الإرهاب في باريس” والتداعيات: الخوف (1/5)

شغل العالم في الآونة الأخيرة بالاعتداءات الإرهابية التي عصفت بمدينة باريس في فرنسا إذ ضربت سبع عمليات مختلفة بالباريسيين لتؤدي الى مقتل 129 شخصا، ولم يكن المتهم مجهولا، إذ سرعان ما أعلنت (الدولة الاسلامية) أو تنظيم “داعش” مسؤوليتها عن الارهاب…فما الذي حصل؟

لماذا اليوم ولماذا فرنسا؟ وهل تكسب “داعش” من أعمالها الإرهابية (التي تسميها جهادية) الخارجة عن أماكن سيطرتها الرئيسة في العراق وسوريا وأماكن أخرى؟ وهل هناك من صراعات عالمية واقليمية أو داخلية لدى تنظيمات الأرهاب أسهمت أو عجّلت بذلك؟ وفي سؤال آخر لماذا هذا العنف؟ وما هي أسبابه؟ ولربما نجيب معا على شكل العمل أو الاستراتيجية المتبعة لـ”داعش” وهي تلك المرتبطة بالنشوء والتكون؟ ونعرج على الاستغلال الاسرائيلي للأحداث كما هي عادة السياسة الصهيونية.

لماذا الآن؟ وهو سؤال مهم فعلا نستطيع جوابا عليه القول إن تنظيم “الدولة الاسلامية – داعش” يعيش بالحقيقة في ظل حالة الحصار وهي التي تولد لديه خوف شديد يؤدي به ليس للشلل بل للتقدم والتعويض، فالخوف عند الانسان قد يشل العمل ويربك الأقدام؛ ولكنه عند البعض الآخر قد يؤدي للقيام بأعمال إجرامية في محاولة لاستعادة الأمان المفقود والتفلت من حالة الحصار، مقرونا مع محاولة اثبات الذات خاصة أمام الأتباع والتحايل على حالة الحصار بإظهار القوة.

الفكر الداعشي يعاني من حصار فكري اسلامي مستنير في العالم الاسلامي بل في العالم كله، كما يعاني من حصار فضائي الكتروني ناهيك عن الحصار الميداني المرتبط بالضربات الموجعة، وهذا ليس شيئا بسيطا لمن البناء لديهم يستند للبناء العقدي في جزء كبير منه، مع حالة الإبهار والخرافة، وحيث-كمثال ميداني- تحقق نجاح مراكز إعادة التأهيل لأصحاب الفكر السلفي-الجهادي في السعودية ونجاح في المحاججة الفقهية، وإعادة الكثيرين الى جادة الصواب (نموذج مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، ونموذج مركز صواب في دولة الامارات العربية المتحدة)

خوف واحباط وتخلي

إن الخوف لدى التنظيم المتشدد ينبع من حالة الحصار الالكتروني لمواقعهم واتصالاتهم وشبكاتهم وفكرهم المتطرف، إضافة لحصارهم على الأرض عبر الضربات الجوية والميدانية الموجعة، وتقهقر “داعش” عن بعض مناطق نفوذها في العراق وسوريا.

إذن فالتنظيم بالحقيقة واقع في أزمة كبيرة وخطيرة نتيجة كل ما سبق، دون أن ننسى أن تأثير الضربات الجوية يشمل خطوط الامدادات الاقتصادية وخاصة على خطوط وآبار تهريب النفط، وحركة (المجاهدين) (المهاجرين) اليهم من خارج مناطق الصراع، ومن الممكن أن نقول أيضا أنه الآن كان عليهم في هكذا وضع-حسب فكرهم وتعبئتهم- التوجه للضرب خارجيا تعويضا أو انتقاما لشعورهم العارم بالأحباط حيث يتراقص أمام أعينهم شبح فشل المشروع = دولة الخلافة.

ويعانون من الخوف ومن الإحباط من قسوة الداعمين والممولين وخداعهم أو انسحابهم من الدعم وهم أولئك المرتبطون أو الممثلون لدوائر ودول إقليمية وغربية بوضوح.

أما السبب الثالث لـ”غزوهم” الغرب عبر الضرب في عمق أوروبا فهو راجع لحالة التراجع في الاستقطاب البشري والتدافعات بين الفصائل الاسلاموية المتطرفة المتحاربة خاصة في الشام.

ونتساءل معا هل أن الحصار والخوف والشعور بالإحباط من فشل المشروع ومن الداعمين الاقليميين والغربيين، وتراجع الاستقطاب والتجنيد يكفي وحده ليبرر التوجه للضرب بالخارج بمثل هذه الشدة؟ نقول: إن تفسير هذا الأمر يستدعي منا النظر في المكاسب الممكن أن يحققها الداعشيون مما فعلوا؟ فهل هم فعلوا ذلك كالقط الذي حوصر فبدأ يخرمش؟ أم هم مثل الذئب الذي يترقب ضعف ضحاياه فيضربهم في الخاصرة الرخوة فيتوجعون؟

مكاسب “داعش” وبشار

إن مكاسب الإرهابيين وعلى رأسهم تنظيم “داعش” باعتقادي كثيرة، فليس الكاسب الأول من (غزوة باريس) كما يظن البعض هو نظام بشار الأسد فقط ولا النظام الروسي الذي فكفك الحصار الغربي من حوله فاستفاد نعم، ولا أميركا فقط بتأكيد الحاجة الدائمة لها وتكريس مصالحها في ظل رعايتها للفوضى “الخلاقة”، ليس هؤلاء هم الرابح الأول أو الأوحد (تعاملت الولايات المتحدة مع دول اقليمية أخرى على رأسها إيران وبعض دول الخليج مع بزوغ نجم “داعش” وتنظيمات الارهاب بشكل انتهازي وتسخيري، فإما دعموها أو سهلوا لها العمل أوغضوا الطرف عنها)، إن الرابح الأكبر هو تنظيم “داعش” استنادا لأهدافه حيث أراد التنظيم المحكم ذو العقلية الاستراتيجية التالي:

أن يعلن في قنبلة إعلانية دعائية عن ولادة التنظيم الأول القادر على الوصول لمراكز القرار في العالم الغربي فيسجل انتصارا جديدا، وهو يعيش على الانتصارات (وان كانت موهومة) ويعيش على الأساطير وهي كثيرة.

وأراد بهذه الضربة القوية في (دار الكفر) أن يوضح بالنار أن مستوى الايذاء الذي يتعرضون له في العراق والشام لم (ولن) يستطع أن يلغيهم، فيقولون بصرخات متتابعة “نحن هنا” على جثث الأبرياء، تماما كما تفعل (اسرائيل) بارتكابها المجازر اليومية في فلسطين.

3-ان إظهار القوة والنصر والزهو، ورسم أسطورة (تسقط بمثل هذا الفعل أسطورة القاعدة وترسّم داعش مكانها، مقابل غزوة نيويورك تبرز غزوة باريس) لا يخلو من قيامهم بتسليم رسالة للمعسكر الغربي ذات طابع تقريعي عنيف على اعتداءاته التاريخية على (دار الاسلام)، وأيضا في محاولة لاستجلاب (حملة صليبية) أو كشفها للمجندين المحتملين، فهم بهذه الرسالة التلبيسية يضعون الغرب أمام معضلة الرد على التنظيم في أراضيهم في أوروبا أي بالتضييق على المسلمين في أوروبا، أو الرد بالهجوم البري على (دار الاسلام) و(مركز الخلافة) وفي الحالتين يقع الغرب في مصيدة (حرب صليبية) هي مطلب ومبرر التنظير الدائم لدى قيادة التنظيم الموجهة لجهلاء الأمة حيث لا يغفل التنظيم أبدا عن ضرورة زيادة عدد المنتمين له، وهذا يحتاج لتواصل التحريض فالاستقطاب والتجنيد الجديد ما يقتضي انقياد مرتبط بفكرة ورموز ونصر، حيث ينتعش في هذه الحالة العقل السلفي–الجهادي المليء بالأساطير (ومثله لدى المتطرفين في المسيحية واليهودية والهندوسية اليوم أمثال وأشباه كثيرة).

4- كما ان خطاب (المظلومية الاسلامية) أو خطاب المؤامرة العالمية على “دار الاسلام” وأصحاب مدرسة الفسطاطين ودار الحرب مقابل دار السلام، وإما نحن وإما هم التي يشتركون فيها مع غالب التنظيمات الإسلاموية الأخرى حتى تلك الموصوفة بالمعتدلة، (أنظر تحالف الاخوان المسلمين مع التنظيمات الارهابية الاسلاموية فترة حكم محمد مرسي في مصر وما خلفته لاحقا) يحتاجون فيها دوما للتمدد واثبات الذات بالاستقطاب الجديد والبيعة، ولا استقطاب أو بيعة للعامة إن تراجع الرمز أو الأسطورة أو خبا نجم (الدولة الاسلامية) المنتصرة، والتي مكن الله لها في الأرض.

5- عقلية النصر أو استجلاب النصر تفترض وتحث على (جهاد الطلب) وما يرتبط به بقتال الكفار (كافة) (كما يقاتلونكم كافة) وغزوهم في عقر دارهم، و(أرهابهم=”ترهبون به عدو الله وعدوكم”، واللفظة أي الإرهاب مستخدمة عندهم بمنطق أيجابي استنادا لفهم مغلوط للآية القرآنية) وسلبهم، إذ ان عقلية “الغزو والسلب” متلازمتان في الفكر الجاهلي المتطرف.

6- لنضف الى ما سبق عاملا آخر إذ إن (داعش) بانتقاله من ضرب “العدو القريب” الى استهداف “العدو البعيد” يقوم بإجراء وقائي حيث الحفاظ على المنجزات على الأرض (أرض الاسلام ودار الخلافة…أو مناطق هيمنة وسيطرة البعثيين، أو هيمنة السنة…) يستدعي عمليات وقائية أحيانا تربك الآخر أي العدو، وتعطي “داعش” فسحة من الوقت ليعيد ترتيب أوراقه الداخلية والخارجية، وتبث الأمل وروح الإقدام لدى العناصر المنتمية.

7- إن مثل ضربات باريس -وربما ما سيعقبها- توفر للتنظيم الناهد نحو زعامة العالم الاسلامي أيضا مجال اختبار عملي لقوة عناصر تنظيمه وشبكاته في العالم في امتحان لا بد منه لجموع خلاياه المنتشرة في كل مكان، وخاصة في خط فرنسا-بلجيكا-ألمانيا.

من كل ما سبق يمكن أن نلخص: إن التنظيم يحاول بالتوجه نحو مقارعة (العدو البعيد) ان يكسب عدة نقاط الأولى هي إعلان انطلاقة عالمية للأسطورة وبقوة وإبهار، وثانيا استدراج للمعسكر الغربي (الصليبي) في مصيدة وحرب، وثالثا يحقق تجنيدا واستقطابات بشرية جديدة، ورابعا يحقق تكريس المبادئ “العقدية” وضرورتها (جهاد الطلب) وغزو عقر دار الكفار وتحقيق الانتصارات، أما خامسا فتأتي العمليات الارهابية هذه كإنذار للغرب أن يبتعد عن (أراضيهم) وكعمل استباقي أو وقائي لمحاولة صيانة ما امتلك من أرض ومقدرات ونفوذ، وبذات الوقت اختبار للخلايا الجديدة التي انضمت او استقطبت في محطات الخارج.

كتب بكر أبو بكر

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

فتح ميديا أوروبا
Exit mobile version