الرئيسيةمختاراتمقالاتالماء وعِطر الفدائي ... من تجربتي 2 من 3

الماء وعِطر الفدائي … من تجربتي 2 من 3

بقلم: محمد قاروط أبو رحمه

عِطر الفدائي في الوطن

في لقاؤنا المفاجئ في فلسطين عام 1994، كانت جموع شعبنا تستقبل الفدائيين العائدين إلى وطنهم.
كان المشهد عاطفيا، حيث تذكرت فيه الشهداء الذين زرعناهم على ضفاف الوطن وفي الغربة، وتذكرت الجرحى الذين سبقتهم إلى الجنة أجزاء من أجسادهم.
كانت الدموع سخية من الجميع، فلقد كانت تختلط دموع الفرح مع دموع ذكرى أحبة سبقونا إلى الجنة.
كنت متوجها للقاء مجموعة من الأطباء من مستشفى مدينة جنين في فلسطين وهم حضروا خصيصا للاحتفال بعودة القوات إلى فلسطين، كان على رأسهم د. محمد أبو غالي الذي أجبرته أنا على إكمال دراسة الطب، ولا زال يذكر ويحفظ ذلك، وعاد إلى الوطن عام 1986 طبيب جراح أطفال، كان يبحث عني.
أثناء ذهابي للقاء الأطباء كانت رائحة عطر فوّاح تمر من جانب رأسي، ولكنني لم التفت إليها ولم تكن تعني في ذاكرتي شيئا… لوهلة.
قفز أمامي فجأة رجل…. فإذا به الفدائي الأنيق وكان لا يزال يحتفظ بجماله.
قبل أن احتضنه، سألته بدهشة: ما الذي جاء بك هنا؟ وكيف؟
قال: جئت لأفي بوعدك! اعرف أن هذه اللحظة لن تفوتك أبداً، وقد جئت بجوازي الأوروبي!
أضاف: تذكر أنني ولدت هناك.
ثم سأل مستغربا: الم تنتبه لرائحة عطري؟!
مشيت خلفك أكثر من مئة متر وأنا ارشّ العطر عليك ولم تتذكرني؟!
أهديتك نصف دزينة من عطري لتتذكرني ولم تتذكرني!.
ضحكت طويلا ثم قلت له: عطرك في السوق وهو متاح للجميع، وأنا في فترات انقطاعنا عن بعضنا، زرت قبرص بشقيها، ومكثت في الجزائر وتونس أشهرا، وزرت اليونان، وعدت إلى لبنان وسجنت مرتين… الخ، فهل تعتقد انك الوحيد الذي يستخدم هذا العطر؟
أصدقك القول أنني عندما شممت أول رجل يضع نفس عطرك فتذكرتك، وفي المرة الثانية تذكرت الذي شممت رائحة عطرك عليه فتذكرتك أيضًا، فطالت سلسلة التذكر حتى تبعثرت الذاكرة.
قلت له أغمض عينيك، فاستغرب أصدقائه من طلبي!
أغمض صديقي الجميل عينيه فسألته: هل تتذكر رائحة الأحذية في الخيمة الفلانية؟ ورائحة البنادق والجوارب والدم؟
قال: أتذكر، ورائحة عرق الجريح فلان وأنت تحمله على كتفك وعرقه ودمه تنساب على جسدك، فبكى وأبكانا.
رائحة العطور زكية بالطبع، ولكنها قد تبعثر الذاكرة، لكن ذاكرة عرق الإنسان وطلّته الفواحة لا تنسى.
لعرق الإنسان مصنع واحد ينتج نوعا واحدًا من الرائحة، لا تشبهها رائحة أخرى أبدا.
لعرق كل إنسان وطلّته بصمة في الأنف والحنجرة، عرق الإنسان ماء، وكل جزء من قطرة عرق الإنسان لا يشبهها أي جزء من أي قطرة ماء في الكون…. هذا ما قاله عن الماء العالم الياباني ماسارو إيموتو، الذي اثبت أن للماء ذاكره، وان في كل جزء من قطرة ماء طاقة، وان الماء يتأثر ويتفاعل مع المشاعر الإنسانية، تكبر طاقته بالحب وتنخفض بعكسه.
الماء كائن حي، وهو سبب الحياة. (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ الأنبياء)، عرق الإنسان كائن حي.
عرق الإنسان كائن حي، ينتجه مصنع حي في كائن حي تستطيع أن تهذبه وتهديه بفرح وسرور لمن يستحقه، وهو حي.
رائحة العطور زكيّة، وفواحة ولطيفة، لكنها مع ذلك تنتج في مصانع حديد ميت، ينتجها عمال يتقاضون أجورًا مقابل عملهم، وبلا حياة، وتعبئ في زجاجات وتنقل وتخزن وتوضع على رفوف ميتة، نشتريها ميتة لنهديها لحبيب حي على أمل أن يحيينا!.
أنا لست ضد العطور، فهي شذية، ونحبها، ولست ضد شركات إنتاجها، ولا حتى استخدامها،
ولكني متردد مع ذاكرة العطور؛ لأنها برأيي ذاكرة متنقلة وتتبعثر بالتعدد لمن يضعونها
أنا قد أكون ضد العطور “جُزْئِيًّا” لأنها ميتة بأصل مكوناتها لا حياة فيها بذاتها، أو لأنها على شذاها الجميل بالحقيقة لا تقارن بالماء الحي، فيكف ستلهب ذاكرتنا وتلهب مشاعرنا؟.
العطور بلا الإنسان ميتة وبه تحيا، وبالماء يحيا الإنسان.
إذا أشعلت العطور مشاعرنا، فإن مشاعرنا في تنبّه شديد!.
تنقل الفدائي الدكتور والأستاذ الجامعي الجميل الأنيق بين رام الله وأوروبا أستاذاً للفلسفة في الجامعات الأوروبية.
زارني آخر زيارة عام 2014، وكان بلا عطر خارجي أبداً، حضنته وشممته، وذكرت له أن عطرك علمني دروسًا كثيرة.
سأذكر لك منها واحدة.
في العام 1996 نقلني الشهيد الخالد ياسر عرفات من القوات العسكرية إلى وزارة مدنية، كنت قد ساهمت في بنائها فكرا وهيكلية.
يوم ميلاد زميلي في إحدى الوزارات، هاتفته لأهنئه بيوم ميلاده
قال: أنهى زملائي الاحتفاء بيوم مولدي، وخصوني بزجاجة عطر
فقلت له: هذا فساد.

للاطلاع على الماء وعِطر الفدائي … من تجربتي 1من 3

 

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا