المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

رفيق الحريري… وفرصة حافظ الأسد

كتب: خيرالله خيرالله

كلّما مرّت السنوات، يتبيّن أكثر أن ليس في الإمكان عزل جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في 14 شباط 2005 عن المشهد السياسي الإقليمي والدولي وعن سياق سقوط سوريا تحت الهيمنة الإيرانيّة.

سقطت سوريا نهائيّاً في اليوم الذي خلف بشّار الأسد والده صيف عام 2000. كان من بين الأخطاء التي ارتكبها رفيق الحريري رفض تصديق وجود علاقة في العمق تجمع بين بشّار الأسد وحسن نصرالله الأمين العامّ لـ”حزب الله”. تطوّرت العلاقة وصولاً إلى انعدام حاجة الأخير إلى موعد من أجل لقاء الرئيس السوري، في حين كان عليه الانتظار بعض الوقت قبل أن يحظى بموعد لمقابلة حافظ الأسد.

لا يمكن، مع مرور 18 عاماً على تفجير موكب رفيق الحريري، الفصل بين عوامل عدّة تجمّعت من أجل أن يصبح التخلّص من رفيق الحريري ضرورة إيرانيّة بعدما صار لبنان المزدهر، بعمقه العربي، عقبة في وجه هيمنة “الجمهوريّة الإسلاميّة” عليه، وصولاً إلى تحوّلها الطرف الذي يقرّر من هو رئيس الجمهوريّة المارونيّ فيه. صار ذلك واقعاً لبنانياً في اليوم الذي وصل ميشال عون إلى قصر بعبدا في 31 تشرين الأوّل 2016.

عون الحاقد على بيروت

دفع رفيق الحريري ثمن استفادته من كلّ فرصة أُتيحت من أجل إعادة الحياة إلى لبنان، بما في ذلك فرصة تخليص البلد لسنوات عدّة من ميشال عون، الآتي من الطبقة دون المتوسّطة، الحاقد على لبنان واللبنانيين وعلى بيروت بالذات. من بين الفرص التي استفاد منها رفيق الحريري حاجة حافظ الأسد إلى تقديم صورة مختلفة عن نفسه في مرحلة معيّنة. صورة تختلف عن البعثيّ الآخر صدّام حسين الذي ارتبط به ميشال عون وأرسل إليه دبّابات استخدمها عمليّاً في حربه على “القوّات اللبنانية”.

بقي حافظ الأسد في السلطة، التي مارسها بشكل مطلق، ثلاثة عقود بين تشرين الثاني 1970 حتى وفاته في حزيران 2000. في الواقع، كان الأسد الأب الرجل القويّ في سوريا منذ 23 شباط 1966 عندما تولّى الضبّاط العلويون (محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد) السلطة الفعليّة إثر انقلابهم على حزب البعث بنسخته المدنية المدعومة من ضبّاط سُنّة، بينهم أمين الحافظ.

طوال كلّ هذه السنوات، كانت الخدمة الوحيدة التي أدّاها حافظ الأسد للبنان، بمسيحيّيه قبل مسلميه، تخليصه من ميشال عون الذي قبع في بعبدا على رأس حكومة مؤقّتة تضمّ ثلاثة وزراء مسيحيين من العسكريين، فيما رفض الضبّاط المسلمون (السنّيّ والشيعي والدرزي) المشاركة في حكومته.

لم يكن وراء السماح الأميركي – الإسرائيلي لحافظ الأسد بالتخلّص من ميشال عون وإخراجه من قصر بعبدا في 13 تشرين الأوّل 1990 حسن نيّة منه بمقدار ما أنّ الأمر تعلّق وقتذاك بتغيير على الصعيدين الإقليمي والدولي. اجتاح صدّام حسين الكويت في الثاني من آب من عام 1990 بعد أقلّ من سنة من سقوط جدار برلين، الذي كان نهاية للحرب الباردة وبداية انهيار الاتحاد السوفيتي.

استطاع حافظ الأسد التكيّف مع هذين التغييرين عبر إرسال قوات سورية لتقاتل في الكويت إلى جانب الأميركيين وتساهم، وإن رمزيّاً، في تحريرها. في الوقت ذاته كان لا بدّ من التخلّص من الحليف اللبناني لصدّام حسين الذي اسمه ميشال عون والذي أخذ على عاتقه تعطيل تنفيذ اتفاق الطائف. بفضل ميشال عون، استطاع حافظ الأسد إعادة تأهيل نفسه عربيّاً وأميركيّاً من جهة، ووضع اليد على القصر الجمهوري ووزارة الدفاع في اليرزة من جهة أخرى.

فرصة الحريري – الأيد

كانت فرصة السماح لحافظ الأسد كي يعيد تأهيل نفسه فرصة لرفيق الحريري بأن يكون صاحب القرار في لبنان لسنوات قليلة فقط (بين 1992 و1998) استطاع خلالها إعادة الحياة إلى بيروت على الرغم من وجود تحفّظات كثيرة لحافظ الأسد عن مشروع الإنماء والإعمار من منطلق حقده على المدينة العربيّة بطابعها المتنوّع. لم يكن ذلك ينطبق ذلك على بيروت فقط، بل انطبق أيضاً على دمشق وحلب وحمص وحماه.

كانت سنوات ذهبيّة مرّ فيها لبنان قبل أن يبدأ صعود بشّار الأسد الذي استطاع لعب دور الرجل القويّ، ابتداء من عام 1998، بفرضه، مع اللبنانيين الحاقدين على رفيق الحريري، إميل لحّود رئيساً للجمهوريّة. كان إميل لحود، بثقافته المحدودة وفكره السطحي، يكره رفيق الحريري إلى أبعد حدود. جاء به بشّار الأسد و”حزب الله” رئيساً كي يتوقّف مشروع الإنماء والإعمار، وذلك بعد نجاحه في كلّ الامتحانات التي مرّ فيها، خصوصاً امتحان الشكوى من رفيق الحريري الذي أراد إرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب بتفاهم مع العماد حكمت الشهابي (رئيس الأركان السوري) وعبد الحليم خدّام.

يصعب جمع كلّ هذه الكمّيّة من الحقد على شخص معيّن مثل رفيق الحريري، حقد متوافر بكمّيات تجاريّة لدى عدد كبير من الأشخاص والجهات من مشارب مختلفة. صبّ كلّ هذا الحقد في السعي إلى التخلّص منه في مرحلة بالغة التعقيد إقليمياً. كان اغتياله مؤشّراً إلى أنّ عودة لبنان باتت ممنوعة، بل مستحيلة. الأخطر من ذلك كلّه أن لا وجود لفرص جديدة أمام لبنان، خصوصاً في ظلّ الهيمنة الإيرانيّة عليه وعلى سوريا في آن. أكثر من ذلك، لم يعد من وجود لمن يستطيع تحيّن الفرص وإيجاد شبكة علاقات عربيّة وإقليمية ودوليّة تصبّ في مصلحة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من لبنان.

راح رفيق الحريري، وراح معه لبنان. راحا ضحيّة المشروع الإيراني في وقت يمرّ فيه الشرق الأوسط في مرحلة مخاض ستستغرق وقتاً طويلاً. الأكيد أنّه لم يعد في الإمكان التفكير في أيّ محاولة إنقاذية للبنان بمعزل عن مستقبل سوريا وحتى مستقبل تركيا بعد الزلزال الأخير… ومستقبل الوضع الإيراني المأزوم حيث نظام يزداد شراسة كلّ يوم. لا يعبّر عن هذه الشراسة أكثر من تحوّله إلى شريك في الحرب الروسيّة على أوكرانيا، وهي حرب غيّرت العالم وستغيّره أكثر في الأشهر القليلة المقبلة.

Exit mobile version