الرئيسيةمتفرقاتثقافةعز الدين المناصرة.. الطفل الذي شرده الحنين

عز الدين المناصرة.. الطفل الذي شرده الحنين

نمر سعدي/ فلسطين

غاب عز الدين المناصرة.. وانتهت رحلة أحد أجمل عشاق فلسطين وحداة عذاباتها وأحلامها وانكساراتها.. الباحث بعمق ومشقة عن اكتمال القصيدة العربية، الشاعر الشاعر الذي لم نقرأه كما يجب ولم يلتفت إليه النقد العربي المحكوم بالنزعات القبلية والاعتبارات المزاجية الصرفة، وعاش طويلا خارج هالات التقديس النقدي المجاني وكواليسه.

بيد أنه يتفوق فنيا وشعريا وجماليا على أكثرية مجايليه من حيث تنوع مناخاته واستعاراته ودرجة صفائه التعبيري ونبض عصبه الشعري وجماليات صوره المجازية المدهشة.. الفارس.. العاشق ذو الظل المخملي اللامع، الذي قبض على هواء الحلم ونسي بيارات يافا وحلاوة عنب الخليل وفتنة السناسل وعذوبة الينابيع وروائح نباتات ربيع فلسطين.. ونسي هواء حقول القمح ولذعة طعم الجمال والحب والنبيذ ونايات الرعاة في خبايا قصائده المنثورة على زجاج نوافذ الوطن وبيادره الطافحة بالغلال.. قصائده المضيئة كحباحب ربيعية في شجرة ليمون ليلا.. المزهرة بالوجد والحزن الشفيف والمورقة بالسهر المشتعل في أحداق الأرق الوجودي.. ثالث ثلاثة.. الثلاثة الكبار.. حراس غيوم الطفولة وجلوة الأقحوان وعباد شمس القصيدة وندى حبق الجليل.. محمود درويش.. سميح القاسم وعز الدين المناصرة، الذين نستطيع بسهولة فائقة أن نجد تشظيهم المشع في أصوات شعرية عربية كثيرة، ونلمس أصداءهم بعيدة الرجع في المشهد الكلي للشعر العربي الحديث، متجاورة مع أصداء السياب، أدونيس، سعدي يوسف، عبد العزيز المقالح، أمل دنقل ونزار قباني.

المناصرة المؤسسة في رجل.. المفكر.. الباحث الأكاديمي.. الشاعر.. الطائر المتفرد في سربه.. المشروع التنظيري المهم والعميق والضروري لحداثة القصيدة العربية وتجلياتها، والصوت الشعري الأصفى والأبهى والأجمل والأكمل بعد محمود درويش وسميح القاسم.

كان المناصرة برأيي الأب الروحي لشعراء جيل الثمانينيات والتسعينيات الفلسطيني/ الأردني.. يشاركه الشاعر الفلسطيني الراحل محمد القيسي في هذه الأبوة الشعرية سواء اعترف أم لم يعترف بذلك شعراء ذلك الجيل.

يحتفظ صوت المناصرة بالصفاء الوجداني وبالصدى المجازي الكثيف.. ثمة سماء زرقاء فيه تضج بأسراب طيور الخريف المهاجرة. ثمة حقول قمح ممتدة على آخر مرايا الذاكرة الشعرية. ونداءات ممزوجة بحفيف الأنهار وطفولاتها.. وبرغبة الشاعر أن يقطف قمر حزيران الأخضر، أو ينثر سنابل أشواقه على بيدر الأنوثة الأزلي. ولو غطت على مسيرته تجربة النقد والتنظير للقصيدة الحداثية، فهو منظر وممارس لكل أنواع الكتابة الشعرية، شاعر تجريبي بكل ما في الكلمة من معنى، تصطبغ أنفاسه بالبكاء الكنعاني المثقل بالعذابات، ونجده أحيانا يتقمص الشاعر الجاهلي في طللياته ووقوفه على خرائب الأمس، ومرة يدخل في عباءة لوركا الإسباني، فينقر على أوتار عذبة ويأتي بقصائد قصيرة مضمخة وعابقة بعبير الشفق والغيم والزيتون والزنابق.

قصائد المناصرة مشتعلة بالحنين وبالطفولة.. ومضاءة بذاكرة الوطن الملونة، تمسك بخيوط اللهفة إلى السناسل والحارات وينابيع الماء والسلال وأزهار الصبار والجرار والقصب. لهفة متقدة بنار لا تغيب ولا تنضب ولا تنتهي.. حالمة بالمكان والزمان، وبقمصان جفرا وغواياتها وغزلانها البرية النافرة إلى آخر الحنين الأبدي في الأغنية الكنعانية الممتدة كدالية عاشقة…

“جفرا… كانت تنشد أشعارا… وتبوح

بالسر المدفون

في شاطيء عكا… وتغني

وأنا لعيونك يا جفرا سأغني

سأغني

سأغني

لصليبك يا بيروت أغني

كانت… والآن تعلق فوق الصدر مناجل للزرع وفوق

الثغر حمامات برية.

النهد على النهد، الزهرة تحكي للنحلة، الماعز سمراء

الوعل بلون البحر، عيونك فيروز يا جفرا

وهناك بقايا الرومان: السلسلة على شبكة صليب… هل

عرفوا شجر قلادتها من خشب اليسر وهل

عرفوا أسرار حنين النوق

حقل من قصب، كان حنيني

للبئر وللدوري إذا غنى لربيع مشنوق

قلبي مدفون تحت شجيرة برقوق

قلبي في شارع سرو مصفوف فوق عراقية أمي

قلبي في المدرسة الغربية

قلبي في النادي، في الطلل الأسمر في حرف نداء في السوق

جفرا، أذكرها تحمل جرتها الخمرية قرب النبع

جفرا، أذكرها تلحق بالباص القروي

جفرا ، أذكرها طالبة في جامعة االعشاق”.

وداعا عز الدين المناصرة.. عاشق جفرا الكنعاني.. الطفل الحالم الذي شرده حنينه في جهات الأرض.

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا