الرئيسية مختارات مقالات وداعا لسياسة التبعية الأمريكية

وداعا لسياسة التبعية الأمريكية

0
48

كتب: رفعت إبراهيم البدوي*

ذكر الرئيس الصيني شي جين بينغ في مناسبات عدة أن العالم اليوم يمر بتغيرات عميقة لم يشهدها منذ قرن. فقد حفل العالم بمتغيرات متلاحقة، تنبئ بوجود حالة من التمرد غير المسبوق على النظام العالمي الأحادي الحالي، وهذا يعني مغادرة حقبة التبعية للولايات المتحدة والولوج في حقبة جديدة قائمة على الاستقلالية الإستراتيجية والشروع في بناء نظام عالمي جديد عماده المصالح الاقتصادية والإنمائية للدول والشعوب.

العديد من الدول لاقت تلك المتغيرات بإيجابية متسارعة، حيث وجدت فيها الفرصة الملائمة للتحرر من سياسة التبعية لأمريكا، وهي التي أمعنت في تغليب مصالحها وفي سلب وربط ثروات الدول بالدولار الأمريكي كأداة لازمة، بهدف الضغط وإجبار تلك الدول على إتباع السياسات الأمريكية، ولو كانت تخريبية لا تعكس مصالحها. ومن الدول التي استجابت للمتغيرات، المملكة العربية السعودية ودول الخليج ومصر والهند، إضافة إلى روسيا والصين، وهو ما شكل انقلابا على سياسة التبعية للغرب وأمريكا.

“هل أنتم في محورنا أم مع المحور الآخر؟”، سؤال دأبت أمريكا وأتباعها من دول الغرب على طرحه على دول المنطقة والعالم. وعبر استخدام لغة التهديد والوعيد، كانت أمريكا تجبر الدول الأخرى على الاصطفاف خلفها، وإلزامها التداول بعملة الدولار الأمريكي، كعملة عالمية بهدف تأمين مصالحها فقط غير عابئة بمصالح غيرها من الدول وتنمية شعوبها. وبذاك التهديد، تمكنت أمريكا وبظلم بالغ أن تتحكم في العالم.

اليوم ومع تلك المتغيرات الإقليمية والدولية الحاصلة، باتت المصلحة الاقتصادية والتنموية هي الأولوية في رسم سياسات الدول، ولم يعد هناك مكان لسياسة المحاور المبنية على التبعية العمياء، وطبقاً لموازين القوة العسكرية.

فالتكتلات والتحالفات الآن أصبحت اقتصادية تنموية تكنولوجية أكثر منها سياسية أو عسكرية، ولا يمكننا تجاهل تأثير هذه المتغيرات على السياسات الخارجية للدول الأخرى. ولم يعد ممكناً إجبار تلك الدول على اتخاذ موقف مؤيد لأمريكا أو للغرب، على عكس مصالحها الاقتصادية.

دائرة عدم الامتثال و التمرد آخذة في التوسع. ومثال على ذلك دول “أوبك بلس” التي تمردت على مسألة العقوبات، وذهبت بعيدا عن الإملاءات الأمريكية الغربية، واتخذت قرارا جريئا، بخفض الإنتاج بدلاً من زيادته، مما أثار حنق أمريكا. مثال آخر هو استمرار روسيا في بيع النفط للعالم على الرغم من العقوبات الأمريكية المفروضة على تلك الدول التي تشتري النفط من موسكو؛ حتى أن بعض الدول الأوروبية تشتري النفط من المملكة العربية السعودية، والتي بدورها تشتري الغاز والديزل من روسيا بأسعار مخفضة، ثم تبيعهما بأسعار مرتفعة، محققة أرباحا طائلة.

فالمعادلة أصبحت بسيطة جدا، وهي أن المصلحة الاقتصادية التنموية هي التي تحدد الموقف السياسي لا العكس، وهذا ما لم تستوعبه الدول الغربية، وخصوصا الولايات المتحدة.

الجديد في المتغيرات أن هذه الدول، رغم عدم انصياعها للعقوبات وللإملاءات الغربية، فإنها لم تقاطع الولايات المتحدة وأوروبا ولن تقف ضدهما. وبدلا من ذلك فإن قراراتها أصبحت تُتخذ بناء على استقلالية إستراتيجية تامة، وبناءً على توازن المصالح التنموية الاقتصادية. وكلما سارع الغرب وخاصة دول أوروبا بالاعتراف بهذه المتغيرات، بنى إستراتيجيته على معطيات واقعية، إلا أن الممارسة أثبتت أن الغرب وأمريكا كلاهما بعيدان عن الواقع.

يبدو أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قرر سلوك درب الواقعية، بعدما أدرك ولو متأخرا خطورة السياسة الأوروبية القائمة على التبعية للسياسة الأمريكية.

ففي تصريح له أثناء عودته من الصين نقلته صحيفة ((بوليتيكو)) وأمام عدد من الصحفيين الفرنسيين قال: يتعين على أوروبا تقليل اعتمادها على الولايات المتحدة، وتجنب الانجرار وراءها إلى مواجهة مع الصين بشأن تايوان، مؤكدا على نظريته حول الاستقلال الذاتي الإستراتيجي لأوروبا، والذي من المفترض أن تقوده فرنسا، لتصبح قوة عظمى ثالثة، بحسب تعبيره.

وذكر ماكرون أن “الخطر الكبير الذي تواجهه أوروبا، هو أنها عالقة في أزمات تمنعها من بناء استقلاليتها الإستراتيجية”، مشددا على أن الأوروبيين يجب ألا يكونوا أتباعا للولايات المتحدة في أزمات لا دخل لأوروبا بها.

ولفت ماكرون إلى أن أوروبا زادت من اعتمادها على الولايات المتحدة في مجال الأسلحة والطاقة، وبالتالي يجب على أوروبا الآن التركيز على تعزيز اقتصادها وصناعاتها الدفاعية، داعيا إلى ضرورة تقليل أوروبا من اعتمادها على الدولار خارج الحدود الإقليمية.

وفي مقال للمحلل الفرنسي رينو جيرارد نشرته صحيفة ((لوفيغارو)) هذا الشهر قال فيه إن الأمريكيون استخدموا عملتهم كأداة للضغط السياسي على الدول بهدف الانصياع إلى مصالحهم الخاصة، وهو ما شكل دافعا لتبني حركة عالمية للإطاحة بالدولار، فالتخلي عن الدولار عملية لا رجوع عنها وذلك نتيجة لاستخدام واشنطن عملتها أداة لابتزاز الدول الأخرى.

وتوقع الخبير الاقتصادي الأمريكي جيفري ساكس، في مقابلة مع شبكة ((سكاي نيوز))، نهاية درامية للدولار الأمريكي قريباً، وبذلك ستفقد أمريكا سلاح الضغط الرئيسي، الذي لطالما تسلحت به لابتزاز دول العالم ولعقود طويلة، مشيرا إلى أن العالم يتجه نحو تعدد الأقطاب ونهاية الهيمنة الغربية، وأضحت دول العالم بحاجة للدمج الإقليمي لتحقيق الأمن الاقتصادي والتنمية، بعدما تبين أن النزاعات الأمريكية المفتعلة لم تعد مفيدة لأحد.

الخلاصة، لم تعد سياسة التبعية الأمريكية فاعلة ولم تعد إلزامية التعامل بالدولار الأمريكي ثابتة، بل إنها سياسة آخذة بالتفكك، وعلى الغرب أن يرى تلك المتغيرات سريعا.

فالاتجاه اليوم هو السير نحو نظام عالمي جديد متعدد الأطراف يعتمد على التكامل الاقتصادي وعلى تبادل العملات المحلية، تماما كما يحدث الآن بين روسيا والصين والمملكة العربية السعودية والهند.

*رفعت إبراهيم البدوي هو محلل سياسي ومستشار لرئيس الوزراء اللبناني الأسبق سليم الحص.

لا يوجد تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا