المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

مملكة حماس المنقسمة

كتب: حميد قرمان

تعاني حركة حماس منذ سنوات سلسلة انقسامات تهدد مملكتها القائمة على شراكات اقتصادية لمشاريع وعقارات ممتدة من شرق قارة آسيا إلى غرب الشرق الأوسط. هذا من جهة، ومن جهة أخرى استيلاؤها بالقوة العسكرية على قطاع غزة، الأرض التي أقامت عليها نواة حكم دكتاتوري إخواني، يكون مركزا لإدارة نفوذها (الإخواني) المتحالف مع بعض العواصم في الشرق الأوسط والشرق الأقصى من قارة آسيا.

للأسف غاب عن البعض في الآونة الأخيرة في تحليلهم عن حركة حماس ومسارها الأيديولوجي بعض الحقائق حول الصراعات الدائرة داخل الحركة والانقسامات التي تحكم خطها السياسي والعسكري، والتي قد تصب في عمق المعطيات السياسية التي تنعكس على الشأن الفلسطيني من جهة والشأن الإقليمي من جهة أخرى.

في السنوات الأخيرة من عهد رئاسة خالد مشعل للحركة بدأ الصراع بين تيارات حماس يطفو على السطح، بين ما يسمى بحماس الداخل وحماس الخارج، حيث بدأت الاصطفافات بين تيارات الحركة، التي سارعت بدعم مرشح يرى أحقيته برئاسة المكتب السياسي للحركة. فحماس الخارج رشحت موسى أبومرزوق، وحماس الداخل رشحت إسماعيل هنية، الذي فاز بانتخاباتهم السرية، والتي يشوبها دائما نوع من التلاعب حسب الجهة التي تحتضن الحركة في فترة إجراء الانتخابات. فالمكتب السياسي للحركة يجب أن يشمل ممثلين عن حواضن الحركة المتعددة؛ القطرية والتركية والسورية والإيرانية، حيث تطغى الحاضنة الأقوى على قرار الحركة حسب قوة تيارها المُمثل في المكتب السياسي.

عندما كانت الحاضنة السورية – الإيرانية هي الأقوى.. كان تيار خالد مشعل وموسى أبومرزوق وخليل الحية ومحمود الزهار وأسامة حمدان، متصدرا المشهد السياسي والإعلامي الحمساوي، والذي أفل نجمه بعد الأزمة السورية. ومع التوتر في العلاقة مع النظام الإيراني، خرجت الحركة من العاصمة السورية هربا إلى قطر وتركيا، فتعزز بذلك تأثير الحاضنة القطرية – التركية في المشهد الحمساوي من حيث المال والمكانة التنظيمية داخل التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين. وتم ترتيب البيت الحمساوي وقتذاك بأن يترأس إسماعيل هنية الحركة، على أن يغادر خالد مشعل موقعه ليستلم رئاسة التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، بمباركة الحاضنة القطرية – التركية، وكان ذلك اقتراحا مقدما من شيخ الإخوان يوسف القرضاوي، الذي كان يتمتع بنفوذ كبير سواء في الأوساط السياسية القطرية أو التركية.

واستقر الرأي بوجوب وحدة البيت الإخواني بعد انهيار جماعة الإخوان في مصر، وانقسام الإخوان في الأردن، وضعف النظام الحاكم في السودان وانهياره، وجحود الإخوان في المغرب، الذين هرعوا إلى توقيع اتفاق تطبيع مع إسرائيل لضمان استمرار حكومتهم. وكان الاقتراح الأنسب أن يكون خالد مشعل رأس الهرم للتنظيم الدولي للإخوان، كونه يتمتع بتأييد قطري – تركي لعدة عوامل؛ أن حركة حماس فرع الإخوان في فلسطين هي الحركة الإخوانية المتماسكة في ذلك الحين، والتي قدمت نموذجا ناجحا لاستمرار حكم إخواني في قطاع غزة، خاصة بعد انهيار جماعة الإخوان في مصر وفشل تجربتها في الحكم وازدياد الخلافات بين قيادات الجماعة وانعكاسها على التنظيم الأم، فكان الاقتراح بترشيح مشعل كطرف محايد بين قيادات الإخوان التي كان جُلها مصريا، والتي استولت على مقدرات وممتلكات التنظيم الدولي، فأصبحوا يوجهون خلافاتهم الداخلية للسيطرة على التنظيم، مما أثر لاحقا على التنظيم بشكل كبير وأدى إلى تراجعه، وماتت معه فكرة استلام مشعل رئاسته، ليعود هو وتياره بعد ذلك للمطالبة بكرسي رئاسة المكتب السياسي لحركة حماس.

عودة مشعل في ذلك الحين لم تتحقق لوجود هنية الذي استغل اتصالاته مع الإيرانيين والقطريين في تعزيز نفوذه في الحركة للبقاء في موقعه، ليشتعل صراع المناصب القيادية داخل الحركة بين التيارات الثلاثة؛ تيار هنية وتيار مشعل وتيار إبراهيم السنوار الذي تسلل إلى المشهد الداخلي الحمساوي بسبب شعبيته بين مؤيدي ومناصري الحركة في القطاع، فتم التوافق بعد تدخلات تركية – قطرية – إيرانية، على أن يكون هناك ثلاثة رؤساء للحركة؛ رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية، ورئيس حركة حماس في الخارج خالد مشعل، ورئيس حركة حماس في قطاع غزة إبراهيم السنوار.

خرج بذلك تيار صالح العاروري الذي تسلم موقعا شرفيا بلا صلاحيات، نائبا لرئيس المكتب السياسي ورئاسة إقليم حماس في الضفة الغربية، وهو إقليم مهمش لا يتمتع بأي نفوذ حقيقي داخل الحركة لاعتبارات كثيرة أهمها سلسلة الفضائح داخل هذا الإقليم، حيث دائما ما يتهم هذا الإقليم بكثرة الجواسيس داخله على المستوى القيادي ومستوى الأعضاء، فتارة هم جواسيس لإسرائيل، ومثال ذلك فضيحة أبناء القيادي حسن يوسف، أو جواسيس للأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية. لكن مؤخرا تم الاتفاق على إعادة تفعيل هذا الإقليم لخدمة الأجندات الإيرانية، ليس فقط على مستوى حركة حماس بل وحركة الجهاد الإسلامي أيضا.

بالعودة إلى التيارات الثلاثة الرئيسية حاليا في الحركة، دعم القطريون تيار السنوار في قطاع غزة بعد أن أثبت جدارته بحكم القطاع والتفرد به، بعد طرد قيادات حماس القريبة من هنية وتحجيم حركة الجهاد الإسلامي والتيارات السلفية الجهادية داخل القطاع، وكسب ولاءات قيادات فلسطينية من مختلف التيارات اليسارية والفتحاوية المنشقة عن حركة فتح الأم، كتيار محمد دحلان وأعوانه الذي أغدق على “أعداء الأمس.. حلفاء اليوم” بالأموال في سبيل إيجاد نشاط سياسي له يأخذ من رصيد حركة فتح الأم التي ما زالت تتمتع بشعبية كبيرة داخل القطاع.

فشل هنية في وقف، أو على الأقل، في تحجيم سياسات السنوار داخل الحركة خاصة والقطاع عامة، فحاول تجفيف الموارد المالية لتيار السنوار الذي نجح في عقد “تفاهمات حياتية ذات نسق أمني” مع أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية، والتي جاء ثمنها إمداده بالأموال شهريا بحقائب “15 مليون دولار” تدخل من خلال مطار بن غوريون بعد التفتيش الأمني الإسرائيلي.. يحملها السفير القطري محمد العمادي مباشرة إلى السنوار الذي يتحكم تماما بآليات صرفها، فلم يعد القطاع يتحمل رئيسين وكان لا بد من خروج أحدهما من المشهد الحمساوي – الغزاوي أو الصدام بين التيارين، مما يؤثر بالتأكيد على حكم حماس للقطاع.

انتصر القطريون للسنوار، وضمنوا خروجا لائقا لهنية مع أولاده وزوجاته من قطاع غزة. ولم يكتف السنوار بذلك بل طرد معظم القيادات التقليدية لحماس والتي كانت قريبة من هنية وبالأسماء: خليل الحية وفتحي حماد وصلاح البردويل وسامي أبوزهري وطاهر النونو. وأسكت بالقوة قيادات أخرى، كمحمود الزهار الذي اختفى تماما عن الساحة السياسية والإعلامية الحمساوية. ليبدأ هنية مع تياره بالبحث عن استمرار بقائهم ضمن المنظومة الحمساوية بإعادة الاندماج مؤقتا مع تيار مشعل في بوتقة النظام الإيراني، والعودة إلى الحاضنة السورية – الإيرانية، التي وضعت شروطا لنجاح المشروع الإيراني في المنطقة، من خلال رأب الصدع بين أدواته، والتي يجب أن تكون على توافق وتناغم سياسي كبيرين، من خلال تقوية اصطفاف محوره طهران – دمشق – بيروت، فكان من أهم هذه الشروط؛ عودة العلاقات مع النظام السوري، والتحالف العسكري مع حزب الله في لبنان، وتقوية نفوذ إقليم الضفة خاصة بعد رفض وتمرد تيار السنوار على المطالب الإيرانية بفتح جبهة قطاع غزة كلما تطلب الأمر ذلك.

هذه الشروط بدأ تطبيقها على أرض الواقع، فقاد خليل الحية جولة المباحثات مع النظام السوري التي تكللت بلقاء مع الرئيس السوري بشار الأسد، وشهدت الضفة الغربية ارتفاع وتيرة النشاط العسكري ضد الإسرائيليين التي بقيت ضمن إطار ردات الفعل الفردية ولم تتحول إلى موجة تصاعدية أو انتفاضة شاملة كما تمنى النظام الإيراني. بالمقابل استمرار الهدوء في قطاع غزة نتيجة رفض السنوار أي محاولات لجر غزة إلى مغامرات عسكرية غير محسوبة النتائج أو تؤثر بشكل مباشر على حكم تياره للقطاع. ففي جولة التصعيد على قطاع غزة العام الماضي رفض السنوار أوامر إيرانية بالرد على إسرائيل، وأبقى حركة الجهاد الإسلامي التي تتمتع ببعض القدرات الصاروخية وحيدة في ساحة المعركة.

كان ذلك لإنهاء فكرة وجود أي منافس حقيقي للسنوار على أرض غزة والتفرد بحكم القطاع وقرارات السلم والحرب فيه. هذا ما جعل تيار هنية وتيار مشعل (حماس الخارج).. يلجآن إلى البحث عن جبهة جديدة في جنوب لبنان ضمن اتفاق وتحالف مع حزب الله، لتحقيق أهداف وغايات إيرانية، مقابل دعم وتقوية حماس الخارج في لبنان، وإحلالها في المخيمات الفلسطينية في لبنان مكان حركة فتح. فإيران تستشعر هشاشة سيطرة حزب الله وضعف شعبيته، خاصة بعد الأوضاع الاقتصادية التي تلقي بظلالها على المجتمع اللبناني، نتيجة لسياسات حزب الله التي أدت إلى فرض عقوبات اقتصادية على لبنان، فتم جلب حماس الخارج وزرعها داخل لبنان لتقوية منظومة حزب الله، إذا ما أدت الأوضاع الاقتصادية إلى إشعال الصراع مجددا بين مكونات وشرائح المجتمع اللبناني، إضافة إلى تقديم خدمات عسكرية ضد إسرائيل تخدم أجندات إيران التفاوضية في لعبة تبادل أدوار إيرانية تارة تستخدم بها حماس وتارة أخرى حزب الله.. حسب الهدف والغاية الإيرانية.

الانقسامات بالمواقف السياسية بين حماس الخارج وحماس غزة أصبحت ملموسة، وإن كان الطلاق لم يقع بعد. لم نشهد حتى الآن الشكل الكلاسيكي للانقسام الدارج بين الأحزاب والجماعات على شاكلة حركة حماس الإخوانية، وإن كان الانفصال بين تيارات الحركة قادما لا محالة ليكوّن كل تيار حركة مستقلة قائمة بذاتها. فحماس الخارج والتي تمتلك القوة الاقتصادية والموارد المالية وجدت من خلال جنوب لبنان أرضا ينطلق من خلالها العمل العسكري الذي يخدم توجهات إيران الداعمة لها بالشراكة مع حزب الله، وحماس غزة التي تمتلك قوة النفوذ العسكري ضد إسرائيل تسعى لإيجاد موارد مالية تضمن استمرار حكمها في قطاع غزة.

تبقى رغبة ومصالح الحواضن القطرية والإيرانية والتركية، والتي تدرك أن الانفصال قادم، فاختارت تيارا يخدم مصالحها وتوجهاتها في المنطقة، فقطر تريد حماس ممثلة بتيار السنوار، ورقة اعتماد أمام الإدارة الأميركية بأنها تمتلك أحد مسارات التفاوض والتهدئة في المنطقة، وإيران تريد من حماس ممثلة بتيار هنية أن تكون ورقة تفاوضية أو أداة لخدمة أجنداتها ومشاريعها التوسعية في المنطقة، أما تركيا الأردوغانية فتريد من حماس (تيار مشعل) أن تكون ورقة أو أداة عبور لعودة أمجاد الدولة العثمانية في المنطقة.

مجددا، الانقسام السياسي داخل حماس لم يأخذ شكل الصدام العسكري بين قياداتها، لكنه أثر ويؤثر على القرارات السياسية والعسكرية للحركة وتحالفاتها بالعموم، فالتخبط السياسي أصبح سمة التفكير الإستراتيجي للحركة، والتناقض في علاقات وتحالفات الحركة والتي تجمع بين أنظمة سياسية لها أهداف وأجندات سياسية مختلفة، يؤكد أن حماس ليست حركة فلسطينية تخدم قضية شعبها الساعي لإثبات كينونته السياسية بالتحرر من براثن الاحتلال وإقامة دولته المستقلة، بل هي مجموعة مرتزقة تجمعهم الأموال والتجارة والأيديولوجيات البالية، ليتمتعوا برغد العيش في فنادق إسطنبول والدوحة وطهران وبيروت. بعيدا عما يعانيه الشعب الفلسطيني نتيجة قمع حكمه الدكتاتوري في قطاع غزة تحت ذريعة تحرير فلسطين. تماما مثل إيران التي تقمع شعبها وتقتله لمحاربة الشيطان الأكبر أميركا، وحزب الله الذي يعاني من ويلات سياساته الشعب اللبناني تحت حُجة مقاومة إسرائيل.

Exit mobile version