أنا كما أنا

بقلم: سائد سلامة

توقفت البوسطة (حافلة تُقل الأسرى) على نحو مفاجئ في عرض الشارع. فتواثبت الأجساد في المقاعد وراحت تصطدم بمساند المقاعد الأمامية. أما هو فكاد يسقط على أرض الحافلة لولا يد الأسير الذي يجلس إلى جانبه؛ كان يغط في النوم عندما انتفض مستيقظاً بفعل تلك الرجَّة التي أحدثتها الكوابح قبل أن تصطدم الحافلة بشاحنة أمامها. ولما صفعه الفزع راح ينفض عن عينيه أثقال ذلك النعاس، لكن من دون جدوى. كان منهكاً يستبد بجسده تعب تراكم على مدى ثلاثة أيام، هي الفترة التي قضاها متنقلاً بين المعابر قبل أن تأخذه هذه البوسطة لتحط به في المحطة الأخيرة، سجن هدريم.

كان الجميع مبعثرين على ضفاف النوم الهارب. أجساد متهالكة تحاول أن تحتال على نفسها وعلى ظروف السفر باقتناص إغفاءة خاطفة. ومثلهم كان. فأحنى رأسه وأسنده إلى ظاهر كفي يديه المكبلتين، اللتين استندتا بدورهما إلى المقعد أمامه.

راح يسبح فوق أمواج الخيال، ويعبر لجاج الماضي الذي مرَّ سريعاً مثل غيمة وحيدة. رأى وجه أمه الذي تغضَّن على حين غفلة. وتشابكت على صفحته حكايات غاب عنها، ورأى فيه وجهه الذي كان يبزغ من عينيها في كل زيارة تأتيه قبل أن يصدر قرار بمنعها.

قالت له: كبرْت”. وكان كعادته يفرد ابتسامة رطبة ويردد وراءها مؤكداً: “كبرنا”. ثم يتبع ذلك بضحكة ساخرة لكي يبث لها انطباعاً بعدم الاكتراث ويمنحها دفعاً من العزيمة التي تنهض بمعنوياتها.

في الزيارة الأخيرة قبل عام ونصف، أخبرته أن حفيدها من شقيقه الأصغر دخل إلى المدرسة، من دون أن تطنب في ذلك. كان بادياً أنها ترغب في إضافة حديث إلى حديثها، لكنها تمنّعت، كأنها بالصمت تستدرك شيئاً فاتها. كلام كثير كانت تبتلعه ولا تنطق به، لكن حروف كلماته كانت تبدو متحيرة في عينيها فتفصحان عنه مبهماً. لا ريب في أنها كانت تخفي قلقاً يسكنها إزاء سنّها المتقدم، وما كانت تريد أن تفصح عن ذلك. أما هو فقد بدا مسترسلاً يحاول استنطاقها عن التفاصيل، مُظهراً اهتمامه بما تقول، ومتجاوزاً تلك المناطق الملتبسة التي تشتعل على تربتها شغاف أم يضنيها أرق السنين الجافيات من عمر ابن تجاوز السادسة والأربعين.

متى سأرى أبناءك؟ قالت له في إحدى المرات. كان يظن أنها تكشف عن رغبة مثلما هي عادة الأمهات. وما كان ليخطر له أن الإفصاح عن تلك الرغبة إنما هو إعلان الدخول في الوقت الضائع. ها هي تمر في خاطره على جناح الشوق وقد حال الزمن دون أن تراه هو، أو أن يراها. يومها قال لها: “كل شيء بوقته حلو”، مع أنه كان يدرك أن النفوس المعصومة عن المساومة لا يصلها شيء إلّا متأخراً.

هل مرّت كل تلك الأعوام؟ سبعة عشر عاماً قضاها معلّقاً في دوائر الفراغ وستة أعوام قبلها من دون أن يفقد عزيمة المثابر في ملئها. فقد كان في عداد الأطفال حينها، ولما خرج من السجن رأته قد كبر بضربة قدر جعلته رجلاً من دون أن يتاح لها أن تشهد ذلك. فأحسّت كما لو أنه فرّ من تحت يديها، وتباعد في طريق راحت توغل في الابتعاد.

قالت له: كيف هربت مني؟ تسربتَ إلى جوف الزمن وصرت مثل عقرب الساعة تدور على محور من دون أن تتوقف عند محطة معينة. السجن يأكل عمرك. وعمرك يأكل قلبي.

كلام أمه ينقر في رأسه مثل الجرس، فيحثه على طَرْق الكلمات وقد تحول ليصبح المحطة التي يتوقف عندها الآن. لينظر إليها بعيون المستقبل وبعين طرح الأسئلة من جديد: ترى ما الذي يجعل وقع الكلام مغايراً مع أنه لطالما وقف عليه؟ ألأنه كبر، أم لأن تقدُّمها في السن بات يقلقه. لقد كبر هو، ووالدته كبرت، والأمراض التي أصبحت تستوطن جسدها ليست وعكات صحية مثلما كان يردد على مسامعها. فهل يعقل أن يصدق ما ابتكره هو بنفسه، وهو الذي ما كان يفعل ذلك إلا من أجل أن يتساوق مع حديث يدار تحت مقصلة الزمن.

أخيراً وصلت البوسطة إلى السجن

مد يديه شادّاً أطرافه إلى الخلف، ثم زفر أنفاساً ليفرغ رئتيه، كأنما يخفف من أثقال السفر. ثمان ساعات قضاها مكبل اليدين والقدمين على المقعد الحديدي. كان منهكاً الى حدود التداعي، ويشعر كما لو أن عظام جسده على وشك أن تتهشم. توارد إلى خاطره بعض الصور من آخر مرة كان يقبع فيها داخل هذا السجن، كان ذلك قبل عامين، حين تم نقله إلى سجن آخر في قلب الصحراء. ضحك في سرّه وهو يستذكر كلمات ضابط الاستخبارات عندما أخبره بالقرار..” انتهت مدة صلاحيتك لا أستطيع احتمال وجودك هنا ولو ليوم واحد.”

ها هو يعود إليه مقذوفاً على سهام النبذ والعقاب، وكذلك محاولات التقويض التي يثبت عقمها في كل مرة من جديد. صعدت إلى شاشة خياله صورة ذلك الضابط. وانبسطت أركان مزاجه وهو يستظهر مُرّه كرد على السؤال. تُرى كيف سيكون رده حين يراني.”

قال له الضابط حينها.. أما آن لك أن تخرج من هذه الفقاعة التي تقبع فيها؟ وقال له ضابط آخر: ألم تتعلم بعد كيف تُحلّ التناقضات.

كلنا نغدو أبطالاً ونحن نقف معتدّين بأنفسنا، كلٌّ في موقعه، أنت أمام الأسرى ستحافظ على صورة القائد المبدئي الذي لا يهادن، بل ويأتي بالإنجازات أيضاً، وأنا سأظل أحافظ على صورتي المشرقة كضابط قوي يسيطر على زمام الأمور ويفرض الانضباط والاستقرار.

يومها أصرّ على موقفه في إرجاع وجبات الطعام تضامناً مع الأسرى الإداريين. وأصرّ أكثر على تقديم ورقة الاحتجاج رغماً عن “الدوبير” المتحدث باسم الأسرى، “لكي يفوّت عليه إمكان التلاعب بالوجبات الراجعة التي يعملون على دمجها بوجبات أُخرى ويجري استلامها خفية عن عموم الأسرى من القائمين على إدارة شؤونهم.

عبرت الحافلة البوابة الرئيسية للسجن، ثم توقفت أمام المبنى الذي يجري فيه استقبال الأسرى القادمين. عُزل هو، ولم ينزل أحد سواه في هذه المحطة. كان يقف وحيداً أمام أحد أفراد وحدة النقل – النحشون – بهيئته المتهالكة.

وقد طافت به هذه اللحظة لتعتصر من روحه لحظات مريرة من الانتظار المقيت. أخذ “النحشون” يحل الأصفاد من يديه وقدميه، بينما كان ضابط الوحدة يحمل الملف الخاص به ويناظره بعيون الفضول. توجه إليه الضابط في عبارة هازئة قبل أن يقوم بعملية التشخيص: “تعيش حياة عصرية، أتحب السفر إلى هذا الحد؟”

لم يستطع أن يتمالك نفسه ويبقى بارداً إزاء استفزاز كهذا، فردّ بحنق مكتوم: “هناك حمير تساعدنا على أن نكون حيث يجب أن نكون.” فأغلق الضابط الملف ولم يعلّق. ثم أُدخل هو إلى غرفة الانتظار ريثما يأتي الضابط المناوب. فوجدها فرصة لكي يعود إلى سابق تهويماته التي كان يحلّق فيها من وحي الذاكرة: “سأربيك. بأيدي الأسرى لا بيديّ وسترى.” هذا ما قاله له أحد ضباط الاستخبارات عندما أمر بنقله من السجن. وأقسم في سرّه بأنه سوف يعود. وسيقف أمام ذلك الضابط، وسيضحك حين يذكّره بكلامه الذي غدا بائساً في معناه، فمَن شبع من حليب أمه لن يكون إلّا ذاته مهما تبدلت الظروف. جاء الضابط المناوب يختال بنفسه، هو يعرفه جيداً ويعرف تصنيفه كأسير إشكالي، بحسب ما يتداولون. مد يده إليه مصافحاً، وقد وقعت عيناه على الحقيبة التي يحملها، فقال بنبرة مستهجنة:

– هذه فقط.

فأجاب مبتسماً:

– تكفي.

بادله الضابط الابتسامة وأردف وهو ينظر إلى الملف:

– أنت مَن يدفع الثمن في النهاية.

– إننا لا نجني سوى حصاد أيدينا. أجاب.

وسكت الضابط من دون أن يعرف ما يضيف

الزمن دوائر تبتلعنا إلى نهايات الأجل. فأيّ دائرة هذه التي ما زال يقبع فيها ولم يصل إلى نهايتها. كان يحلو له أن يستعيض عن اسم السجن بالدوائر. فهو نقطة بداية ونقطة نهاية متصلتين على محور اسمه التكرار. ها قد جعلته الأعوام يدرك أن كل شيء هنا قابل للتسميه ذاتها، وأن المراحل التي يعيشها تمثل لدى البعض المستوى الفلكي الثابت الذي يدور فيه ولا يقبل التأرجح أو التذبذب، تماماً مثل حاله التي تصفها كلمات غسان كنفاني حين قال: “ليس مهماً أن تبدأ مناضلاً ولكن المهم أن تنتهي كذلك.” فاليوم يعود إلى السجن الذي نُقل منه قبل عامين. واليوم غادر السجن الذي قضى فيه ستة أشهر بعد أن نُقل إليه من سجن آخر؛ أجل، إنها دوائر تدور وتُغلق، ثم تعاود الانفتاح لتعود وتُغلق.

ومهما اتسعت في نطاقها أو تقلصت، ومهما بلغت الفجوات فيها أو الحفر، فإنه لن يسمح لهذه الدوائر بأن تبتلعه. وسيظل يدور على محاورها متشبثاً بصفاته، ولن يسقط في ثقوبها السوداء ويتلاشى. سيظل يحمل أثقال الاستحقاق الذي يجعل منه مناضلاً وليس مجرد أسير يعدّ الأعوام وهو قابع في ثقب الانتظار.

قيل له كثيراً: أما تعبت؟ ويبدو أننا حين نختار مصائرنا الشاقة، فإننا لا نتخلى عن دوائرنا القديمة. لا نُسقط ذخيرتنا، ولا نخفف من أحمالنا ونحن نمشي على درب لا نعرف له نهاية، فالدوائر التي ندخل إليها نرسم محيطها بالقدر الذي نبتعد فيه عن مراكزها أو نقترب. هذا ما يمكن أن نطلق عليه التأثير، وهذا هو أيضاً ما يستجلب دفع الأثمان. إذا كان المرء بحد ذاته دائرة صلبة في مركز لدوائر مهلهلة. دخل إلى باحة السجن مشحوناً بانفعال العائد بعد غياب؛ تحلَّق الجميع حوله يصافحونه، وفي غمرة تلك المصافحات السريعة وقعت عيناه عليه. كان يجلس وحيداً. عينان غارقتان في ليل بعيد وكلمات تكاد تنفجر من نبعها المكتوم لتقول: “لا شيء يبقى على حاله”.

سار في اتجاهه وابتسامة مشرقة تعلو وجهه، مدّ يده مصافحاً، وعناق جمعَ الأفئدة على بساط الكرامة.. تلك التي قال عنها يوماً إنها مثل المعادن، تظل قيمتها في ذاتها. كان هذا يشغل منصب “الدوبير” في أحد السجون، وكان يحكم ويرسم كما يقولون. لكنه يبدو الآن مثل دمية عتيقة مهملة. ولعله، في نظر أقرانه، قد فقد سماته وبات قدَراً بلا قَدْر.

قال له الشاب وهو يضرب على كتفه:

– أين أنت؟

فرد عليه بلسان الزمن:

– والله، أنا كما أنا (متوقفاً).

كأن الزمن لم يمر، وظل واقفاً عند نقطة البداية.

تلك البداية التي نظن أنها رحلت وأصبحت من الماضي الذي لن يعود أبداً.

عن الكاتب:
سائد سلامة: أسير، من سكان جبل المكبّر جنوبي القدس، 44 عاماً. اعتُقل بتاريخ 30 آذار/مارس 2001، ودانته محكمة الاحتلال الإسرائيلية بتهمة الانتماء إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والمشاركة في خلية عسكرية، وهو يمضي حكماً بالسجن مدة 24 عاماً. تنقل في عدة سجون، وهو حالياً في سجن جلبوع. كان له دور قيادي في السجون، ويُعتبر من الوجوه الثقافية والإبداعية للحركة الأسيرة.

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا