بتعزيز التنمية المستدامة في الريف الفلسطيني.

يجلس الفاخوري وراء دولاب يعمل بالطاقة الكهربائية، وبين يديه كومة من الطين الفخاريّ ليعيد تشكيلها على مرأى زواره، “هذه مزهرية، والآن أصنع إبريق ماء صغيرا”.

ويعمل الفاخوري في صناعة الفخار الفلسطيني منذ صغره، فهو وريث عائلة عملت طوال حياتها في الفخار، وكُنّيت بلقب الصنعة نفسها “هذه مملكتي”، يقول جمال.

وتعد مهنة صناعة الفخار حرفة تقليدية قديمة في فلسطين، يقول الفاخوري: إن أجداده احترفوا المهنة منذ ما يقارب الـ400 عام، غير أنها لم تعد توجد إلا في قبو الفاخوري في جبع.

وتنشط صناعة الفخار أيضاً في كل من مدينة الخليل ومحافظات قطاع غزة.

ووسط البعد التدريجي عن هذه الحرفة واقتصارها في أماكن محددة، جاءت جولة مناصرة المهن والحرف التقلدية التي تقدمها جمعية الروزنا، للتعرف على الفخار الفلسطيني وكيفية صناعته وتشكيله.

تقول ياسمين عطون التي انتهت لتوها من تجربة تشكيل الصلصال الفخاري الذي بين يديها على الدولاب الكهربائي بمساعدة جمال الفاخوري: “هذه الجولة جاءت ضمن حملة تقوم بها جمعية الروزنا بالتعاون مع مؤسسة الرؤيا لحماية ومناصرة الموروث الثقافي، ونعمل عليها منذ سنتين، وستستمر حتى عام آخر أيضا، وتعنى بجوانب المناصرة في قضايا الموروث الثقافي المادي وغير المادي، ومن ضمنها الحرف التقليدية”.

وتضيف عطون المسؤولة عن جمعية الروزنا: “الفاخوري هو الوحيد في هذه المنطقة الذي يعمل في هذه الحرفة، لذا فكرنا في زيارة المكان والتعرف على هذه الحرفة عن قرب”.

وتسعى الروزنا ومؤسسة الرؤيا الفلسطينية إلى دعم الموروث الثقافي في مجالات مختلفة، كالحرف والغذاء والطبيعة، وتنظيم جولات متعددة في الريف الفلسطيني، كما تقوم بعمل بازار سنوي في بلدة بيرزيت، ويعد الفخار واحدا من الحرف الحاضرة في هذا البازار.

وتحاول الروزنا دعم الحرف التقليدية والعاملين فيها من خلال الترويج لها، والتعرف على المشاكل الني تعاني منها كل حرفة، والقائمين عليها، ومحاولة إيجاد الحلول لها بالتعاون مع الجهات المانحة.

ويستعرض جمال أعماله الفخارية التي يعرضها على رفوف بدائية الصنع، في القبو الذي عمل فيه لمدة 40 عاما حتى اليوم.

عشرات الأنواع من الإنتاجات الفخارية، يصفها جمال بطريقة هندسية جميلة، ويمكن للناظر معرفة القطعة الأحدث صنعا، والتي مر عليها وقت طويل هنا.

وفي زاوية القبو، يكوم جمال، كمية كبيرة من العجينة المستخدمة في صناعة الفخار ويطلق عليها اسم “الصلصال”؛ وهي خليط من نوعين من التربة الخاصة التي يبحث عنها جمال في جبال البلدة ويجمعها ثم يخلطها بالماء، قبل أن يتم غربلتها في غربال خاص لتنقيتها ثم توضع فوق بعضها وتخزن لمدة عام كامل، وتسمى هذه العملية التخمير.

يقول: “يمكن العمل بالصلصال مباشرة لكن عملية تخميره تسهّل عملية تشكيل الفخار، وتخفف من التشقق الذي قد يحصل في القطعة”.

بيديه، يصنع جمال أنواعا مختلفة من قطع الفخار، والأباريق، وجرار الزيت، وبعض الأواني، وقطع تُستخدم للزينة والزراعة.

وتحتاج عملية تشكيل القطع إلى صبر وخفة يد، ويمكن إدخال بعض الزخارف والألوان على القطع الفخارية بعد عملية تنشيفها وحرقها.

ويضيف: “الطلب على الإنتاج جيد، والناس بدؤوا يعودون إلى استعمال الفخار في منازلهم، خصوصا بعد انتشار الدراسات التي تؤكد على مضار الأواني البلاستيكية مثلا، الناس يطلبون (قلة) الماء والزير وفخارة الطبخ، عدا عن الاتجاه إلى استعمال الفخار في المناسبات كحفلات الحناء وزفات العرسان وغيرها”.

وتمر عملية صناعة القطع الفخارية بمراحل كثيرة وتحتاج إلى وقت طويل لتصبح جاهزة للاستعمال، فبعد تحضير عجينة الصلصال وتخميرها، تُأخذ قطع منها وتُشكل بيد الفاخوري بمساعدة الدولاب الكهربائي الذي يدور بسرعة ليسهل التشكيل.

ثم تُوضع القطع المشكلة على رفوف لتجف، وبعدها تُحمل لتُوضع في فرن للنار لمدة 4 أيام، على درجة حرارة خفيفة.

وفي اليوم الخامس، يحُمى تحتها على نار شديدة جدا لمدة 12 ساعة، وعندها تصبح فخارا جاهزا للاستخدام، وهو شديد الصلابة ويستخدم لسنوات طويلة.

خلال 40 عاما من العمل؛ صنع الفاخوري الأشكال نفسها التي أُنتجت قبل مئات السنين، وينقل اليوم هذه الحرفة بالإتقان نفسه إلى أبنائه.

وفي القبو الذي نقل الحرفة التاريخية القديمة بين أكثر من جيل بنى جمال الفاخوري مملكته الخاصة “مملكة الفخار”.

وفا- فاطمة إبراهيم

Exit mobile version