الرئيسيةمتفرقاتثقافةجمالية المكان وظلال الصورة في رواية "زرعين" لصافي صافي

جمالية المكان وظلال الصورة في رواية “زرعين” لصافي صافي

كتب: ناهض زقوت

يقول محمد برادة: “إن الرغبة في التعبير من خلال شكل فني أو أدبي، هي رغبة في الإستمرار في الحياة رغم الحدود والأسيجة الموضوعية أمام الإنسان، أي رغم سقف الموت، وحتمية الزوال ومحدودية الطاقة البشرية في استيعاب تجليات الواقع وتعقيدات العالم … كما أنها تتطلع إلى الأفق الرحب الذي يعطي الدلالة لتجارب الحياة، إضافة إلى إسعافها لنا على فهم الذات وعلائقها المختلفة بما حولها … ومن هنا تغدو الكتابة جزءاً من مغامرة العيش والوجود”. (الكرمل/82/2005)

بهذه الرؤية يأتي التعبير بالكتابة عند الفلسطيني الذي يحاول دائماً في أعماله الإبداعية إحياء الذات الجمعية التي يحاول الآخرون تغييبها. يأتي المكان عنواناً للذات الجمعية بالنسبة للفلسطيني وخاصة اللاجئ الذي فقد المكان وأصبح مشرداً، فالمكان بالنسبة له ليس قطعة من الأرض منبسطة أو جبلية أو صخرية، بل هو الذاكرة والتاريخ، فكل قطعة من أرض فلسطين تعبر عن تاريخها الممتد عبر الزمان، وتعبر عن وجودها الجغرافي بما حفظته من معالم الجغرافيا، وتعبر عن حياة السكان الذين رحلوا والذين ما زالوا على أرضهم يحافظون على ما تبقى من وجودهم.

بعد ما يزيد عن سبعين عاماً من النكبة ما زال الفلسطيني يعيش ذكريات القرية التي سلبت منه بقوة السلاح والارهاب عام 1948، وما زال يحلم بالعودة إليها. وثمة العديد من الروايات التي كتبت عن النكبة وما قبلها عن حياة السكان وتهجيرهم، فلم يهجر الفلسطيني ذاكرته وذكرياته، ففي كل وقت ومناسبة يسعى لرسم معالم القرية وتفاصيلها وبيوتها وشوارعها وحواكيرها ونباتاتها وأشجارها وحيواناتها، لم يترك اللاجئ الفلسطيني شاردة أو واردة في ذكريات القرية إلا وذكرها للأجيال القادمة لتعميق الانتماء، حتى وصل الحال ببعض الأجيال التي ولدت في المهجر، وقد تمكنت من زيارة قريتها أن تسير على أرضها وفق ما خزنته ذاكرتها من حكاوي الأجداد والآباء عن قريتهم.

بين أيدينا الرواية العاشرة “زرعين” للكاتب صافي صافي صاحب الباع الطويل في كتابة الرواية الفلسطينية التي بدأها منذ عام 1990 برواية الحاج اسماعيل، وبعدها الحلم المسروق، والصعود ثانية، واليسيرة، والكوربة، وشهاب، وسما ساما سامية، والباطن، وتايه، وفي عام 2021 صدرت رواية “زرعين” عن دار الشروق برام الله. الروائي الدكتور صافي اسماعيل صافي أستاذ الفيزياء في جامعة بير زيت، من مواليد قرية بيت اللو في رام الله، لعائلة مهجرة عام 1948 من قرية بيت نبالا قضاء الرملة، عضو الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، وعضو هيئته الإدارية من 1992- 2005. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات الثقافية والعلمية، ومن يتابع صفحته على موقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) يجد أمامه رحالة بين ربوع الوطن يخلد بالصورة وبالكلمة كل معلم من قرى فلسطين.

رواية “زرعين” رواية فريدة في مضمونها ملتبسة في دلالاتها، تروي أحداث رحلة تبدو للوهلة الأولى أنها رحلة إلى إحدى القرى الفلسطينية، وهي كذلك، تبحث في تاريخها وجغرافيتها، وتبرز معالمها التي اندثرت أو ما زالت قائمة، ولكن حين تسبر أغوارها تجد نفسك أمام رحلة روائية تجسد المكان، ولكنها في ذات الوقت تحمل أبعاداً فكرية وفلسفية وسياسية، وتعبر عن دلالات عميقة تحملها اللغة وتطوف بها بين ثنايا السرد، صاغها الكاتب معاً دون أن يشعر القارئ أن ثمة قطع أو فصل بين مضامين السرد، جعلته يواصل القراءة مستمتعاً بجمالية المكان المسرود عنه، إلا أن الرؤية الكلية الجامعة لكل الدلالات المستغرقة بين ثنايا السرد، تشكل رؤية الكاتب لما صاغه من نص روائي، لتعطينا مساراً آخر للرواية مخالفاً لمسار الرحلة.

العنوان والبناء السردي:

يأتي العنوان (زرعين) متوافقاً سردياً ودلالياً مع أحداث الرواية. حيث تشير الرواية إلى سير الأحداث ومكانها “يا سلام ما أحلاكم! وما أحلى مسار اليوم إلى زرعين وجبال فقوعة”. وقرية زرعين إحدى القرى الفلسطينية التي احتلت عام 1948 وشرد أهلها “قرية زرعين تقف على رأس التلة المشرفة شرقاً وغرباً، وعلى مشارف عين جالوت، فهل كان ممكناً أن لا يحتلوها؟ لا طبعاً. هل يمكن أن يتغاضوا عن هذه السهول الجميلة في كل اتجاه، لا طبعاً”. وهي من القرى التي كانت تابعة لقضاء جنين قبل النكبة، وأصبح أهلها لاجئون في مخيم جنين.

بعد أن قاومت القرية ودافعت عن نفسها، جاء ضابط بريطاني وطلب من السكان اخلاء القرية وأن يتوجهوا إلى معسكرهم في جنين فهو فارغ وفي انتظارهم. دلالة على التعاون البريطاني مع الحركة الصهيونية في تهجير سكان القرى، ويعطينا بعداً زمنياً سياسياً لما قامت به بريطانيا طوال سنوات احتلالها لفلسطين، بأن مهدت الأرض لإقامة الكيان اليهودي.

زرعين الواقع والتخيل:

إن قرية زرعين قبل عام 1948 كانت عامرة بسكانها فهي واقع ما زال قائماً في ذاكرة السارد يقول حين وقف على أطلالها: “أرى القرية بساكنيها الذين كانوا حوالي الألفين، بأزقتها، وحواريها، حيث يشرفون من هنا على مزارعهم، ويطلون من هذه النوافذ على شكل أقواس، وأشكال رباعية على نهر الأردن، وعلى عين زرعين التي ما زالت عظيمة. أرى أهلها، وهم ينقلون ثمار مزروعاتهم، ويفرغونها في البيدر، أرى رعاة الأغنام، وأتخيل زرائبها، أرى كبار السن وهم يجلسون أمام بيوتهم، … أسمع صوت يسرى البرمكية وهي تغني، وتدق على الدف في الأعراس والموالد. إني أرى القرية بكامل حيويتها وطاقتها، وأراني جزءاً منها”، ما زالت الذاكرة مفتوحة على تخيل المكان وجمالياته. يرسم معالم المكان بكل تفاصيله السهول والهضاب، والوديان والصخور، والنباتات والأشجار، والينابيع والآبار، وأسماء العائلات، فما زال المكان ينبض بمكوناته رغم غياب السنين، فاذا استطاعوا أن يغيبوا السكان فما زالت أثارهم باقية في المكان، وتشهد على وجودهم الحجارة المتراكمة، والأزهار والنباتات التي ما زلت تنمو لتجدد ذكرى الذين احتضنوها في يوم من الأيام.

فهو ابن هذا المكان الذي لا يمكن أن يتنازل عنه، مهما أحدث المحتل من تغيرات على أرض القرية، حيث قام بإنشاء مستعمرة يزراعيل على أرضها (الاسم مستمد من التراث الكنعاني)، وأقام المنتزه فوق موقع المدرسة، هي تغيرات مرفوضة من طرفه وغير معترف بها. ورغم ذلك ما زال الإيمان راسخاً بعودتها “المهم أن تعود، وستعود، ليس بالضرورة كما كانت، يمكن أن تكون أجمل. بالتأكيد ستكون مختلفة”. لأن الحياة تغيرت ورؤية الأجيال الجديدة أيضاً تغيرت.

أما البناء السردي، تأخذ الرواية الشكل الدائري، حيث يكون مفتتح الرواية هو استكمال للنهاية. لقد كانت بداية الرواية من انطلاق الحافلة “انطلقت الحافلة كالعادة، دعاء السفر، آيات من الذكر الحكيم، وموعظة حول التعلق بالله الواحد الأحد …”، وهذا تقريباً من منتصف الرواية، لتستمر الرواية بعدها حتى نهايتها، ويتأزم موقف الفريق في الاشكال الذي وضعهم فيه جمال، بجلب الشرطة الاسرائيلية إليهم لكي تنقذهم من المأزق، ثم يعود من الصفحة الأولى للرواية لكي يستكمل الأحداث يقول: “في نهاية المسار، وبعد أن تأكدنا أننا نجونا .. حاولت أن أخلو بنفسي وأنا أكمل المسار نحو الحافلة”، وذلك باستخدام تقنية الاسترجاع (الفلاش باك) في سرد الأحداث.

إن السارد الذي يمنح شخصياته فرصة الحكي هو سارد ديمقراطي، حسب الناقدة يمنى العيد. ولكن ساردنا هيمن على السرد بشكل كامل، إلا قليلاً، فهو لا يكتفي بوصف الشخصيات والتعريف بها، بل ينقل على لسانها ما كان يمكن للشخصية نفسها أن تتحدث به، مثلاً: يتحدث أبو نهاد عن قريته ونضالها من خلال عيني السارد، ثم ينتقل إلى أبو نهاد مباشرة في الحديث، قال أبو نهاد، يتحدث عن هجرة القرية، .. ما زال أبو نهاد يتذكر القرية جيداً. ورغم ذلك كان أحياناً يفتح حواراً ذاتياً مع نفسه في مناجاة داخلية، ليطرح بعض الأسئلة أو يعلق على موقف ما. أو يدير حواراً فردياً مع إحدى الشخصيات ويتحاور معها في موضوع ما، كالحوار الذي فتحه مع أبو ماهر حول بيت جد حنان في بيسان، أو يدخل في حوار جماعي كالحوار الذي جرى بين أعضاء الفريق حينما علقوا على التلة، أو الحوار بين الحاج إبراهيم والشيخ محمد حول موقف أبو ماهر من حرق جثة والده ونقلها لقبر جده، ولكنها جميعها من خلال عيني السارد. فالسارد وفق تقنيات الرواية الحديثة هو السارد العليم بكل شيء.

ومن تقنيات الرواية الحديثة التي استخدمها الكاتب، تقنية التواصل عبر الفيس بوك مع حنان، والتي من خلالها وصل إليها بعد سنوات طويلة، وأصبحت أداة التواصل بينهما.

وكذلك تقنية التلاعب في الزمن، حيث نجد في هذه الرواية زمنين: زمن ثابت يرتبط بزمن وقوع الأحداث “لم يكن الفصل ربيعاً رغم اقترابه، فنحن ما زلنا في الشتاء” أي أن زمن وقوع الحدث في أواخر فصل شباط. أما الزمن السردي لترتيب الأحداث فهو زمن متغير أو موزع على مساحة الرواية، حيث نقرأ عن حدث في زمن، ثم لنعود ونقرأ استكمال الحدث في موضع آخر.

المكان وبناء الأحداث:

يقوم بناء الأحداث على وصف رحلة لاستكشاف معالم المكان وهو قرية زرعين، وقرى أخرى (فقوعة وجبالها، عمواس، ومدينة بيسان)، ومن خلال مسار الرحلة نتعرف على العديد من أسماء القرى أثناء تحرك الحافلة منطلقة من القدس “قطعنا فيها المسافة، بين قرى لفتا على اليسار، وقرى بيت اكسا وبيت سوريك على اليمين، بيت نقوبا، أبو غوش، ساريس، دير اللطرون، فعمواس، جمزو ودانيال، فالحديثة، فبيت نبالا، فدير طريف، فالطيرة، فمجدل صادق”. لقد نجح الكاتب في إحياء ذاكرتنا، وتعميق الانتماء إلى هذه القرى، وجعلنا نسير معه عبر مسارات المنحدرات والجبال والتلال والسهول والآبار، وأن نكون ضمن اللوحة الفنية التي رسمها للمكان بكل تفاصيله ومعالمه من أشجار ونباتات وحيوان وحشرات، وطرق وبيوت كانت مسكونة بأهلها. كأن السارد واقفاً أمام باب الجنة يصفها بكل أمانة وصدق، فهي كانت الجنة بحق، فقرية عمواس بالنسبة لأبو نهاد هي الجنة، وبيسان بالنسبة لحنان هي الجنة، فأرضنا جميعها هي الجنة.

لقد رسخت اللوحة عمق الإيمان بالمكان، واعتزاز السارد بوطنه، وقوة انتمائه لهذه الأرض. رغم أنها رحلة في مضمونها البسيط لاستكشاف معالم القرى والتغيرات التي جرت عليها، وما تبقى منها بعد ما يزيد عن سبعين عاماً من الهجرة، إلا أنها تتضمن دلالات عميقة في مسار الواقع السياسي بعد اتفاق أوسلو الذي تنازل عن العديد من هذه القرى، لذا يحاول السارد إعادة بناء المكان وإحياء ذكراه رداً على من سعوا لتغييب المكان. هذا ما نقرأه في حوار السارد مع حنان حين تقول: “نحن كغيرنا نود أن نعود إلى مدينتنا، ونعيش بين ربوعها، فكرت أن انضم لحركات المنظمة، لكنهم يطرحون اسم أريحا، وحين يقولون شبراً شبراً، يشيرون لمدن الضفة، أما بيسان، فتسمع اسمها في الأغاني، وفي أسماء بعض البنات، إنهم يريدونها ذكرى، وهل رام الله والقدس أهم من بيسان”.

هنا بدأ السارد يفهمها، ويريد من القارئ أن يفهم، وقد حدد مساره هو المحافظة على الذاكرة حية للأجيال القادمة من خلال الصورة والكلمة عن تلك الأماكن التي تخلى عنها اتفاق اوسلو “في كل مرة أشعر أن هذا هو المسار الأول، لأروح أتعرف على المواقع والقرى المهدمة … فهذه قرية أمي، وهذه قرية أبي، وهذه قرية أصدقائي، وهذه قرية أنسبائي”. جميع هذه القرى ما زال أهلها لاجئون في رام الله وقراها أو مخيماتها، وكان يلتقط صور هذه القرى ويهديها لأصحابها “أنا أهتم بالمكان، حتى أن وجود الزملاء يعطل علي التقاط صور المكان، أحياناً أطلب منهم أن يبتعدوا، أو أسبقهم، أو أنتظر حتى يذهبون”. فقد كان شاغله توثيق المكان بالصورة لتصبح مرجعاً للذاكرة ولجماليات المكان، وهدية لأصحاب القرى لكي يحتفظوا بصور بلدانهم من أجل أطفالهم، وهذا ما أرادته حنان من السارد أن يصور بيتهم “بيت الحاج خليل الزرعيني” في بيسان من أجل أن ترى “ظلها في ظلال الصورة، وستورثها لأحفادها كما قالت، فالعيش مع الظلال أفضل من دونه”.

لقد كانت الرحلة خلفية لرؤية سياسية منبثقة من اتفاق سياسي جائر بحق اللاجئين الفلسطينيين، ولإيمان راسخ لا يتزعزع بحق الفلسطينيين في المكان، ونفي الرواية التوارتية اليهودية الاسرائيلية عن المكان، بأن الرب وهبهم هذه الأرض. فهذا المؤرخ الذي يتحدث الانجليزية يقرأ التاريخ كما يريد دون أي استناد علمي، يتحدث عن معركة توراتية للملك شاؤول في جبال فقوعة. ويشاهدون على أرض زرعين مجموعة من أطفال المدارس يقوم معلمهم بتزييف الحقائق التاريخية والجغرافية أمامهم، ولكن حشرة البرغش لم تسمح لهم بالاستفاضة في كذبهم فهربوا من المكان، وهي حشرة تستوطن المكان منذ زمن أصحابها، فدافعت عن مكانها أمام كذبهم، فكيف حال الفلسطيني صاحب الأرض والمكان، فهي السخرية النابعة من الألم. ويناقش السارد مع أبو ماهر عن عدم قدرتهم على تحمل البرغش، فيؤكد له أن الأعداء ليس لديهم قدرة على التعامل مع المكان مثلنا، رغم أنهم يعيشون منذ سبعين عاماً إلا أنهم لا يعيشون في المكان، فلا نجد بينهم رعاة أغنام أو أبقار مثلنا، ولا ينامون على السطوح بل في شقق عالية. هذا دلالة على عدم انتمائهم للمكان/ للطبيعة. كما أن كل الأماكن التي ذكروها في التوراة هي موجودة قبلهم، فهم لم يبنوا مدينة واحدة. وينطلق تزييف التاريخ من منطق القوة، كما يقول أبو ماهر للسارد: “الأمر يتعلق بالقوة، وعليها تصوغ تاريخك، تبرر فيها قتل الآخرين، ومصادرة أرضهم، وطرد الباقي خارج البلاد”.

لقد حدد فريق الرحلة مسارة بأن لا تعاون أو تطبيع مع الاحتلال، فهم أعداء، ولا يمكن الاستعانة بهم، وهم يرفضون خلال رحلتهم التجول في أسواقهم، أو الشراء من بقالاتهم، أو الدخول إلى مقاهيهم، بل يعتمدون على أنفسهم في طعامهم وشرابهم، حتى القهوة تأتي معهم، وقد رفضوا دخول حديقة عين جالوت حين طلب منهم ثمن تذكرة الدخول.

الشخصيات وحبكة الرواية:

تنطلق الرحلة من خلال فريق ضم عدداً يصل إلى خمسين شخصاً، ولكننا نتعرف على عدد منهم يمثلون الشخصيات الرئيسية في السرد الروائي (السارد/ حنان، جمال، الحاج إبراهيم، أبو نهاد، أبو ماهر، غسان، الشيخ محمد). جميعهم من أماكن متعددة، بعضهم يحمل هوية اسرائيلية، والسارد يحمل هوية ضفاوية، وأبو ماهر قادم من الأردن، ولكنهم جميعاً تجمعهم الهجرة واللجوء، ولكل منهم قرية مهجرة، ولكل واحد منهم هدف من المشاركة في الرحلة.

تبرز حبكة الرواية من خلال عقدتين وهما: العقدة الأولى، المأزق الذي أوقعه جمال بأعضاء الفريق حين اتصل بالشرطة لإنقاذهم. والعقدة الثانية، هي محاولات السارد الوصول إلى بيسان وتحقيق أمنية صديقته حنان في تصوير بيت جدها. نحاول استيضاحهما بقراءة الشخصيات نفسها، فهذه الرحلة تجمع بين الأجيال، جيل الشباب وجيل كبار السن.

= جمال: شخصية غريبة الأطوار، يمثل فكراً سياسياً يتجنى على العرب، وهو الفكر الاسلامي السياسي، الذي عبر عنه خلال حديثه في الحافلة، وهو أيضاً الذي يعلن آذان العصر ويقيم الصلاة، ويطرح فكرة الإمارة على الفريق، ولكنه اجتماعي بطبعه، بوجهه البشوش، يظهر تعاوناً فوق العادة، مليح القوام، يظهر عليه بقايا مرض مزمن، يعمل مساعداً إدارياً في مدرسة تابعة لوزارة المعارف الاسرائيلية بالقدس. كان يصور المناظر الطبيعية، ويتحدث عن الفائدة التي يجنيها المتابعون من صوره، ويفتخر بعدد المتابعين لمنشوراته، ويبذل جهداً كبيراً لإتقانها لذلك اشترى كاميرا طائرة لهذا الغرض، ويأمل أن يتقاضى أجراً مقابل النشر المتواصل. ولكنه كان يختار ما يصوره، فقد كان يغلق الكاميرا حين تكون الصورة ليست على مزاج المتابعين، مثل حفلات الغناء والدبكة، أو مراسم دفن والد أبو ماهر، ويبحث عما يثيرهم مثلاً عن أفعى كبيرة بين شقوق الجبال. فهو لا يهتم بتوثيق المكان بل بما يجنيه من تصوير المكان.

هذا هو تفكير الجيل الجديد الذي يمثله جمال في دلالات الصورة وأهميتها، وهو جمع أكبر عدد من المتابعين، والثمن الذي يتقاضاه من نشر الصورة. في حين لو قابلناه مع موقف السارد من الصورة نجده على النقيض.

يحاول أن يفرض نفسه كقائد للفريق، من خلال حديثه في ميكرفون الحافلة عن القرى المهجرة والتعريف بها، وتوليته الاشراف وتنظيم الفريق، فهو مساعد للحاج ابراهيم الذي يرسم الخطة، وجمال ينفذها، لذلك فهو أمام شخصية الحاج ليس له كلمة بل صورة باهتة، إنما يستغل قربه من الحاج لكي يفرض آرائه. فقد “أخذ مكانته من خلال الحاج إبراهيم الذي كرمه يوماً بدرع الرجل المثابر على المسارات رغم مرضه”.

تصرف من تلقاء نفسه بالاتصال مع الشرطة الاسرائيلية لإنقاذ الفريق. بعد أن وقع الفريق في مأزق خطير على التلة حيث المنحدر العظيم، وكان الانزلاق يعني السقوط نحو مائة متر للأسفل. لم يستطع جمال انقاذ الموقف أو يستمع لنصيحة الحاج إبراهيم في مساعدة الفريق على النزول، بل أصر على موقفه أنه ينتظر الشرطة لتخلصهم، وحين جاءت لم تفعل شيئاً، بل تركتهم ينزولون من تلقاء أنفسهم، ثم أخذت تحقق مع كل واحد منهم، وكان هدفهم معرفة من هو قائد الفريق، فأنكر الكل أن للفريق قيادة بل كلهم سواسية قادة وجمهور، وحينما سألوا جمال قال: “أنا ضعت، لم أجرب المسار من قبل”، وهذا دلالة على عدم خبرته في الحياة والسياسة.

إن دلالة الموقف تعبر عن شعور الجيل الجديد بالعجز، وعدم قدرته على الاعتماد على نفسه في مواجهة المخاطر، “لم أستطع مساعدة نفسي، فكيف يمكن مساعدتكم، كنا هناك، ضاع الأمل بالنجاة”. لذلك يستعين بالآخرين لإنقاذه حتى وإن كان عدوه، هذا الموقف السلبي لم يعجب الآخرين من كبار السن، والسارد الذين يرفضون مساعدة الأعداء، ويفضلون الاعتماد على أنفسهم.

ولكي يثبت جمال أنه ليس عاجزاً بعد تورطه، يرفض مساعدة الحاج إبراهيم في انقاذ الفريق، وهذا دلالة على الصراع بين جيلين على قيادة الفريق، وعلى الموقف من التعامل مع المحتل، في حين يرفض الحاج إبراهيم التعامل مع شرطة الاحتلال، نجد جمال لديه استعداد وقابلية للتعامل على اعتبار أنها واقع.

= الحاج إبراهيم: هو قائد الفريق، مفتون بجمال الطبيعة، ولا يكل ولا يمل من التغزل بالطبيعة، رغم أنه زار العديد من البلدان الأسيوية والأوروبية المعروفة بجمال طبيعتها، إلا أنه لا يجد أجمل من طبيعة الوطن، فكان يردد دائماً “ما أجملك يا بلادي”، “ما أحلى هذه الطبيعة”، “ما أجمل ما أهدانا الله في هذا الكون”، ويردد دائماً الأغاني التراثية والمحفزة للفريق الذين يصفهم بالأبطال.

رغم محاولة جمال تحميله مسؤولية الاستعانة بالشرطة لأنه تخلى عن الفريق، وهي محاولة من جمال لتبرير موقفه المستنكر من جميع الفريق، إلا أن الحاج إبراهيم لم يتخل عن الفريق في مأزقه، فقد أرسل لهم السلامين أكثر من مرة لمساعدتهم على النزول، إلا أن اصرار جمال على عدم نزولهم، وأنهم تحت مراقبة الشرطة. وحين جاءت الشرطة أراد الحاج أن يثبت لهم أن كل الأمور بخير، ولا يوجد شيء يستدعي وجودكم، فأخذ بالغناء والرقص والكل يشارك. ودفع بالسلامين لإنزال الفريق.

أما موقفه من جمال فقد كان صلباً وحازماً، فقد وقف جمال أمامه ممتقع الوجه، يحاول أن يتقرب إليه، إلا أن الحاج أشاح بوجهه عنه، دلالة على غضبه مما فعله وعدم موافقته على تصرفه.

= أبو ماهر: لم يكن أحد يعرفه مسبقاً من الفريق، إنما تعارفوا خلال الرحلة، اسمه محمود الشلبي، لا يحمل هوية فلسطينية ولا اسرائيلية، هو مجرد زائر جاء من الأردن، وله أقارب كثر في مخيم جنين. بعد هجرتهم عام 1948 سكنوا مخيم جنين، وبقوا فيه حتى حرب حزيران عام 67 فهاجروا إلى الأردن، وسكنوا مخيم اربد، التحق والده بالمقاومة، وشارك في معركة الكرامة، ثم سافر والده إلى اليونان على أمل الحصول على جنسيتها. بعد حرب ال67 بسنوات، زار والده قرية زرعين واصطحب ابنه محمود (أبو ماهر) معه، ووقف على معالم القرية، ووقف على قبر أبيه وبكى، وأوصى: “تدفنوني هنا، في القبر، أو بجانبه”.

كان كتوماً لا يتكلم مع أحد، وشبه منزو عن الفريق، وأحيانا ينخرط في قلب الفريق. يتفقد حقيبته بين فينة وأخرى، بقايا دموع في عينيه تجف ثم تسيل مرة أخرى.

سلك الفريق طريق اليمين نحو المنتزه، أما هو فذهب باتجاه المقبرة لأنه كان يحمل رفات والده الذي توفى في اليونان. اقترب الفريق من المقبرة الشرقية في زرعين حيث كان يجلس بجانب قبر جده، وكان رطباً، فقد دفن لتوه رماد والده، ويقف الشيخ محمد ويطلب من الفريق صلاة الجنازة على روح المرحوم ماهر محمود الشلبي. وعندما يسأله الحاج إبراهيم عن مسألة موقف الدين من حرق جثة المسلم، يقول الشيخ محمد: الضرورات تبيح المحظورات.

لقد كان هدف أبو ماهر من الرحلة هو دفن رماد جثة والده التي تم حرقها لكي يسهل نقلها عبر المعابر والحواجز، ووضعها في وعاء بلاستيكي من اليونان إلى عمان، إلى رام الله إلى معبر قلنديا، وصولاً إلى زرعين. لكي يحقق وصية والده أن يدفن في قبر والده في القرية، وبعد موته لم يكن أمام ابنه إلا تنفيذ وصيته، وإن تخطى في ذلك حدود الدين. وهذا دلالة على تمسك الفلسطيني بوطنه الذي سلب منه، فإذا لم يتمكن من العودة، على الأقل يجد له قبراً في أرضه لكي يبعث من تراب الوطن وليس من تراب الشتات واللجوء.

كان أبو ماهر أشد أعضاء الفريق رعباً حين شاهد الشرطة، بعد المأزق الذي أوقعهم جمال فيه، لاعتقاده أنها كشفت أمره في نقل رفات والده، وأخذ يهذي مع نفسه، ويبدي ندمه على اتباع جمال ومرافقته، فقد ظن أنه طريق النجاة بعد أن سمعه في إذاعة الحافلة يلقي دروساً عن زرعين وجبال فقوعة، ويساعد قائد الفريق، ويسجل أحداث الرحلة، فاعتقد أنه خبير بها فاتبعه حتى وإن ضاع. فهو مجرد قادم جديد إلى فلسطين من الأردن، ليس لديه خبرة بالرجال والأماكن.

لذلك لم يود المواجهة أو الاصطدام مع الشرطة خوفاً مما فعله، فكان موقفه سلبياً، حاول تجنب الشرطة، ولكنه لم يعاندها حتى لا ينكشف أمره، وقد أمسكه الشرطي وساعده، وحين سأله الشرطي أسئلة تظاهر بالتعب والارهاق، وارتكز على كتف الشرطي وعلى الحاج إبراهيم حتى نزل المنحدر، وعندما نادى الشرطي أن سياراتهم جاهزة لنقلهم، ركب معهم السيارة، وشرب الماء، وأكل بسكويت منهم، وبقي معهم حتى أوصلوه إلى الحافلة.

لقد تناقض موقف هذا القادم من الأردن إلى فلسطين، الذي لم يعش على الأرض الفلسطينية، مع موقف المتجذرين في الأرض، الذين يرفضون التعامل مع شرطة الاحتلال وجيشه، الذي يقمع ويقتل ويعتقل الفلسطيني، في حين كان همه أن ينجو بنفسه، دون أي تحمل للمسؤولية أمام الأخرين.

= أبو نهاد: رجل كبير في السن، في الخامسة والسبعين من العمر، يمشي ببطء، وجمال يحاول أن يساعده بناء على طلب الحاج إبراهيم، يجلس كثيراً للاستراحة ويدخن سيجارة. طويل القامة، أبيض البشرة، قريب إلى الشقار، حليق الذقن، حسن الهندام، يرتدي ملابس رياضية. هو من قرية عمواس المهجرة، سكن في راس العامود بالقدس، يعمل تاجراً في المصرارة، وظل مستأجراً شقة طوال هذه السنوات، لم يبن بيتاً، وظل يحن للعودة إلى قريته.

قرية عمواس هجرت ودمرت في حرب حزيران عام 1967 مع عدد من القرى في منطقة اللطرون وهي يالو وبيت نوبا، هجر سكانها إلى رام الله ومخيماتها. حين وصوله مع الفريق إلى القرية قال لهم: “أنتم تعيشون الآن في الجنة”، ولكنها لم تعد مسكني، فقد خربوها، ولم يبق فيها غير نبع الماء وما حوله من أشجار، ومقام سيدنا أبو عبيدة الجراح، وأخذ أبو نهاد يروي ذكرياته عن القرية التي ما زالت عالقة في ذهنه رغم سنين الهجرة الطويلة، ما زال “يرى فيها كل شيء، يرى الحقول والآبار، (يسرد أسماء الآبار)، … يرى بقايا البناء، راح يتذكر شبابها، ورجالها، ونساءها، وصباياها”. ما زال يتذكر أسماء الموتى في قبور القرية، وأسماء أصحاب البيوت، وبيته القابع بين الأشجار، ويتذكر دفاع الثوار عن القرية، وهجرة أهلها وعودتهم إليها إلى حزيران 67.

لقد شعر أبو نهاد على أرض عمواس بشبابه، وأنه ما زال لديه القدرة على تسلق شجرة الخروب، فتزحلقت قدمه، ووقع على الأرض، وحين أراد غسان أن يقطف ثمرة منها كان حريصاً على توصيته أن لا يكسر أغصانها، فهي شجرتنا. هذا هو الفلسطيني الذي ما زال مؤمناً بحقه في المكان/ الأرض مهما طالت السنوات، ويخاف على أشجارها وثمارها، كأنه يعيش فيها ويأكل من زيتها وزيتونها وتينها وعنبها.

كان يحلو له أن يتعرف على بعض النباتات التي لم يرها منذ عقود، وهو يطوف على أرض زرعين، ويقول: “إن البلاد كانت أجمل، فكل أهالي البلاد كانوا يعيشون بين هذه السهول، وكانت تستخدم لزراعة الحبوب أيضاً، ألا ترى أن هناك طرقاً عريضة تفصل الأرض عن بعضها، ألا ترى أن القطار يشوهها، لقد كانت أجمل، الأرض أجمل بأهلها. هؤلاء مجرد مستأجرين مؤقتين من الدولة، يحاولون استغلالها إلى أبعد حد، لا ينتمون لها، ولا تنتمي لهم”.

وحين يشعر بالحنين إلى عمواس كان يأتيها لاستعادة روحه وروحها، ويأتي إليها الشباب، ويغرسون لافتات تبين معالمها، ومنها لافتة على بيتهم، وهذا ما دفع الحاكم العسكري إلى استدعائه للتحقيق حول اللافتة، وبعد نقاش مع الحاكم يؤكد أحقيته في المكان، فيرد عليه الحاكم: “كنت من هناك، نحن هناك، ونحن هنا”، فيقول له أبو نهاد: أنا من هناك ومن هنا، وأنت من هناك .. هناك”، فيقول الحاكم: “ربنا أعطانا الأرض”، فتأتي سخرية أبو نهاد: “وهل ربكم فاتح دائرة طابو”. فيرد الحاكم: “إذا تغلبتم علينا اطردونا، واقعدوا مكاننا، وسموها ما شئتم”.

تلك هي الحقيقة، فالرواية الاسرائيلية زائفة، وتعتمد على منطق القوة في فرض منطقها الديني والسياسي، فهم امتلكوا القوة، فهجروا أهل المكان، وكتبوا تاريخاً مزيفاً للمكان، ولن تعود إلا إذا امتلكنا القوة.

حينما وقع الفريق في مأزق جمال، وكان أبو نهاد أحدهم، نجده يستسلم عند شعوره بالبرد، وبدأ جسمه يرتجف، فخاف من الموت “لا أريد أن أموت هنا، أريد أن أموت بهدوء. لتأتي المروحية، ليأتي الشيطان، وينقذني من الموت”. يحاول أن يبرر موقفه أنه لا يريد الموت في هذا المكان رغم جماله، ويعبر عن تمسكه بقريته والموت على أرضها “لو كنت في قريتي عمواس، لقلت لكم: اتركوني هنا لأموت، كل منا يختار جنته، وجنتي ليست هنا، رغم جمالها. أريد أن أرجع إلى بيتي في القدس، وأموت هناك”.

تبقى من الشخصيات التي كان لها دور في سرد الأحداث، ولكنها أدوار بسيطة، شخصية غسان، والشيخ محمد، وهما شخصيتان متناقضتان على المستوى الفكري والسياسي.

= الشيخ محمد: رجل دين تقليدي يعبر عن آراء دينية يكون أحياناً غير مقتنع بها، وقد كان إمام المصلين لرماد المرحوم والد أبو ماهر، ويبرر الحرق للجثة. يتهم العرب بضياع فلسطين حينما يشاهد سلسلة جبال فقوعة، فيذكر أنها من الصعوبة أن تسقط عسكرياً، فهي قد سلمت من العرب، ومنهم الجيش العراقي، وأننا ضحية مؤامرات، ولن يحرر فلسطين القادة الوهميون في الوطن العربي، بل المحرر من غير العرب ربما من تركيا أو غيرها.

= غسان: يتصدى لهذا الموقف غسان ابن الحركة الوطنية، والعامل في إحدى مؤسسات القدس التوثيقية، ويدافع عن الموقف العربي وخاصة الجيش العراقي، مؤكدا أن شواهد قبور الأعداء (على جانبي طريق جبال فقوعة تنتشر نصب تذكارية تحمل أسماء الجنود الذين قتلوا باللغة العبرية) دليل على خوض معارك كبيرة، وأنهم لم يستسلموا بسهولة، وأن قبور الجيش العراقي في جنين ما زالت شاهدة على دفاعهم.

إن الفكرة من طرح تلك الرؤيتين في السرد الروائي دلالة على ما يتفاعل داخل المجتمع الفلسطيني من رؤى تحاول أن تنفي عن الفلسطينيين والعرب دفاعهم عن فلسطين، لتثبيت حقائق تاريخية جديدة ذات بعد ديني مستمدة من زمن صلاح الدين، أن تحرير فلسطين لا يأتي من خلال العرب بل من غير العرب المسلمين، أي أن الاسلام أو المسلمين هم الذين سيحررون فلسطين.

= السارد/ حنان: السارد ليس ثمة تعريف عن نفسه، غير أنه يجمل هوية ضفاوية، ويعد الشخصية المركزية في السرد، فهو ليس أحد الشخصيات، بل هو المحرك الرئيس لكل الشخصيات في مسار الأحداث. ويمثل دور المثقف الذي يطرح الأسئلة ويناقشها مع نفسه، ويعبر عن موقفه من القضايا المرتبطة بالرحلة.

في قضية المأزق الذي أوقعهم جمال فيه على التلة. يقع في تناقض بين اتباع أوامر جمال الذي أمر نفسه، وبين طلب الحاج إبراهيم المساعدة في النزول، لم يشأ أن يسبب بحرج لأي منهما، يقول: أرى نفسي عاجزاً عن اتخاذ قرار بسيط بعد أن كاد جمال يتعارك مع مندوب الحاج، لحظات انتظار، انتظار قرار الحاج، قرار جمال، قرار الشرطة، ومشاركتنا الباهتة في القرار”. دلالة هذا الموقف يعبر عن عجز السارد في التعبير عن رأيه رغم رفضه لسلوك جمال، إلا أنه استسلم لإرادته، في دلالة على خوفه من شق الفريق، ولا يريد أن يكون طرفاً في الانقسام، لذا وقف على الحياد. ولكن موقفه كان حازماً في رفض التعاون مع شرطة الاحتلال أو ركوب سياراتهم، بل تحامل على نفسه رغم اصابته وواصل سيره مشياً حتى الحافلة. وقد حدد موقفه بعد انتهاء المأزق، بأن انحاز إلى موقف الحاج إبراهيم، فعندما جاء إليه جمال ليشرح موقفه يقول: تطلعت نحوه مرة أخرى، وأنا أود أن ينتهي حديثه بأسرع وقت، وحاولت أن أقترب من الحاج إبراهيم”.

لقد كان للسارد مثل الآخرين هدف من الرحلة، وقد كشف عن هدفه قائلاً: “أما أنا فأسلك هذا السبيل بموافقة الفريق، علني أصل بيسان، بيسان القديمة، وأستطيع تصوير بيت الحاج خليل الزرعيني، وأرسله لحنان، فهي لا ترى في فلسطين إلا بيسان بلدة جدها، وأبحث عن أثر الصورة المعلقة على مدخل البيت”.

هذا التعريف يمثل ملخص حكاية السارد ودوره في الرحلة، الوصول إلى بيسان وتصوير بيت عائلة صديقته حنان. هذه الحنان ليس شخصية في مسار الرحلة، بل شخصية في ذهن السارد، ومن خلالها تتشكل رؤيتنا إليها في سرد الأحداث. هو زميلته منذ أيام الدراسة الجامعية، وكان بينهم لقاءات متعددة، وقد أحبها بشغف، ولكن لم يجرؤ أن يتقدم لخطبتها، فقد صدمته إجابتها عندما سألها عن صفات الرجل الذي سترتبط به، إذ قالت: “أن يعيدني إلى ثرى جدي”، فليس مهما الحب بالنسبة لها، إنما المهم قرار أهلها، فهي ملتزمة بإجماع أهلها، تقول ذلك وهي غير مقتنعة. لكن دلالة طرحها وتناقضها نابع من الظروف التي يعيشها الفلسطيني بعد الهجرة، فالنكبة قد فرضت عليه أشياء لا يقبلها.

في لقاء السارد مع صديقة حنان أوضحت له موقف حنان من عدم الارتباط به، ليس لأنه غير مناسب، بل لأنهم رسموا صورة حياتهم على جمع العائلة لا تفتيتها، فهي مريضة بمرض أهلها، فأبوها يرفض تغريب بناته، ولا يود أن يتوزع أحفاده، كما فعلت بهم النكبة، ولا يود أن يعيش على أمل جمع الظلال، فأنت بالنسبة لهم ظل، ربما تساعدهم، لكنك لست جزءاً من الصورة، وهم يعيشون على أحلام مدينتهم وظلالها.

حنان شخصية جميلة ذكية واعية واثقة من نفسها، تعشق بلدها بيسان لدرجة العبادة، تحفظ أدق التفاصيل عنها، رغم أنها لم تولد على أرضها وتعش فيها، بل تعيش في إحدى البلاد العربية، وتشعر بغربتها كلما التقت بأحد من فلسطين. أهلها ما زالت بيسان تعيش في داخلهم، فالصور المعلقة على الجدران هي صور المدينة، وصور جدها وأعمامها، وأثاث بيتهم لونه أخضر كلون مدينتهم، وهذا دلالة على قوة إيمان الفلسطيني بوطنه ومدينته، حتى وإن كان يعيش على بعد آلاف الكيلومترات عنها، فهو ما زال متمسكاً بهويته “لا تمر لحظة دون أن أشعر بهويتي”.

وقد وصل الحال بحنان أن تفكر بالالتحاق بمجموعة فدائية وتستقل طائرة وتهدده بأن يهبط في بيسان، من شدة شوقها لرؤية مدينتها، وحين طرحت الفكرة على والدها، قال: “لو كان ذلك ممكناً لقمت أنا بذلك … انسي الفكرة هذه، دعينا نحمل مدينتنا معنا، كما نفعل إلى أن يفرجها الله”. هذا قدر الفلسطيني اللاجئ أن يحمل مدينته كأنها حقيبة سفر ترحل معه في كل مكان يحل فيه، دون أن يتنازل عنها أو يفرط بحبة تراب من أرضها. لذا كان اتفاق أوسلو خيانة لأحلامهم، وقد عبرت حنان عن هذه الخيانة بوضوح قائلة: “نحن كغيرنا نود أن نعود إلى مدينتنا، ونعيش بين ربوعها … وهل رام الله والقدس أهم من بيسان”.

غابت حنان عنه بعد الجامعة سنوات، لكنه ما زال متمسكاً بوعده لها بالبحث عن بيت جدها في بيسان وتصويره. يتواصل معها عبر الشبكة العنكبوتية، لتجديد الذكرى، ولكن الزمن غير في شكلها، ولكنه لم يغير في تفكيرها، فأول سؤال سألته إياه على الانترنت “هل زرت بيتنا في بيسان”.

كانه أصبح لزاماً عليه تنفيذ وعده، لذا شارك في الرحلة بهدف الوصول، وأخذ يصف ملامح البيت للحاج إبراهيم كما خبره من ذاكرة حنان، فأخذ يصف البيت كأنه لوحة مجسدة بتفاصيلها أمام ناظريه، بما يحتويه من حجارة وأقواس ودرج وصور وبوابة وأعمدة رخامية، والصورة العائلية الموجود في مدخل البيت. إن ذاكرة حنان تمثل ذاكرة كل الأجيال الفلسطينية التي تعيش في الغربة، فقد رسخ الأجداد والآباء في ذاكرتهم تفاصيل المكان، ومعالم بيوتهم وشوارع قراهم، فعاشوا يحلمون بالعودة، وإن لم يستطيعوا على الأقل أن يحصلوا على صورة لبيتهم.

إذا غاب الإنسان من المكان تبقى ظلاله شاهدة على وجوده، والظل هو امتداد الشخص في المكان مهما تعاقبت السنين، وكل إنسان له ظل، أي له أصول لا يمكن أن يتنازل عنها، لذلك الظلال متباينة حسب امتداد المرء. لذا طلبت منه حنان أن يصور الصورة الكبيرة الموجودة عند مدخل البيت إذا كانت موجودة، فالصورة تعبر عن الحضور في المكان، وتؤكد على وجودهم السابق في البيت، مهما حاول الأعداء الادعاء أن البيت لهم. هي تبحث عن صورة عن الصورة الأصلية، فلم تطلب الأصل، بل صورة لكي تبقى ظلالها في مخيلة أطفالها، أما الأصل يبقى في مكانه شاهداً على ظلال وجودهم وأحقيتهم في المكان.

أثناء ركوب السارد الحافلة تمر على بيسان، يحاول أن يصور من خلال النوافذ، ولكن سرعة الحافلة لم تسعفه على تصوير جيد للمكان، فكانت صور مشوشة غير واضحة، وقد جمع ما صوره، وأرسله إلى حنان، فردت عليه أنها لم تجد بيسان في الفيديو، لأن بيسان بالنسبة لها بيت العائلة، وليس البنايات الحديثة.

لم يصل السارد إلى بيسان، ولم يدخل إلى بلدتها القديمة، لأن وقت الرحلة لم يسمح، وما حدث معه من إلتواء قدمه، والمأزق الذي وضعهم جمال فيه، غير من مسار الوقت، فكان وعد الحاج إبراهيم أن تكون زيارة بيسان للأسبوع القادم.

لقد وفق الكاتب في جعل النهاية مفتوحة، وعدم الوصول إلى بيسان، “أمسك الحاج إبراهيم بيدي، وسأل: أما زلت تود أن تزور بيسان. طبعاً. حين تكون جاهزاً سنذهب معاً”. إن الوصول يعني نهاية رحلة، ولكنها لم تكن رحلة فهي خلفية لرؤية سياسية، لذا سيبقى مسار بيسان مفتوحاً، ويبقى الاصرار على الوصول إليها هدف كل فلسطيني، فبيسان رمز للوطن السليب كله، الذي تنازل عنه اتفاق أوسلو.

الرؤية الكلية للنص:

يقول السارد: كنا فريقاً واحداً، ركبنا الحافلة معاً، بدأنا المسار معاً، وغنينا، ورقصنا، لكن طول المسار فرقنا، جعل منا كتلاً متباعدة، لا نقوى على التواصل والاتصال. امتد الفريق على طول كيلومتر، يزيد أو يقل أحياناً، تجمعنا الأحاديث والاهتمامات، أحاديث العمل والانشغال في الحياة، … تجمعنا أحاديث السياسة والمجتمع، والعادات والتقاليد، واهتماماتنا بتعليم أبنائنا في المعاهد والجامعات، تجمعنا صداقات قديمة، أو أصدقاء مشتركين، واهتمامات بمشاريع بحثية وعمل، وهناك من يجمعه مع الفريق روح الفريق والمسار المشترك، فأجد زميلاً ضمن المجموعة، ثم ينفصل وحده بين مجموعتين، لم يكن خياري أن أكون ضمن هذه المجموعة المصغرة، كما غيري، وجدت نفسي هنا، وعلي تحمل المصاعب، كما فرضت علينا”.

تلك قطعة من الواقع الفلسطيني، وليس من واقع رحلة، فقد عبرت عن تغيرات نفسيات الناس في المجتمع بعد أن كانوا فريقاً واحداً. لذا تأتي الرؤية الكلية للسرد نابعة من الدلالات العميقة التي طرحها السارد والتي تشكل رؤية الكاتب لما صاغه من نص روائي. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل الكاتب حقاً أراد من روايته أن تكون رحلة أم ثمة رؤية أخرى أراد أن يوصلها للقاري من خلال الرحلة، ثمة عدة رؤى: رؤية إحياء ذاكرة المكان، وطرح الرؤية الإسرائيلية في تزييف الحقائق استناداً لمنطق القوة، والموقف من استدعاء شرطة الاحتلال لإنقاذهم من المأزق، ولكن ثمة رؤية ما زالت ملتبسة بين ثنايا السرد وهي رؤية المسار الديني الذي يمثله جمال، ويعززه الشيخ محمد، وبروز هذا التيار بشكل قوي بعد اتفاق أوسلو، ودعم قائد الفريق له وتعزيز وجوده.

إن اشكالية الأسئلة التي طرحها السارد بين ثنايا السرد تبقى الأكثر قدرة في التعبير عن الرؤية الكلية للسرد الروائي، فقد كان يطرح الأسئلة عند كل موقف يمر عليه ولا يعجبه التصرف، وهنا تبرز شخصية السارد من خلال ما يطرحه من أسئلة اشكالية يهدف من خلالها إلى تفتيح ذهن القارئ على إجابات لمثل هذه الأسئلة، ومشاركته في الإجابة.

لقد كانت الأفكار المطروحة في المجتمع الفلسطيني هي الدافع لدى السارد لطرح السؤال، حول من يحرر فلسطين العرب أم غير العرب، وطرح التمايز بين الرجل والمرأة، من خلال سؤال هل الصلاة على الذكر تختلف عن الأنثى؟، وقضية الحلال والحرام في حرق جثة المسلم، وغيرها. في إجابته تبرز الرؤى المتباينة في المجتمع، فقد كان تغلغل فكر الاسلامي السياسي في المجتمع الفلسطيني، أدى لبروز الخلافات ومحاولاتهم طرح أفكار جديدة مرتبطة بالدين حتى وإن لم يقتنعوا بها، إنما هي نوع من محاولاتهم للسيطرة على المجتمع، كما فعل جمال حين حاول أن يقود الفريق، واستبعاد قائد الفريق الحاج إبراهيم. ورغم عدم تمكنه إلا أنها إشارات ودلالات لما حدث في المجتمع الفلسطيني لاحقاً.

وفي الختام، لقد عبرت الرواية عن التحولات في الرؤية من الحديث عن النكبة وتداعياتها إلى الحديث عن المكان والتعبير عن جمالياته بعد اتفاق أوسلو، لتأتي الرواية الجديدة أكثر تعبيراً عن الحق الفلسطيني أمام محاولات التغييب، وإنكار الحق، ورداً على الرواية الصهيونية في تزييفها للحق الفلسطيني بدعاوي توراتية باطلة لا تصمد أمام قوة الحق على الأرض الفلسطينية نفسها التي ما زالت شاهدة على هذا الحق، وتشهد مقابرها أن ثمة من مات هنا ودفن هنا من أصحاب الأرض، وما الشواهد والتذكارات اليهودية إلا تأكيداً على ثمة من قاوم وقاتل من أجل الحفاظ على الأرض، وأننا سوف نبقى نبحث عن ظلال الصورة في كل حبة رمل من أرضنا، وحين نمتلك القوة نستطيع أن نحرر المكان ونعيد كتابة تاريخه.

لذا يطرح السارد خوفه من المستقبل حين يطرح على نفسه عدة أسئلة، ويحاول الاجابة عليها بنفسه، ولكنه لا يصل إلى مبتغاه: ما زلت غير قادر على فهم الابقاء على القرى المدمرة. ثم يتساءل عن ابقاء المقابر في بعض القرى، وكذلك على بعض المقامات. يحاول أن يبحث عن إجابة “ربما جعلوها شاهداً، لكل زائر، لكي يعرف مصيره الماضي واللاحق، ويقف عليها ليجتر الماضي ويبكي … هل ودوا تذكير الذين يزورون قراهم بالموت”.

ولكن بكل إجاباته لم يصل إلى إجابة محددة، دلالة على غياب الرؤية بعد اتفاق أوسلو، وضبابية الموقف أو المسار السياسي من قضية اللاجئين، ولكنه استطاع تكون رؤية وهي المهمة في هذه الأسئلة: “لكني أخشى أن نرضي بهذه الوقفات، لنظل نبكي، ونجتر الذكريات التي لم نعشها نحن. هل ودوا أن نظل نبكي ونحزن؟ هل يزيدنا حزننا لو جرفوها؟ ربما أرادوا أن نتمثل في هذه البقايا، فنحن بالنسبة لهم مجرد بقايا”. هذا ما اراده المحتل، سلب الحق، وجعلك شاهداً على هذا السلب دون أن تفعل شيئاً غير البكاء، وهذا ما لا يريده السارد، بل يرد فعل قوي لا أن نبقى أسرى عصا الخرفيش.

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا