كتب: ماتشي فيشنيوفسكي
في الفيلم الرائع “مملكة السماء” للمخرج ريدلي سكوت هناك مشهد يلتقي فيه المدافع عن القدس، باليان، بقائد الجيش العربي صلاح الدين الذي يحاصر المدينة. وعندما اتفقوا على شروط مُشرفة لتسليم المدينة للمسلمين من قبل المسيحيين، يسأل باليان قائد الجيش العربي: “كم تساوي القدس؟”، فيجيب صلاح الدين: ” لا شيء”. وبعد خطوات قليلة، يستدير مرة أخرى ويضيف: “كل شيء”.
نفس السؤال يمكن طرحه اليوم بخصوص فلسطين. وكما كان الحال في القرن الثاني عشر، فإن كلا الإجابتين صحيحتان اليوم.
كان الأمر سهلا في البداية. خط وارسو- تل أبيب. التحرك من مطار بن غوريون الى القدس بالقطار ممتاز، ومن هناك إلى محطة الحافلات للوصول إلى رام الله. الى هنا تنتهي سهولة الحركة. المحطة التي تنطلق منها الحافلات إلى رام الله على الجانب الفلسطيني محصورة في زاوية، وليس هناك صالة أو مكتب لبيع التذاكر أو أي شيء آخر يمكن أن تتوقع وجوده في هكذا مكان.
رام الله
– إلى رام الله؟ أجابت الشابة العربية. “لن تتمكنوا من الوصول هناك اليوم”. لن يتم نقلكم سوى لنقطة تفتيش قلنديا وبعد ذلك سيتعين عليكم التعامل مع الأمر. بامكانكم اخذ سيارة أجرة. أو محاولة عبور الحاجز بمفردكم وستجدون هناك حافلات على الجانب الآخر.
على الجانب الاسرائيلي ما زالت سيارات الأجرة تنتظر الزبائن، مقابل مبلغ لا أستطيع تحمله. وقفت مكاني في انتظار حدوث معجزة.
– تعال معي – قالت لي نفس الفتاة العربية – ستذهب مثلنا.
تحركت مع الفتاة وسط حشد من الناس، من خلال ممرات ضيقة للأعلى فوق مستوى السياج بين إسرائيل وفلسطين، ثم إلى الأسفل وإلى الباب الدوار الذي لا يمكن لأكثر من شخص واحد تلو الآخر المرور من خلاله، تماما كما تذهب الأغنام إلى طرق المراعي المخصصة. لا أحد يتحقق من هوياتنا، لا أحد يتحقق من أي شيء. مجرد حشد من الناس، سئموا من حرارة وصلت 40 درجة، يتحركون بين بعضهم البعض.
“الأمر سهل بالنسبة للدخول”، أما الخروج فالأمر أسوأ. عندما يكون الجنود في مزاج جيد، كل شيء يسير بسرعة. إذا لم يكونوا فالأمر سيستغرق ساعات. علينا أن ننتظر حتى يسمحوا لنا بالمرور. وقد لا يسمحوا.
-أصبحت تعرف الآن
-أعرف.
على الجانب الفلسطيني، وجدت نفسي في عالم مختلف. فوضى وطوفان من السيارات، وأناس يقفزون منها واليها كالأرانب، المنطقة حولنا مليئة بالسيارات المدمرة والمحترقة والقمامة، كل شيء ينبض، أبواق، صراخ، تنافر الأصوات مع الحرارة الشديدة التي تمتص أي طاقة من الإنسان. يحاول ملاكي الحارس الفلسطيني أن يوصلنا إلى حافلة صغيرة متجهة إلى رام الله، ولم ننجح في ذلك الا بعد محاولات عديدة. الحافلة لا يوجد بها تكييف، ولكن بها اغاني لا تشبه الاغاني الترفيهية التي يتم تشغيلها لتسلية الركاب. وتحتوي على بعض النغمات المنخفضة والمزعجة. تقوم صديقتي بتسجيل مقطع من إحدى الأغاني وارسالها إلى صديقها السوري. الجواب جاءها في رسالة نصية منه على الفور: “احذفي هذه الأغنية من على هاتفك فورا. فعند العودة إلى الجانب الإسرائيلي سيقوم الجنود بفحص الهاتف، وستقعين في مشكلة. هذه أغنية شهيد في طريقه للموت” وقامت بحذفها فورا.
أخيرا وصلنا إلى رام الله
من المكان الذي نزلت فيه وحتى وصولي الى وجهتي – فندق فخم- كان علي أن اسير عبر نصف المدينة، محاطا بحشود لا أفهم لغتها، ومشاهد غير مألوفة لم يتسن لي الاستمتاع بها، تحت أشعة شمس ضارية. الأشخاص الذين مررت بهم ودودون، رغم تحفظهم. عند وصولي للفندق وشعوري بهواء التكييف البارد، شعرت وكأني تخطيت حدود العالم، وهذا ما سيحدث فعلا وسأفهمه لاحقا. هنا، فندق خمس نجوم فاخر يقدم كل ما يمكن أن يتوقعه مواطن مثلي قادم من الغرب (حسنا، أبالغ قليلا): تصميمات داخلية أنيقة، موظفون ودودون ومؤهلون تأهيلا عاليا يتحدثون الإنجليزية، غرفة كبيرة مجهزة بكل ما تحتاجه لتشعر أنك قطعت نصف العالم ولم يتغير شيء.
في المساء سأخرج إلى المدينة وسيحيط بي واقع مختلف. لا أريد أن أكرر ملاحظات السائح المعتادة عن الروائح ومذاق الطعام والناس في المقاهي وملابس النساء وألف شيء آخر يملي علي انفرادي بمشاعري، لكن لم يكن لدي شك ولو للحظة بأنني في بيئة مختلفة تماما عن بيئتي وحياتي اليومية. وفي ذات الوقت، خلال نزهتي الاولى في المساء أو اثناء تحركاتي فيما بعد لم أشعر، ولو للحظة بالتهديد أو الخوف، أو اي شيء آخر قد تتوقعون حدوثه في هذه المدينة.
أجنبي: نعم، عدو: لا. كما تبين فيما بعد، الى حين.
لماذا قمت بالمجيء إلى هنا؟ كان من المفترض أن يكون هناك مؤتمر دولي مخصص للذكرى الخامسة والسبعين للنكبة. تم إلغاء المؤتمر في اللحظة الأخيرة، لكن الدعوات كانت قد صدرت بالفعل، وتم حجز الغرف، وشراء تذاكر الطيران، لذلك قام بعض الضيوف بالحضور. بالنسبة لهم، تم تنظيم ما يسمى “ورش عمل”. تم عقد الجلسات الافتتاحية والرئيسية في غرفة مكيفة تماما، حيث حمامات السباحة في الفندق والمليئة بالمياه الزمردية (في بهو الفندق، كانت هناك إعلانات مع اعتذارات بأن بعض الضيوف لن يتمكنوا من استخدام هذا النوع من الراحة). المسابح ظلت مكانها فوقها جسر جميل، ونُصبت حولها طاولات ضمت وجبات خفيفة وقهوة وعصائر وشايا. الظروف كانت مهيأة لعقد الاجتماعات.
وعلى مدى يومين، في القاعة الرئيسية وفي عدة قاعات أخرى أصغر، استمعنا إلى تقارير وتصريحات لمتخصصين أوروبيين وصحفيين في الشرق الأوسط، والى الفلسطينيين أنفسهم حول النكبة. لقد غمرنا بحر من البيانات والمعلومات البحتة ولكنها مؤثرة لما تعنيه النكبة للفلسطينيين. فهي ما زالت موجودة، فعليا وليس رمزيا ومقاومة الفلسطينيين للتهجير، والمستوطنات اليهودية غير القانونية على الأراضي الفلسطينية، والتطهير العرقي التي انتقلت احداثه من جيل إلى جيل.
من المحال أن أنقل لكم كلام أسير أُطلق سراحه من أحد السجون الإسرائيلية بعد عدة عقود، أو أم لطفل آخر تتعهد له بأنها لن تموت قبل ان ينال ابنها حريته، أو والد لمراهق “ارهابي فلسطيني” قتل على يد قناص إسرائيلي. يتابعون هذه القصص بلغتهم الخشنة والترجمة تصلني من خلال السماعة في أذني، ثم ينتهي أحدهم ليصفق الجميع، ويأتي شخص آخر ليروي قصة مأساوية أخرى وهكذا.
استمعت إلى كل هذه المآسي وانتابني إحساس قوي بالظلم. نحن نجلس هنا، مسترخين، في الهواء البارد، قادرين على تناول اي شيء من البوفيه وسكب القهوة لأنفسنا، وتناول الوجبات الخفيفة، والكعك، وحتى الاهتمام بما نسمعه. لكن واقع الامر لا يتغير: صور رهيبة تمر أمامنا، أحيانا نغلق أعيننا، ونلعن ونسب في غضب عاجز، ولا شيء يحدث. العالم في الخارج كما هو ولا يتحسن. هم فقط يخبرونا كيف يبدو العالم. لنا فقط عن ذلك.
هذا هو الواقع – صحفية صديقة رافعة ايديها في يأس: لن يأتي أحد الى هنا اذا لم يتم توفير ظروف جيدة لهم.
هذا صحيح. هل يمكننا أن نسير في الشوارع الحارة، وننظر في المنازل الخانقة، ونتأمل عيون الناس الغاضبة والعاجزة بسبب لامبالاة العالم؟ في حين بامكاننا أن نسمع الشيء ذاته وتكتب عنه دون أن تترك ركن الرفاهية –الفندق- الذي نقيم فيه؟
وإذا كنت مصمما، فيمكنك شرح كل شيء بناء على الوثائق فقط التي تسلمناها في “الورشة” – كتيب بعنوان “حالة حقوق الإنسان في القدس والوضع الإنساني لسكان القدس في ظل الانتهاكات الإسرائيلية عام 2023”. (تشمل فصولا فرعية: “وضع حقوق الإنسان في قطاع غزة” و”وضع حقوق الإنسان في الضفة الغربية”)، دراسات وتقارير علمية، بالاضافة إلى شهادات ضحايا العنف الإسرائيلي، أستطيع أن أضيف هنا ان البيانات حقيقية ومرعبة.
وهكذا: في النصف الأول من عام 2023، أطلق الجيش الإسرائيلي في القدس النار على تسعة مدنيين وقتلهم، واعتقل 1800 شخص، وعذب المعتقلين (بما في ذلك الضرب على الوجه، والركل، والحرمان لفترات طويلة من النوم، والإذلال المتعمد)، وعرقلة الحركة عبر حدود دولة فلسطين. يقف الناس لساعات للوصول إلى العمل أو الطبيب أو المدرسة. تمنع السلطات الإسرائيلية الوصول إلى أماكن العبادة، وتعتقل المصلين هناك- في عام 2023، تم إخراج 631 شخصا من المسجد الأقصى بالقوة، وتم إطلاق الرصاص المطاطي على المصلين في باحة المسجد. غالبا ما كان المتعصبون اليهود يقتحمون المسجد لزعزعة سلام المصلين، الأمر الذي أدى بالطبع إلى حدوث أعمال شغب واعتداءات متبادلة.
لم تكن أماكن العبادة الإسلامية وحدها هي الهدف لهجمات المتعصبين اليهود. فقد تمت مهاجمة أماكن مهمة للمسيحيين من مختلف الشعائر. يتحدث الكتيب بشكل جاف عن المزيد من أعمال المستوطنات اليهودية غير القانونية التي تنتهك القانون الدولي، وعن المزيد من أعمال العنف التي يرتكبها المستوطنون اليهود ضد البلدات الفلسطينية، ويستشهد ببيانات عن مقتل 142 فلسطينيا في عام 2023، بما في ذلك 93 طلقة في الرأس، و55 طفلا قُتلوا. متأثرين بجروحهم في الجزء العلوي من أجسامهم، التي يشير مؤلفو الكتيب إلى أنه تم إطلاق النار عليهم عمدا. من السهل العثور في الوثائق على كلمات السياسيين الإسرائيليين البارزين الذين يدعون بشكل مباشر إلى قتل الفلسطينيين ومحو قراهم من على وجه الأرض (“أرى نتائج رائعة جدا. أريد أن أرى هذا المكان يحترق”، “لا بد من تدمير قرية حوارة”). الوثائق توضح مأساة الأطفال الفلسطينيين الذين قُتلوا خلال الاحتجاجات، وتقييد السلطات الإسرائيلية لحركة الفلسطينيين، مما يحول أماكن إقامتهم إلى سجون كبيرة، وصعوبة الحصول على الرعاية الطبية الأساسية، وتقييد الوصول إلى المياه والكهرباء والغاز، وتدمير الآبار وأشجار الزيتون، وتقييد حقوق الصيادين الفلسطينيين في الصيد. ويتحدث المنشور عن الهجوم الذي شنه الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة في شهر مايو من هذا العام، الذي استهدف المدنيين وأدى إلى مقتل النساء والأطفال. وأخيرا، فهو يسرد رتابة الاتفاقيات والوثائق الدولية التي انتهكتها إسرائيل، وما زالت تنتهكها، أثناء احتلالها لفلسطين. نهاية الوثيقة.
لمدة يومين استمعت وقرأت وتحدثت مع أشخاص ما زالت النكبة مستمرة بالنسبة لهم. هل نعرف ما هي النكبة؟