المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا

“عرب الضمايرة”.. القرية الماثلة في ذاكرة المسن رفيق ضميري

رغم بلوغ المسن رفيق هيكل حسين ضميري العقد العاشر من عمره، إلا أنه لم يُمحَ من ذاكرته مسقط رأسه قرية “عرب الضمايرة”، التي هجر الاحتلال الإسرائيلي سكانها عام 1948، ودمرها بالكامل بكل ما فيها من مبانٍ وأراضٍ، في محاولة منه لطمس معالم الحياة الفلسطينية التي كانت سائدة فيها.

وضميري وهو من سكان مخيم طولكرم للاجئين المُكنى بـ(أبو موفق) من مواليد عام 1932، وُلد في قرية عرب الضمايرة، وعاش فيها 16 عاماً من عمره، قبل التهجير قسرا، حباه الله بذاكرة قوية وعقل سليم، يستذكر أدق التفاصيل اليومية لقريته وموقعها وحدودها، وكأنها ماثلة أمامه.

وحسب الروايات المتداولة لمن عاش في تلك الحقبة، فإنه أُطلق على القرية اسم عرب الضميري أو ظهرة الضميري، لأن الضميري الأول جاء إليها في القرن السابع عشر من بلدة (الضمير) في سوريا شمال دمشق أو عرب الضمور في الكرك الأردنية، وأسس فيها مزرعته وبستانه الجميل الذي لا يزال أهالي بلدة جسر الزرقاء على الساحل الفلسطيني في منطقة حيفا يطلقون عليه بستان الضميري.

ويقول المسن ضميري: “اسم القرية نابع من اسم العشيرة وهي قريبة من قيساريا (جنوب حيفا) من جهة الشمال، فيما يحدها نهر المفجر من جهة الجنوب، ومن الشرق سكة الحديد، ومن الغرب البحر”.

وعرب الضمايرة حسب (أبو موفق)، هي قرية زراعية، بلغ عدد سكانها عام 48 (380) نسمة من عائلة واحدة، وكل فرد منها يملك من دونمين ونصف إلى ثلاثة، 10 كم مربع مساحة القرية، حيث هي من جهة الغرب ضيقة وواسعة من الشرق.

ويضيف، كانت القرية عماد الاقتصاد الزراعي في المنطقة، بحكم موقعها وغناها بالمياه، فمنذ العهد العثماني، كانت تزرع القمح والذرة والشعير، ثم في العهد البريطاني أضيف إليها زراعة الخضراوات من البندورة، والخيار، والباذنجان، والكرسنة، والترمس، والفستق، والبطيخ المتميز بحلو مذاقه، ويوميا كانت تُباع هذه المنتجات إلى المدن الفلسطينية في حينه، وهكذا طوال العام.

يقول: “والدي كان يملك قطعة أرض من جهة الجنوب حتى قيسارية، زرعها عام 48 بالفجل”.

وحول الحياة الاجتماعية في القرية، يوضح ضميري، أن القرية هي للضمايرة لا يسكنها غريب، زواج الشباب من بنات الضمايرة فقط، ويقول: “كان شيخ القبيلة يحضر إلى الديوان ويسأل عمّن يريد الزواج ليطرح عليه اسم بنت أبو فلان التي عليه الزواج منها دون نقاش”.

ويضيف، رغم ذلك، سكن القرية ثلاث عائلات غريبة، بحكم أنهم زوجوا بناتهم للضمايرة وسكنوا عندهم، وهم حسب ضميري: عائلات فارس، والحارس، وأبو طه.

ويعود ضميري بذاكرته إلى الوراء وإلى أيام احتلال اليهود للقرى والمدن الفلسطينية عام 48 قائلا: “كانت القرية مضيافة للثوار وكان أخي منضما إلى صفوفهم، وكان يأتي ليلا إلى القرية للتزود بالطعام ونقله إلى المناضلين، ويبدو أن اليهود علموا بالأمر، وبدأت الأخبار تتوالى علينا بهجوم عصابات الهاغاناة على القرى والمدن الفلسطينية ومحاصرتها وقتل سكانها”.

ويكمل: “هجم اليهود على قريتنا وهددوا والدي وكان الأكبر في العائلة بعدم التعامل مع الثوار، وإلا فسيكون مصيرنا القتل، فما كان من والدي إلا اصطحابنا والسير باتجاه طولكرم، وكان مختار القرية قد سبق إلى هناك مع أولاده، باستثناء والدتي التي رفضت المغادرة وبقيت إلى جانب بعض أفراد العائلة في القرية، على أمل أن نعود إليها بعد أيام”.

ومضت الأيام والأشهر، وبعد مرور أربعة أشهر، ذهب والدي إلى القرية وأحضر أمي، لتسقط بعدها قرية قاقون وبعض القرى بيد الاحتلال.

عام 1972، كانت الزيارة الأولى لضميري إلى قريته، حلم تحقق وهو يطأ بقدميه على الأرض التي وُلد وتربى فيها، جال ببصره في الجهات كافة، نظر عاليا فرأى السماء كأنه يراها لأول مرة كبيرة لا حدود لها، لم يصدق أنه هنا.

استطاع أن يتعرف على مكان منزل طفولته وبقية المنازل التي لم يتبقَّ منها شيء سوى المكان، وقعت عيناه على قطعة حديد وقد أصابها صدأ ثقيل، هي بقايا من بناء أحد منازل القرية. بالنسبة إلى ضميري، كانت بمثابة كنز لا يقدر بثمن، حمله عائدا بها إلى منزله في المخيم، وهو يحتفظ بها كأحد مقتنياته الثمينة.

ويستذكر منزل والده الكبير المبني من الحجر، والذي يضم 5 غرف وشرفتين، و3 محلات، مشيرا إلى أن طبيعة بناء المنازل كانت حسب إمكانيات أصحابها المادية، وجميعها كانت من الحجر، لافتا إلى مدرسة القرية الحكومية وهي الوحيدة في المنطقة رغم أنها أصغر البلاد في عدد سكانها وكانت تحمل اسم “مدرسة الضمايرة الأميرية”، التي كان يدرّس فيها الأستاذ أحمد حسين الشريف من صفورية.

وأشار إلى أن من ينهي المدرسة يكمل الدراسة إما في طولكرم، أو في جامع الجزار في عكا.

ويستذكر كيف كانت والدته تعد حلوى الأرز مع الحليب وتوزعها على طلبة المدرسة، باعثة فرحا وسرورا في صفوفهم.

ويصف ضميري، القرية الآن بقوله، “أصبحت خرابا، لم تعد ذاتها المنطقة التي كانت تملؤها المنازل جمالا، بل حل محلها الحشائش، وهدمها اليهود عن بكرة أبيها وتغير كل شيء، قسموها إلى قسمين، أرض الرمل التي كانت مليئة بالمنازل أصبحت فارغة، فيما أرض المفتلح زرعوها بأشجار الحمضيات”.

“رغم ذلك، أتذكر كل التفاصيل في المكان، هناك منطقة أبو طنطور وهي منطقة رملية كان فيها حرش مزروع بأشجار الخروب الضخمة والسريس، وترعى فيها الأغنام السمراء، وشجر الخروب حيث النساء كن يذهبن لجني ثمارها، وكل شجرة منها كانت تعمل من 7-8 شوالات من الخروب” يقول ضميري.

وخلال جولاتي، شاهدت مقبرة القرية التي كانت تسمى “أبو فرج”، ما زالت موجودة حتى الآن، ومدفون فيها أب العائلة الأكبر منذ أكثر من 170 سنة.

وأشار إلى أن المنطقة تضم ثلاثة جبال، الأول مبني عليه قرية الضمايرة، والثاني أصغر وفيه المقبرة، أما الثالث فهو لدرس القمح والذرة والشعير، ويوجد فيها 12 عين بئر، منها ما زال قائما وهي بئر العرايس، وبئر المرقعية، والبيكة، والمضامير التي استُعملت لتربية المواشي وتخزين المحاصيل المختلفة في تلك الفترة مثل القمح.

وخلال رحلة التنقل، درس ضميري في مدرسة الصناعة في طولكرم تخصص النجارة، ثم غادر إلى الشام عام 1954، وعمل فيها مدة سبع سنوات، ثم انتقل إلى الكويت، ليعود إلى الوطن عام 1967، ويحط رحاله في مخيم طولكرم.

تزوج بعمر 28 من فلسطينية تعيش في سوريا، بعقد زواج يحمل الجمهورية العربية المتحدة عام 1960، وأحضرها إلى المخيم، ولديه 12 من الأولاد والبنات، جميعهم وُلدوا في المخيم.

ويرى ضميري أن هذه القرية بتفاصيل الحياة التي كانت سائدة فيها وبجمالها الذي حباها الله به وببياراتها على مد البصر، تثبت أن جذور شعبنا الفلسطيني على هذه الأرض ممتدة عبر التاريخ، وأن البلاد التي كانت عامرة بأهلها ومزدهرة ليست كما يدعي الاحتلال بروايته الكاذبة، أنها كانت أرضا بلا شعب وكانت خرابا وعمروها.

ويؤمن ضميري بحتمية العودة قائلا: “بالنسبة إلي وإلى أولادي وأحفادي، مهما بلغ الاضطهاد والظلم فسنرجع، ونشم هواء بلادنا التي هي حقنا، وأدعو الله دائما أن أرجع إلى هناك وأنا على قيد الحياة”.

وفا- هدى حبايب

Exit mobile version