خطوط باقية

عام 1979، دمرت جرافات الاحتلال الإسرائيلي، منزل أحمد عاصف يوسف في قرية الجانية غرب رام الله، عقب اعتقال ابنته عطاف يوسف.

بعد فترة قصيرة، قرر والد عطاف -التي رحلت قبل عام تقريبا-، إعادة بناء المنزل المدمر، وقبل الانتهاء من ذلك، طلب من جاره عائد مظلوم أن يخط له على حجر مسطح عبارة “والله يا دار لو عدت بأهاليكِ.. بالشيد لطليكِ.. وبالحنة أحنيكِ”، ليتم وضعه على واجهة المنزل الجديد.

في العام التالي، أصبح عائد مظلوم مقصدا لأصحاب المنازل الجديدة، حيث كان يخط بالفحم تاريخ بنائها وعبارات أخرى مثل: “هذا من فضل ربي، والملك لله، ويا داخل هذه الدار صلي على النبي المختار”.

“عندما كنت أعمل في مدينة اللد عام 1990، مررت بحارة قديمة فيها، وشاهدت رسما لأسدين على حجر أعلى باب أحد المنازل لعائلة فلسطينية ارستقراطية تم احتلاله عام 1948، وإلى جانب الرسم دونت سنة البناء عام 1924، فيما كنت أشاهد رسومات أخرى لحبات البرتقال على واجهة المنازل في مدينة يافا، كنوع من التغني بهذه الفاكهة التي اشتهرت بها المدينة”، يقول عائد مظلوم.

رغم أن عائد يرسم الخطوط العربية بمختلف أنواعها على الحجارة منذ السبعينات، حيث يقصده الناس من مختلف المناطق ليحفر لهم بأدواته البسيطة لوحات حجرية يؤرخ فيها بناء المنزل، وهذا ما يشكل لديه شعورا بالفخر والفرح، كون خطه سيبقى أمد الدهر على واجهة المنازل، إلا أن هذه المهنة أصبحت تأخذ بعدا آخر.

يقول: “الحجارة المؤرخة على واجهة البيوت ليست لإضافة نوع من الجمال فقط، بل كشاهد وإثبات وجود أن لهذه المنازل أصحاب عاشوا فيها، فمثلا عندما نذهب ليافا، نرى حجارة توثق أسماء أصحابها الفلسطينيين، الذين هجروا منها إلى الشتات”.

عندما التقينا عائد مظلوم كان يستظل تحت شجرة سرو كبيرة في قريته الجانية، ممسكا بيده اليمنى إزميلا، ومطرقة باليسرى، وينقش خطوطا عربية على الحجر.

شرح مظلوم لنا مشاعر الفرح التي تعتريه أثناء قيامه بهذا العمل، والتي سرعان ما تنقلب إلى حزن عندما يضطر لحفر اسم شخص توفي خاصة إذا كان من أقربائه أو أحد معارفه.

“عندما أحفر على الحجارة تاريخ المنازل أشعر بسعادة، لأن ما أخطه سيكون أول ما يجذب الناظرين للمنزل، وسيبقى هذا طيلة الزمن، ولكن عندما أكتب على شواهد القبور فإنني أحزن، خاصة إذا كان اسم المتوفى أحد أقربائي أو معارفي” يقول مظلوم.

بدأت موهبة عائد، عندما كان في الـ 7 من عمره، وتحديدا في عام 1972، حين رسم طائر الشنار الذي كان يصطاده والده على الورق.

انتبه والداه لموهبته حيث لقي تشجيعا منهما، ومن معلميه بمدرسة القرية خاصة مديرها محمد سمحان، الذي كان أستاذا للغة العربية، الأمر الذي عزز الثقة لديه وانعكس على موهبته التي صقلها، وأصبح أكثر إبداعا من ذي قبل.

شدّته لوحات الخطاط المقدسي محمد صيام، حيث سعى جاهدا لأن يتتلمذ على يديه ويحصل على شهادة تؤهله لأن يصبح خطاطا معتمدا يكسب من خلالها رزقه، وهذا ما كان، حيث بدأ بالتعلم منه عام 1988، ولكن بسبب انتفاضة الحجارة كان يأخذ دروسا بشكل متقطع، ولم يتمكن من إنهائها جميعها، لأن صيام توفي إثر نوبة قلبية حادة عام 1991.

عرفه الناس وأصحاب المحاجر في منتصف التسعينيات، وكانوا يأتونه بالحجارة ليوثقوا تواريخ بناء البيوت، وآنذاك كان يستخدم الفحم للكتابة على الأحجار، كما أنه كان يرسم بريشته لافتات لأسماء المحلات التجارية.

“تُركت مهنة الخط العربي للحواسيب مع التطور التكنولوجي الهائل، والكثيرون أصبحوا يَدعون أنهم خطاطون رغم أن ما يقومون به هو توجيه الأوامر للحواسيب التي تقوم بكل المهمة عبر برامج متطورة، فالخطاط هو من يخط بيده ويتصبب عرقاً ليخرج أفضل ما عنده”، يضيف مظلوم.

شارك مظلوم بانتفاضة الحجارة من خلال موهبته، حيث كان يخط شعاراتها على جدران قريته، ويرسم صور الشهداء بالألوان الزيتية، ويتذكر أن أول شهيدين رسمهما هما: حسن معالي وابن عمته عبد الله عطايا، من بلدة كفر نعمة غرب رام الله، اللذان استشهدا عام 1988، واعتقل على خلفية هذه الرسومات عدة أشهر.

نقل عائد الذي يعمل أيضا محصلا ماليا لدى مصلحة المياه موهبته إلى أبنائه، حيث تخرج ابنه جهاد من كلية الفنون الجميلة بجامعة القدس، وإياد من كلية الآثار ويحترف النحت والرسم بالفسيفساء، فيما ابنه أحمد مضى على نفس الخط، إضافة إلى أن حبه للفن انعكس على إنشائه لمزرعة خاصة بطائر الفزن ذي الألوان الجذابة، وعصفور الكناري.

يرى عائد بأن الفن مجاله واسع، ويمكن للشخص أن يبدع فيه إذا أحبه وابتكر أشياء جديدة، إذا توفرت لديه الإمكانيات الفطرية والعقلية والأدوات.

وفا- نص: إيهاب الريماوي/ فيديو: معن ياسين

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا